■ لم نتوقع أن توجّه بالضرورة الأحداث الساخنة مشروع كتابة مقالات أحادية العناوين، وإن يكن، ففي منحى أقرب إلى المقاربة النظرية للمفاهيم منها إلى التحليل الآني، لوقائع تصب في الاتجاه المعروف والميؤوس منه، ذلك الذي باتت وسائل الإعلام تروي لنا تطوراته على مر نشراتها.
ولكننا اليوم سنخالف المعتاد أو بالأحرى سنخالفه جزئيا… فالأحداث الإجرامية الجنونية التي جرت في البرلمان الكندي قبل أيّام، أحداث في منتهى السخونة فعلا، ولكن خواطرنا ما زالت تحمل من المسافة ما يفصل هذه السطور عن التعقيب الفوري على الحدث الآني.
فمقال هذا الأسبوع رسالة سلام ضاربة في جذور معرفتي بطباع الكنديين، بل محيطهم الطبيعي. معرفة تأتت لي ليس فقط من وجود أحد أفراد عائلتي في كندا منذ أزيد من ثلاثين عاما، ولكن أيضا من إيحاءات ومشاعر تولّدت عن سماعي الكثير عن كندا بحكم إقامة عمّتي فيها.
فلننطلق من حيث لا تحتسب، أيها القارئ، لأذكرك بأنّ كندا بلد الدببة بامتياز! نعم الدببة! وما قد يوحيه الدبّ خاصة الدبّ الصغير – من لطف ونعومة وحنان للأطفال أو لطفل كبير مثل صاحب هذه السطور، قد يتخذ الملامح العكسية تماما متى تغلبت وحشية حيوان هو متوحش أصلا، على طابع الألفة الذي يظهره الدبّ عند الولادة، أو بعد تربية وترويضه في السيرك، حيث يعاني الكثير، أو في حديقة الحيوانات، حيث يعاني أقل، مثلما هو الحال على مسافة امتار من بيتي.
ومثلما قد يكون الحال عندما تتجول في أراضي كندا الشاسعة قبل موسم احتجاب الدببة الشتوي واستغراقهم في نوم عميق…
من خصوصيات الأدب أن يسمح للمشاعر والأحاسيس أن تدخل عالم الواقع، فتقدّم منه وصفا مختلفا، يمرّر فيضا عاطفيا ـ هو من طينتنا كبشر ـ يسقط على الوقائع زاوية نظر أخرى تنتمي إلى لغة القلب، التي هي بدورها من الدواليب التي تهتدي بهديها لغة الأدب.
ولأنّ دببة كندا، فضلا عن تذكيرها لنا بعالم الأطفال «المؤلّف كله من الطيّبين»، «المحمي تماما من الأشرار»، تنقلنا إلى الصورتين النمطيتين للدبّ، الأليف والوحشي، فهي تصوّر لقريحة الكاتب – الشاعر، عالمنا كما هو ، بخيره وشره، و تفسح لمجال صاحب القلم أو لوحة المفاتيح، بإطلالة عبر المجاز على الخلق والطبائع…
لقد باتت حديقة برلمان «أوتاوا» منذ نشأتها مجالا للترفيه، ترتاده الأسر ويرتاده الشباب لممارسة شتى أنواع النشاطات الاجتماعية، يؤمونها وقت الظهيرة أو في نهاية الأسبوع، يأخذون فيها قسطا من الراحة، يحيون فيها مناسبات، بمناسبة أو بغير مناسبة.
بات برلمان «اوتاوا»، وليس مجرد حديقته، مجالا للشعب، الشعب الذي يبلغ عند وصوله بعين المكان ذروة الاعتراف بحقوقه كحق الراحة، حق اللعب، حق المطالعة، حق التظاهر، حق الضحك، حق البكاء، حق التجوال، حق الجلوس، حق المشي، حق الركض… ولأنه برلمان، حق حضور الجلسات ـ إنها علنية ـ بل حق محاورة النواب، بل وفي أحايين كثيرة، حق مقابلة رئيس الوزراء، الذي من المعتاد ألا تجده محاطا بجيش من الحرس.
أما أنا، عندما أشاهد صور ما حدث في ذلك اليوم المنحوس، لا أملك سوى أن أمارس نصيبي من حقوق الشعب أيضــــا، فأمسك بحق آخر، حق الكتابة، الكتابة عن ذكرى الطفل الكبير، ذكرى دببة كندا الناعمة، لأطالب بحقنا نحن جميعا بالعيش في مجتمع صديق للألفة عدو للوحشية.
٭ باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
بيار لوي ريمون