العودة إلى البديهيات

حجم الخط
12

حين نقول عن مسألة ما إنها بديهية، فهذا يعني أن لا حاجة للنقاش. النقاش يبدأ بعد البديهيات وليس قبلها. فالبديهيات لا تمتلك أدوات نقاش، لأنها حسمت من زمان.
لا جدوى من نقاش بديهية أن الأرض تدور حول الشمس، وحين يأتي شخص ليناقش المسألة، نتعامل معه بصفته خارج الزمن.
لكن للأسف، فإن التاريخ يكرر دورة العودة إلى فرض نقاش أبكم حول البديهيات. ثورة المؤتمر الوطني الإفريقي ضد نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا كانت ثورة بديهية. من العار أن تناقش فكرة التمييز العنصري اليوم، لذا لم يلجأ نيلسون مانديلا إلى نقاش نظري مع النظام العنصري الأبيض، بل حسم النقاش أخلاقياً وبالنضال على الأرض، وحين جاء موعد النقاش رضي أن يناقش مسألة واحدة هي تسليم السلطة.
التحرر الوطني وحق تقرير المصير مسألتان بديهيتان، والثوار الفيتناميون والجزائريون لم يناقشوا المسألة مع المستعمر، المفاوضات التي دارت بينهم وبين المستعمرين لم تكن حول هذين الحقين، بل كانت حول تطبيقهما.
مشكلة الحركة الوطنية الفلسطينية أنها لم تحسم البديهيات كشرط للمفاوضات، وهذا ما قاد إلى مصيدة أوسلو، وإلى تحول المفاوضات إلى وسيلة يستخدمها الاحتلال لتكبيل الفلسطينيين، وجرهم إلى الهاوية.
وإلى آخره…
كنت أعتقد كغيري من الناس الذين يعيشون في زمن أُطلق عليه اسم «ما بعد الاستعمار»، أن مسألة البديهيات قد حُلت، وأن علينا التطلع إلى المستقبل الديموقراطي للشعوب العربية الذي كان يلوح في الأفق. لكننا اكتشفنا أن السلطات في العالم العربي ومعها سلطة الاحتلال الإسرائيلي، تقوم بإعادتنا إلى الصفر، أي إلى ما قبل البديهيات. ما معنى أن يصرخ مواطن سوري «أنا إنسان مو حيوان»، وما معنى أن يشعر مواطن لبناني أن عليه أن يحتمل واقعاً جعله بلا حقوق، وما معنى أن يشعر الفلسطيني أنه مهدد في كل جوانب حياته، وإلى آخره…
منطقة عربية أعيدت بالقهر والمنع إلى زمن ما قبل البديهيات، حيث عليك أن تخوض يومياً نقاشات عقيمة، كتلك النقاشات التي يضج بها لبنان بعد انحسار الموجة الأولى من انتفاضة 17 تشرين.
ما معنى أن نناقش لصاً يحاضر في محاربة الفساد، أو «زمكّا»، يتزعم حزباً سياسياً يخيل إليه أنه يحكم لبنان، في جدوى بهلوانياته، أو حزباً مسلحاً ونحن نعلم أنه لا يملك شيئاً من قراره، أو أن نناقش حاكم مصرف لبنان وظله في جمعية أصحاب المصارف عن كيف طارت الأموال وأين غطت، أو أن ندخل في مناقشة خطاب رئيس الجمهورية حول الشجاعة في سلعاتا وبسري…
العودة إلى مناقشة هذه البديهيات تعني القبول بأننا لا نملك حقوقاً، كما تقودنا إلى الدخول في لعبة الكذب على طريقة حسان دياب ووزيراته ووزرائه الميامين، والرضوخ لمنطق العجز والاستسلام.
أن يتحول الشعب اللبناني إلى شعب من الشحاذين، أو أن يتحول الشعب السوري إلى شعب من اللاجئين، أو أن تصير فلسطين ملعباً لرئيس أمريكي ممتلئ بنفسه بالشراكة مع رئيس حكومة إسرائيلية فاسد؟ هذه الكمية من «الأوات» التي تعطف الفاسد على الفاسد والمبتذل على المبتذل، تشير إلى أننا رُمينا في حفرة العودة إلى مناقشة البديهيات مع عصابات المافيا، وهي مناقشات لا هدف لها سوى جرنا إلى الاعتراف بموت إنسانيتنا.
