في الذكرى الخامسة لتوقيع الاتفاق النووي (14 يوليو 2015) تبدو إيران محاصرة بالاحتباس السياسي والفشل الاقتصادي، الذي زاد من حدته عدم القدرة على الانخراط في البيئة المالية العالمية، بسبب العقوبات الأمريكية. للتذكير فإن السبب الأهم وراء انخراط النظام الإيراني في المفاوضات النووية، كان من أجل القفز على العقوبات الأحادية والأممية، التي ما تزال حاضرة اليوم وبشكل أقوى.
بجانب كل ذلك مضافة إليه جائحة فيروس كورونا العالمية التي ضربت إيران بشكل مقلق، فإن البلاد تعرضت بالتزامن مع ذكرى التوقيع، لسلسلة من الهجمات والحرائق التي كان أبرزها استهداف منشأة «نطنز» النووية، الأهم في مجال تخصيب اليورانيوم. من المحتمل أن يكون الحادث منفرداً، أو نتيجة خطأ تقني، لكننا نميل لأن نقرأه في سياق المعارك المتصلة بين الولايات المتحدة وإيران، التي يحاول فيها كل طرف دفع الآخر لحافة الهاوية.
حافة الهاوية، أو الضغط الأقصى، هي إحدى أهم الاستراتيجيات الأمريكية الحالية في التعامل مع المسألة الإيرانية ـ وهي تعتمد بشكل رئيس على الضغط والعقوبات المركزة. شجعت الرئيس ترامب على المضي في هذه الاستراتيجية، مجموعة من السياسيين اليمينيين والراديكاليين، كان أولئك يردون في إجابتهم على ما كان يردده البعض من أن منهج العقوبات، ظل مستخدماً منذ عقود، بدون أن يؤدي إلى أي نتيجة، بل لنتائج سلبية ، بالقول إن ذلك يجب أن لا يثني الإدارة الأمريكية عن متابعة عقوباتها وزيادة فعاليتها، وهو ما تم تلخيصه في العبارة التالية: إن العقوبات قد لا تؤدي إلى أي نتيجة فعلاً، ولكن مزيداً منها قد يفعل. انتظر أصحاب هذه الفكرة أن تستسلم إيران وتخضع، بعد أن يتم أخذها إلى شفير الهاوية. نظرياً كان يتوقع أن النظام الذي سيرى أنه سيسقط لا محالة وأنه سيخسر كل شيء سيكون مستعداً لتقديم أي تنازل من أجل البقاء. باستغلال غريزة حب البقاء يمكن الحصول على اتفاقات وتعهدات مرضية، بل يمكن أيضاً إحداث تغييرات جذرية في بنية النظام نفسه، بدون اللجوء لحرب تقليدية مكلفة.
منذ الساعات الأولى لهجوم نطنز، وعلى مدى أيام اكتفت إيران بالإعلان عن الاحتفاظ بحق الرد، في حال ثبت تورط طرف من الأطراف الخارجية. تأخر رد الفعل كان مفهوماً، ورده البعض لصعوبة تحديد طبيعة الهجوم، وما إذا كان صاروخياً، طائرة درون، أو عبر قنبلة. بالمقابل، فإن عجز الأجهزة الاستخباراتية والأمنية الإيرانية عن معرفة مصدر الهجمات، أو التحقق من الأخبار المتداولة بكثافة عن ضلوع الكيان الصهيوني في ذلك الهجوم، لم يكن يخدم الصورة الدعائية للقوة الإيرانية الرادعة، وهو ما جعل مسؤولين إيرانيين يستدركون قائلين، بأن الفاعل معروف لديهم، لكن سيعلن عنه في الوقت المناسب. لا أحد يعلم متى سيأتي ذلك الوقت المناسب، الذي قد يرتبط بالانتخابات الأمريكية، والأمل في تولي المنافس الديمقراطي جو بايدن زمام الأمور في البيت الأبيض. المعضلة هي أن إيران التي تنتظر تعاطف المجتمع الدولي معها في مواجهة التعنت الأمريكي، لن يكون من مصلحتها القيام بأي عمل متهور في الداخل الإسرائيلي حتى إن ثبت تورط الكيان. في الوقت ذاته فإن «عاصمة المقاومة» ستفقد هيبتها أمام مريديها، إن تأكد تجرؤ عدوتها التليدة على اقتحام أسوارها وضربها داخل حدودها، في الوقت الذي كانت تكتفي هي فيه بالخطب الرنانة وعبارات التهديد. اتهام الطرف الإسرائيلي مبني على تماهي الموقفين الإسرائيلي والأمريكي، في ما يتعلق بالاتفاق النووي، واشتراك الطرفين في مساعي منع إيران من امتلاك القدرات الدفاعية النووية. الكيان الصهيوني ضالع في الهجوم على إيران وأذرعها داخل سوريا، وهو طرف مهم في معادلة حافة الهاوية. فرضية التورط الاسرائيلي تدعمها التهديدات التي أطلقها أكثر من مسؤول خلال الفترة السابقة.
