طرحت تداعيات جائحة كورونا مع مطلع العام الجاري أسئلة ملحة حول مستقبل الإنتاج والصناعة السينمائية، خاصة ما يتعلق بالعنصر البشري، الذي يساهم بدرجة كبيرة في استمرار هذا الإنتاج. ومن المفيد إعادة تأكيد القول بإن الفن السينمائي بشقه الاقتصادي يدخل لدى بعض الدول في نمو دخلها القومي، فأمريكا مثلا تنتج 800 فيلم في العام الواحد، بينما الهند تنتج 1300 فيلم، ولنا ان نتصور القاعدة البشرية التي تديم هذه الصناعة، وهذا يكفي لندرك أهمية الفن السينمائي في تشكيل الوعي الإنساني وتأطير ذائقته الفنية، إضافة إلى الرسالة الإعلامية التي يتضمنها.
العنصر البشري
العنصر البشري في هذا الحقل الفني متعدد الاختصاصات، فهناك جيش من العاملين التقنيين والحرفيين يساهم خلف الكواليس في تهيئة لقطة لا يتجاوز زمنها ثوان معدودة، إضافة إلى فريق الممثلين، وهؤلاء يتداخل عملهم، طالما هناك مخرج واحد له رؤية تفرض حضورها على أصغر التفاصيل وأبسط عامل مشارك في إنتاج الفيلم، ولم تكن الصورة في البدايات الأولى للإنتاج السينمائي مثل ما أصبحت عليه اليوم، انما تطورت واتسعت، بفعل التنافس الحاد بين الشركات لتقديم الأفضل، وما تفرضه الحاجة والتوسع في بنية الإنتاج والاهتمام بأدق التفاصيل لأجل ان تكون الصورة مقنعة لدى المتلقي.
الكمبيوتر والقوى التقليدية
بقدر ما كان دخول الكمبيوتر في الصناعة السينمائية عاملا ثوريا في تحقيق ما لم يكن ممكنا تحقيقه على الشاشة قبل دخوله إلى عالم الإنتاج، بقدر ما أصبح يهدد القوى التقليدية في هذه الصناعة، ويطرح فرضيات حول مستقبلها وامكانية الاستغناء عنها، وبعضها تحقق فعلا وبدرجة كبيرة، على سبيل المثال لم يعد هناك حاجة لإقامة ديكورات ضخمة في العديد من الأفلام، وحلت بدلا عنها التقنية الرقمية التي توفرها برامج (الغرافيك) في الكمبيوتر، وبات ممكنا جدا بدل تصوير أي مكان خارجي واقعي في مساحة صغيرة داخل الاستديو لا تتجاوز عدة امتار محاطة بقطعة قماش خضراء اللون، وعبر الكمبيوتر يتمكن التقنيون من ان يضعوا الممثل في أي مكان وهو يؤدي دوره كما لو انه يتحرك في شارع أو سوق أو باحة وسط المدينة الخ، فتظهر النتيجة على الشاشة بكامل التفاصيل الواقعية ويتبادل الممثلون الحوار والمشاعر وردود الأفعال مع انهم لم يلتقوا سويا داخل المشهد الواحد، إذ تم تصوير كل منهم على انفراد، ومن غير أن يشعر المتلقي بالحيل التقنية التي حققت هذا الوهم، ومثل هذه النتيجة التي تدخل في صلب الصناعة السينمائية القائمة على تحقيق الشعور بالوهم لدى المتلقي، فرضت ضريبة كبيرة على جيش من العاملين لم يعد لهم أي ضرورة في الصناعة طالما ما عادت هناك حاجة لتشييد ديكورات واقعية في الاستديوهات تتطلب أعدادا من المنفذين. ومع خطورة جائحة كورونا واستمرار الحظر والتباعد الاجتماعي، يبدو منطقيا جدا ان لا يقف أرباب هذه الصناعة مكتوفي الأيدي، دون أن يقدموا على اتخاذ تدابير تنقذ عجلة هذه الصناعة من التوقف، فبدأ تفكيرهم يتجه فعليا بالاعتماد الكلي على ما تتيحه التقنيات الرقمية من فرص كبيرة للاستغناء عن العامل البشري بدرجة كبيرة جدا.