كم تبدو البديهيات واضحة أمامنا، من البديهي عدم مفاوضة النظام المافيوي اللبناني إلا قبيل سقوطه وفي سياق هذا السقوط، ومن البديهي أن نصرخ ونحتج ونشتم أيضاً، ومن البديهي أن نقاوم بكافة الوسائل. لكن علينا أن نتعلم شيئاً آخر وهو أن إسقاط أنظمة الفاسدين واللصوص ليس بديهياً، وهنا نكتشف أن النقاش الوحيد المجدي هو كيف يبني الناس الأطر والأشكال النضالية الطويلة النَفَس من أجل تحقيق هذا الهدف.
مسألة الأمور البديهية ليست سهلة لأنها تحمل أكثر من وجه.
فإذا كانإاسقاط الطغاة واللصوص مسألة بديهية، فإن البديهية المضادة تقول إن هؤلاء سيردّون على الاحتجاجات الشعبية بالقمع الوحشي واستدراج التدخلات الخارجية. فالأنظمة العربية أسست معادلة أن النظام يساوي الوطن، بل هو أكثر أهمية من الوطن والشعب وكل القيم الأخلاقية.
في لبنان صاغ بيار الجميّل، مؤسس حزب الكتائب، مقولة النظام يساوي الكيان، ولعبت هذه المقولة دوراً أساسياً في إشعال الحرب الأهلية. لكن عرب العسكريتاريا والبترودولار والاستبداد تفوقوا على الجميّل الجد حين حولوا الأوطان إلى ممسحة الأنظمة، وارتفع ذلك الشعار البليغ في وحشيته: «الأسد أو نحرق البلد».
المسألة التي تستحق النقاش وتعيدنا إلى فكرة الثورة هي مناقشة كيف وعبر أية وسائل يجب إسقاط هذه الأنظمة.
هذا هو السؤال الكبير الذي واجهته انتفاضة 17 تشرين، التي تعلمت من انتفاضات الربيع العربي أن العنف المسلح يقود إلى تفكك المجتمع واستدراج التدخل الأجنبي، وأن الانقلاب العسكري على الطريقة المصرية يعني استمرار النظام القديم.
لكن النظام اللبناني الذي هو نظام حرب أهلية دائمة، قرر لحظة إفلاسه أن يقود البلاد إلى التفكك والمجاعة، أي إلى شكل غير مألوف من الحرب، وهذا الشكل الجديد لا يمكن مواجهته بأفكار قديمة. الثورة لم تكن يوماً معادلة جاهزة، ولا لحظة تغيير انقلابية.
الثورة مسار، والمهمة الثورية اليوم هي تأسيس مسار بناء وطن في مواجهة دكاكين الطائفيين والأوليغارشيين واللصوص.
إنها مسار طويل، وعلينا أن ننطلق من افتراض أساسي، وهو أن الثورة فكرة، والفكرة لا تُهزم بالقمع والقتل والجريمة.
المسار الثوري التغييري هو موضوع النقاش الوحيد، وعلى هذا النقاش أن يبدأ كي تتفتح مئة وردة حمراء في لبنان وبلاد العرب.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    دخل لبنان متنوع من الزراعة والسياحة والبنوك والتجارة!
    أما دخل لبنان الآن فهو من القروض فقط!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    شكرًا أخي الياس خوري. انتظرت مقالك منذ أيام لأن الأحداث تتوالى وقرأت باحثًا في كل كلمة لأجد بارقة أمل عن خطوة جديدة نخطو بها معًا أو … أعذرني قدرتي التعبيرية ضعيفة كنت أبحث عن شيءما لاأعرف ماذا لكن نفكره نسعى نحوه يخصنا جميعًا, كلنا في هذا العالم الذي أصبحنا فيه ربما عبرة من عبر الزمان. بالطبع ماوجدته هو العودة إلى البديهيات وهذا جميل لكن يعني في طياته أننا أمام مسيرة طويلة طريق طويل. هذا ليس مشكله بحد ذاته طبعًا إنما يجب أن لايغيب عن أذهاننا.
    وبما أن الثورات كما ذكرت لنا بحق ليست انقلابًا آنيًا (لكن الإنقلابات الآنية والعسكرية تباع على أنها ثورات وهذا أحد الدروس التي تعلمناها) علينا أن نكون على وعي تام بأن مسيرنتا مستمرة. فالأنظمة يبدو أنها اختارت (بنصف وعي أو بلاوعي يعلم الله) الطريق الأسوأ, وأن التضحيات ستكون كبيرة إلا أن بناء الأوطان ليس سؤال كبير ققط بل مصيري, ومن البديهي إذًا أن النهاية ستكون إن شاء الله لهذه الأنظمة الإستبدادية الإولغارشية الطائفية المتسلطة المتسلحة بالقمع والتوحش والفساد, فلاوطن لها ولاهي الوطن.