حافة الهاوية، أو الضغط الأقصى، إحدى أهم الاستراتيجيات الأمريكية في التعامل مع إيران وتعتمد الضغط والعقوبات المركزة
لاختلاف الظروف الإقليمية، فإن الرد باستخدام الأذرع الإيرانية التقليدية، ربما يكون هو الآخر غير متاح حالياً، على سبيل المثال، فإن السعي لتوريط حزب الله اللبناني، ودفعه لشن هجمات داخل الأراضي المحتلة سوف يكون ذا تكلفة باهظة على مستوى الحزب والبلاد، التي تعاني أيضاً سياسياً واقتصادياً من أزمة غير مسبوقة. ثمة احتمال آخر حول تورط المخابرات الأمريكية بشكل مباشر في الهجمات الأخيرة وهو ما لفت إليه تاريتا بارسي من معهد كوينسي في مقابلة مع قناة CGTN الصينية في نسختها الأمريكية، حين اعتبر أن ذلك يمكن أن يدخل أيضاً ضمن سياسة الضغط الأقصى. التورط الأمريكي جدير بالأخذ في الاعتبار، فمن أهداف الضغط الأقصى، كسر هيبة إيران وتصويرها مجرد ظاهرة صوتية غير قادرة على الدخول في مواجهة جادة مع الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. الذي حدث أن إيران التي حاولت تمييع قضية نطنز، والتهرب من اتخاذ رد حولها، ما لبثت أن وجدت نفسها في مواجهة عمل استفزازي آخر من قبل الولايات المتحدة، التي قامت إحدى طائراتها العسكرية بمضايقة طائرة ركاب إيرانية، ما أجبر الأخيرة على الانخفاض المفاجئ. نتج عن هذه المضايقة الجوية حالة من الهلع وبعض الإصابات بين الركاب. تصاعد الغضب الإيراني «اللفظي» والاحتجاج الدبلوماسي، في الوقت الذي كان فيه الأمريكيون يردون ببرود قائلين، إن ما حدث كان لمجرد التأكد من هوية الطائرة الإيرانية، التي كانت تعبر السماء السورية والتحقق من عدم استخدامها لغرض عسكري. تقييم مقاربة حافة الهاوية ما يزال محل اختلاف بين المراقبين، فهناك أصوات عالية ترى أنها فشلت فشلاً ذريعاً، ولم تحقق غاياتها الأساسية، بل لم تخرج من سياق العقوبات الدولية التقليدية، التي ترتكز بثقلها على الشعوب، دون القادة السياسيين. راجت وجهة النظر هذه إبان الإعفاء المفاجئ لجون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق في سبتمبر 2019. ربط بولتون بفشل هذه السياسة كان من باب كونه أحد أهم المتحمسين لهذه النظرة المتشددة المبنية ليس فقط على العقوبات، بل على مساعي قلب نظام الحكم وقرع طبول الحرب أيضاً، وهو ما كان يجاهر به من خلال تصريحاته، التي كان من بينها قوله إن بلاده نشرت سفناً وقاذفات في الشرق الأوسط «لإرسال رسالة واضحة وغير قابلة لسوء الفهم لإيران».
يعود منتقدو هذه السياسة مرة أخرى للواجهة بعد شيوع أنباء عن اتفاق شراكة تتبادل فيه كل من الصين وإيران موارد الطاقة واستثمارات التنمية بقيمة تناهز الأربعمئة مليار دولار. تلك الأنباء كانت تعني أن الصين ستستفيد وحدها من الأسواق والموارد الإيرانية، وستكون شبه محتكرة للغاز والطاقة، في الوقت الذي حرمت فيه سياسة الرئيس ترامب الولايات المتحدة وأوروبا من الاستفادة منها. بالمقابل هناك من يرى أن هذه العقوبات نجحت في لجم إيران والحد من تدخلاتها العسكرية وتهديداتها الإقليمية، ما وصل حد منعها من الرد حتى على الهجمات التي تطالها لاعتبارات تتعلق بصورتها وبالعلاقة الجديدة مع المجتمع الدولي التي تنوي الدخول فيها.
يقدم هجوم نطنز وما سينتج عنه مؤشراً قياسياً مهماً على صعيد تقييم «الضغط الأقصى»، لكن، وعلى كل حال، فإن الاتفاق التجاري مع الصين وقبله الاتفاقية العسكرية مع النظام السوري ينبئان بأن الجمهورية الإيرانية ما تزال تحتفظ بخيارات تجعلها تمتنع عن الاستسلام.
كاتب سوداني