مستقبل النجم
هذا التحول التقني بكل ما يحمله من آفاق وتصورات مستقبلية حول الصناعة السينمائية، لم يكن قد أثار قلقا كبيرا في الأوقات الماضية لدى فئة الممثلين على وجه الخصوص من بين عناصر الإنتاج، ولم يكن يخطر على بالهم ان تطالهم هذه التغييرات كما حصل للعديد من الحرفيين الذين يشاركون في تحضيرات الفيلم، انطلاقا من انهم يشكلون الحلقة الأبرز والوسيلة التي تتحقق من خلالها النجاحات الفنية والتسويقية رغم أهمية المخرج ومدير التصوير والمؤلف، أي أن الممثلين النجوم، يبقون في مقدمة أولويات شركات الإنتاج، فهم وحدهم من يمكن المراهنة عليهم في إنجاح أي فيلم اعتمادا على الرصيد الجماهيري الذي يملكونه، وبالامكان استبدال مخرج بآخر اثناء تنفيذ الفيلم، ولكن تبديل الممثل النجم بآخر يحتاج إلى تفكير طويل من قبل الشركة ودراسة النتائج الكارثية التي قد تحصل على مستوى الفني والتجاري.
ورغم هذه الأهمية للممثل النجم في السينما إلا انه لم يسلم من التغييرات التي بات يشهدها هذا الحقل الإنتاجي من جانبه التقني، وأخذ الممثلون يرتابون من المستقبل وما يخبئه لهم قد تسحب البساط من تحت أقدامهم، خاصة ما تختزنه تقنية الصورة المنشأة بالكمبيوتر، فهذه المساحة الهائلة في تحقيق ما هو متخيل باتت فوق ما يمكن تصوره، فعلى سبيل المثال في فيلم “star wars rogue one” إنتاج 2016 تم استعمال صورة رقمية للممثل Peter Cushing طيلة زمن ظهوره في الفيلم، مع انه كان ميتا منذ العام 1994 ولأنه كان مشاركا في الأجزاء الأولى من هذه السلسة فقد لجأ المخرج إلى هذه الوسيلة التقنية لاستحضاره، عبر عملية مسح رقمي للشخصية الحقيقية.
بدايات التفكير بالتقنيات
منذ ان انطلقت البواكير الأولى للفن السينمائي في بداية القرن العشرين لم يتوقف تفكير العاملين بتطوير التقنيات التي تدخل في صلب الإنتاج حتى يتمكنوا من تنفيذ رؤاهم الفنية، فكان فيلم “رحلة إلى القمر”عام 1902 للمخرج جورج ميليه أول الأشرطة السينمائية التي حاول فيها وبما تم التوصل إليه من تقنيات متواضعة إجراء مقاربة افتراضية لما يمكن ان تكون عليه التصورات عن القمر، فكانت مثل هذه المشاريع السينمائية التي جاءت في وقت مبكر جدا من تاريخ السينما، تعبيرا عن هواجس وأحلام كانت وما زالت تشغل حيزا كبيرا من تفكير السينمائيين، جوهرها ان لا تتوقف صناعة الفن السينمائي عن ايجاد آفاق جديدة أمام رؤى الحالمين في هذا الفن، وتذليل أي صعوبات قد تقف حائلا أمام انجازها، والتفكير التطويري امتد إلى الافلام ذات البنية الواقعية والأشرطة الأخرى التي تجنح إلى ناحية الخيال العلمي والفنتازي، وقد تحقق الكثير بهذا المسار تقنيا، ولم يعد هناك ما هو غير قابل للتحقيق مع الثورة التي أحدثتها تطبيقات برامج الكمبيوتر، في عمليات المونتاج المتنوعة.
وفي عام 2013 قدمت لنا هوليوود فيلما بعنوان “The Congress” جاء بما حمله من تنبؤات بمثابة اجتراح لما ستشهده الصناعة السينمائية في المستقبل القريب جدا من تغييرات هائلة ستتمخض عنها نتائج تقنية لم تعهدها السينما من قبل وستضيف لها مجالات حيوية جديدة ستجعلها تنطلق إلى مديات بعيدة جدا من أحلام المخرجين، إلا أنها بذات الوقت ستتمخض عن نتائج وخيمة يعود ضررها على الممثلين النجوم بالدرجة الأولى، وسيعانون بسببها من بطالة دائمية لم يشهدها تاريخ السينما، وقد تحقق جزء بسيط ومهم مما جاء من أفكار في هذا الفيلم عبر الشريط السينمائي “star wars rogue one” الذي تم إنتاجه عام 2016 .