    1. يقول سنتيك اليونان:

      في الوقت الحاضر لا يبدوا ان هنالك امكانية للبنان او للعالم العربي للخروج من الوضع المزري الذي يعيشه العرب فالشعوب العربية ما زالت في مراحل القبلية والعشائرية والمذهبية ولم تصل بعد الى مرحلة المواطنية والوطن لذالك لا. تستطيع مواجهة تحديات العصر …اخشى ان ما نراه هو مقدمة لما هو ادهى واسوء
      لا ادري ان كان تداخل الدين بالسياسة او التعلق بالعادات الموروثة والتقاليد البالية والخوف من التجديد لا ادري ان كان لهذه الأمور دور. في عدم النهوض
      ومن المؤسف ان اكثر القراء يصبون اللوم والحقد على الاستعمار والصهيونية والحكام العرب وكآن على هؤلاء واجب قيادة النهضة العربية

    2. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

      أخي سنتيك, أراك تضع خطًا تحت المرض. لأباس قد لانختلف كثيرًا أو قل قد نختلف بعض الشيء في توصيف أو تحديد بعض أسباب المرص وإن لم يكن كلها, وبالطبع هناك الكثير من المغالاطات منا جميعًا. لكن لابأس أيضًا يجب أن نعمل ونبحث معا والأهم هنا هو كيفية الخروج والخلاص من هذا الواقع. لابد من البحث عن مخرج بكل الطرق والوسائل الممكنة وطبعًا أقصد مخرج وليس العودة الوراء أو الدوران حول البديهات و لا أعني بالطبع أن كل ماهو ممكن مشروع, فهذا هو أيضًا من ضروريات الوطن الإنساني المضاد للإستبداد والتوحش والفساد والعشائرية والقبلية والتقاليد البالية الموروثة عبر التاريخ البشري أيضًا.

    3. يقول مواطنة لبنانية- فرنسية:

      إلى الأستاذ أسامة، أشكر متابعتك وتعليقاتك الجميلة جدا والمحايدة والعميقة والوطنية… تظهر أيضاً من خلال تعليقاتك ثقافة ابن سوريا كما نحب أن تكون سوريا للبنان، علاقات محبة وتبادل بين بلدين مجاورين… مثلك أنا أنتظر بفارغ الصبر مقالات أستاذنا الكبير الياس خوري، مقالاته منارة لنا وبفضله بتنا نميز بين الصحافة المضللة والصحافة التي تدلنا على الطريق وتفسير ما يحصل بشكل واضح…

      شكراً جزيلاً الياس خوري حبيب قلبنا الغالي كوطن، كذلك أستاذ أسامة النقي، شكراً لموقع القدس العربي الذي بفضله أيضاً نستطيع قراءة المقالات أو القصائد أو الحوارات ووو بأكملها وليس كبعض مواقع أخرى،

      أنا مؤمنة أنه كل الحلول موجودة بالمنطقة، من القضية الفلسطينية، للنزاعات العربية كلها حالياً / لبنان، العراق، سوريا، اليمن،٠فلسطين، ليبيا ووو وحتى حول العالم، الحلول هي في نظرتنا للمحافظة ع الحياة والأرض والزرع والبحر وأنه السلام عكس ما بتفكر العالم أسهل بكتير من الحرب والتدمير وتدمير حضارات عمرها آلاف السنين،… كتير مهمة الصحة ويضل الواحد بعقله، تعيش الناس مرتاحة مادياً مش عبيد لشركة أو رجل أو سياسي أو حزب ووو… بكفينا كورونا وللعلم كورونا ما رح يختفي، رح يبقى متله متل أي مرض موجود عند الإنسان.