تؤدي الممثلة روبين رايت في الفيلم نسخة خيالية من نفسها كممثلة، فبعد ان تصل إلى سن 45 لم تعد تحصل إلى الأدوار التي تليق بنجوميتها وشهرتها العريضة، فتصبح عاطلة عن العمل لفترة طويلة، فتجد نفسها أمام عرض تقدمه لها شركة إنتاج سينمائية كبيرة، بموجبه ينبغي عليها ان تبيع نفسها رقميا للشركة مدى الحياة، وستجني مقابل ذلك مبلغا ممتازا يقيها شرور البطالة، وبشرط ان تتوقف عن العمل نهائيا، بعد ان يتم مسحها رقميا. في البداية ترفض العرض ولكنها ترضخ في النهاية، ومحتوى عرض الشركة يتضمن مسحها رقميا وهذا يشمل جسدها وانفعالاتها وردود أفعالها في حالات نفسية شتى، ثم تحفظ النسخة المرقمنة في الكمبيوتر، وسيكون بامكان الشركة إنتاج أفلام من بطولتها باستخدام النسخة الرقمية دون حاجة إلى الاستعانة بها، خاصة وان الشركة سنتج الأفلام بعد ان تعود بعمر الممثلة إلى مرحلة الشباب، أيام كانت نجمة تحقق الإيرادات العالية، لتضمن بذلك تحقيق الأرباح، ورغم الصراع الذي عاشته روبين رايت وهي تتلقى العرض من مدير الشركة واحساسها بأن شخصيتها الإنسانية تستلب منها ويتم تدميرها، إلا أنها وبعد ان تشاهد نموذجا سبق للشركة ان أنتجته مع ممثلة أخرى، تدرك أن لا مجال أمامها لكسب هذه الحرب ضد التكنولوجيا، فتقتنع بهزيمتها، وتسلم أمرها للشركة فتوقع العقد. بمعنى أوضح: ما كان يعد وهما قد أصبح اليوم حقيقة، وبناء على ذلك ستنتج الشركات ما تشاء من الأفلام اعتمادا على النسخة الرقمية للنجم.
يحمل فيلم “The Congress” رسالة واضحة في دلالالتها، تشير إلى ان العالم الواقعي الذي عرفته البشرية أصبح مهددا بالزوال، وان العالم الرقمي قد أصدر عليه الحكم بالإعدام، وان المستقبل لم يعد متاحا أمام عالمنا الواقعي بقواه التقليدية البشرية التي كانت قوته الأساسية، فالصورة تبدو بغاية التشاؤمية حول مستقبل عالمنا الواقعي في السينما، وهذا ما يعنينا في هذا الموضوع، فالأيام القادمة ستشهد الاستغناء عن الممثلين بالاعتماد على نسخ رقمية من شخصياتهم تحمل كل ملامحهم الخارجية ودوافعهم الداخلية التي تم مسحها وتخزينها رقميا، وعندما نتذكر ما أنجزته السينما خلال الأعوام القليلة الماضية تأكيدا لما جاء في هذا الفيلم، آنذاك لن يداخلنا الشك في ان الإنتاج السينمائي يقف اليوم على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة، ونظن ان الحظر الذي فرضته جائحة كورنا قد عجل في ان تصبح أمرا واقعا، لأجل ان تستمر عجلة الإنتاج وتتجاوز أي عقبات قد تواجهها تشبه ما فرضه فيروس كورونا من عزل وتباعد وتعطيل للمشاريع السينمائية، ووفق هذه المستجدات ستجد أعداد هائلة من الممثلين السينمائيين انفسهم عاطلين عن العمل، بينما في الجانب الآخر من الصورة ستتسع الفرص أمامهم للعودة إلى خشبة المسرح، فهل سنكون أمام موعد جديد تعود فيه العافية إلى المسرح مع عودة الممثلين إليه؟ سؤال ننتظر الإجابة عليه في الأيام القريبة المقبلة.