    4. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

      شكرًا جزيلًا لك أخي مواطنة لبنانية- فرنسية على هذه المشاعر النبيلة التي تشعرني على أن الدنيا بخير طالما أننا نلتقي معًا على هذا الطريق. لاشك لاشك أن الأستاذ الياس خوري شعلة مضيئة نستنير بها في هذه الظلمة ولاشك أن هذه الظلمة ستنتهي مها طالت وسنبقى نسير على هذا الطريق.

    5. يقول أسامة كُليَّة سوريا/ألمانيا:

      تصويب: اختي

  3. يقول سنتيك اليونان:

    السيد اسامة
    لا مجال ولا امكانية للخروج من هذا الوضع في الوقت الحاضر فاي مشروع للنهضة لا يمكن تطبيقه في المجتمعات العربية لان العرب لا يريدون ان يتطورا فهم يستوردون من الغرب جميع ما ينتج ويصنع ويبتكر ويرفضون استيراد الانفتاح والافكار والفلسفات والحرية اللتي هي وبسببها تطور الغرب
    متى تعتقد ان يظهر في بلاد العرب كاتب مثل كازانتزاكيس اليوناني

    1. يقول سنتيك اليونان:

      السيد اسامة
      آمل ان تسمح القدس العربي بنشر مايلي
      ما دام هناك من يمنع مناقشة ومساءلة جميع القوانين المدنية والدينية والعشائرية وما دام تاريخ العرب مقدس وما دام استعمار الاندلس يعتبر فتح وما دام ممنوع ان اقول ان الاستيطان الصهيوني لفلسطين هو الفتح اليهودي لفلسطين ما دام العرب في هكذا جو لا ارى سبب للتفاؤل

    2. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

      أخي سنتيك اليونان, أراك مرة أخرى تشدد على تشخيص المرض ولاأختلف معك كثيرًا في الحقيقة وأراك متشائمًا أو لست متفائلًا ولابأس في ذلك فمن قال أن التفائل هو الأقرب إلى الواقع. لكني طبعًا وليس فقط من باب التفائل أدرك جيدًا أن الإرادة تصنع المعجزات وأن من لايبحث عن شيء لن يجده لكن من يسعى فعسى ولعل! وأخيرًا رحلة الألف ميل تبدًأ بخطوة واحدة. أما من ناحية المجتمع العربي والعشائرية والقبلية أو حتى كما تريد أن تقول حرية الرأي فتذكر أن الأنبياء هم أكثر من عانى من الإضطهاد والصعوبات وأنت تعرف المثل القائل ماأكرم نبي في قومة. هذا يزيدنا إصرارً وعزيمة لأننا نعلم جيدًا ويكاد يكون من البديهيات كما جاء في الأخ الياس خوري أننا على الطريق الصحيح والأهم وهو بناء الأوطان.

    3. يقول سنتيك اليونان:

      السيد اسامة
      الارادة تصنع المعجزات. يا حبذا ان استطيع ان اوافقك الرأي ومع الاسف لا اؤمن بالمعجزات
      هناك واقع هناك شعب يعيش بالقرن ٢١ بعقلية القرن العاشر هذا هو رأيي الخاص وان اراقب واقرء تعليقات القراء على ما تكتبه الدكتورة ابتهال الخطيب مع العلم ان قراء القدس مفروض ان يمثلوا نوع من النخبة

    4. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

      أخي سنتيك, المعجزات هنا بالمعنى العلمي وليس الديني وثانيا لماذا تنظر إلى جانب واحد وتنسى أنه بالمقابل يوجد جانب آخر وهو يمثل النسبة الأكبر كما أثبتت نهضة الشعوب العربية وإرادتها التي تدعو إلى الدولة الحديثة!

إشترك في قائمتنا البريدية