يشير مصطلح العولمة، حسب عالم الاجتماع أنتوني غدنز، إلى العيش في عالم واحد يزيد فيه الاعتماد المتداخل والمتبادل بين الأفراد، والجماعات، والأمم، ويرى أن العولمة ينظر إليها، في الغالب، باعتبارها ظاهرة اقتصادية، لهذا يبرز بشكل أوضح «الدور الذي تؤديه الشركات العابرة للقوميات» مع ما تتطلبه عملياتها الضخمة من الحدود المفتوحة، وتوسيع العمالة والاستخدام في العالم، بالإضافة إلى التكامل والدمج للأسواق المالية العالمية عن طريق ربطها بـ«وسائل الاتصال الإلكتروني» كما تشير، بطبيعة الحال، إلى الحجم الهائل لتدفق رأس المال عبر العالم، بالإضافة إلى التجارة العالمية.
والملاحظ أن العولمة لا تقتصر على الجانب الاقتصادي وحسب، لاسيما بعد التطور المذهل في مجال المعلومات والاتصالات، الذي ساهم بشكل كبير في إعطائها الزخم والقوة في مسيرتها، إذ أدى، والحال هذه، إلى تكثيف التفاعل بين الناس، ووسعت مجالاته، وعجلت به في مختلف أنحاء العالم، كما خلص إلى ذلك غدنز في تحليله.
على هذا الأساس، فإنّ العولمة تحيلُ إلى التجارة الحرة، والتبادل الحر، والحدود المفتوحة، كما تحيل أيضاً إلى حرية تنقل الأفراد، ورؤوس الأموال، والأفكار، ما يؤدي، في نهاية المطاف، إلى التعارف ونبذ الكراهية، والحد من الحروب، والتقليل من المجاعات، هذا في الواقع ما تسعى إليه العولمة، حسب التسويق الذي صاحبها منذ بدايات سفرها من مكان إلى آخر كـ«فكرة» مغرية في وعودها، لكن، على ما يبدو، أنّ العكس هو الذي حصل، فقد أدت العولمة، في ما أدت إليه، إلى عولمة المخاطر والتطرف والخوف، كما أفرزت، فضلا عن ذلك، الفقر والأوبئة والأمراض، فيكفي أن يحدث تفجير في مدينة ما، حتى يعمّ الخوف المعمورة كلها، ويكفي أن يعطس شخص في الصين، فتصل العدوى إلى أغلب دول العالم. على صعيد آخر، في ظل أزمة كورونا وتداعياتها الآنية، يعود السؤال حول «مصير العولمة» إلى الجدل العالمي من جديد، سؤال يعطي أولئك الذين لا يتوانون في كل مرة في تأكيد هشاشة هذه الفكرة المصداقية، بل يؤكد إخفاقها في تحقيق وعودها، خاصة بعدما أغلقت الدول حدودها، وعلّقت حركة الطيران والبواخر أعمالها، وانكفأت كل دولة على نفسها من أجل أن تحارب هذا القاتل المتسلل، الذي انتقل عن طريق الطائرات والبواخر، من مدينة ووهان الصينية، إلى أغلب دول العالم، وأضحى العالم بذلك ليس «قرية كونية صغيرة» كما يقال، بل مجرد مجموعة قرى منقطعة بعضها عن بعض. لذا يرى البعض أن أزمة كورونا ستكشف للعولمة بعض سلبياتها، فتعيد دول العالم رسم سياستها على أساس محلي، وليس دولياً، بالأخص في مجال الاقتصاد والتجارة، حيث أدركت كل دولة حجم المخاطر في اعتمادها على أسواق خارجية، فالصين مثلا، التي تعتبر سوق العالم في العديد من السلع، غدت، بين ليلة وضحاها، في نظر الكثيرين، مصدراً للوباء القاتل، لا للسلع الرخيصة. وعليه، فإن تقليل الاعتماد على الخارج، بالحد من استيراد المنتجات الأجنبية، الذي فرضته ظروف إغلاق الحدود، يؤدي، لا محالة، إلى زيادة الإنتاج المحلي، بالتالي يقوي من عزيمة أولئك الذين يؤمنون بوضع المبادرة الوطنية فوق التعاون الدولي.
فخ العولمة
العولمة، في الواقع، فخٌ للوقوع بين أنياب اقتصاد السوق، والسقوط فريسة للرأسمالية المتوحشة، الغني يزداد غنى، والفقير يزداد فقراً، «مجتمع الخُمس الثري، وأربعة أخماس الفقراء» المستورد يقتل المحلي، والشركات الكبرى تأكل الصغرى، والعالمي يلتهم الوطني، بل يزيد الرافضون للعولمة على ذلك، بأنها تقوّض الدولة لصالح الشركات العملاقة، ومن ثمّ التمكين للنموذج الأمريكي المسيطر، عبر أذرعه المالية والتجارية، العولمة، بعبارة أخرى، هي الداروينية الاجتماعية، حيث البقاء للأصلح، والأصلح هنا هو الأقوى، لهذا دمرت بلداناً، واغتالت اقتصاديات دول، كالمكسيك الأرجنتين، وغيرهما. اليوم، يجد دعاة تحجيم مدِّ العولمة، وفرض الحمائية، وإغلاق الحدود، وتقييد التدفقات العابرة للحدود، الفرصةَ لإقناع شعوبهم بمشروعهم، الذي يعتمد، في ما يعتمد عليه، على ضرورة الانكفاء على الداخل، وعدم الاندماج في الاقتصاد العالمي، بحيث يصبح الشعار الذي رفعه دونالد ترامب أثناء حملته الانتخابية «أمريكا أولا» هو الشعار الذي يرفع في العديد من العواصم الكبرى في المرحلة المقبلة، في روما، ولندن، وبرلين، وباريس، وموسكو، ونيودلهي، وريو دي جانيرو.. وغيرها.
العولمة، فخٌ للوقوع بين أنياب اقتصاد السوق، والسقوط فريسة للرأسمالية المتوحشة، الغني يزداد غنى، والفقير يزداد فقراً
على أن الأسئلة التي تطرح اليوم في ظل أزمة هذا الوباء هي: هل يؤسس وباء كورونا لإنهاء العولمة؟ أم لبداية عولمة جديدة؟ أم هل يقودنا إلى عالم أقل عولمة؟ أم هل تتدثر لباساً آخر، لباساً شرقياً صينياً هذه المرة؟ والأهم من كل ذلك، هل تؤسس هذه الأزمة لمرحلة نقدية جادة، تتم من خلالها إعادة النظر في العولمة، لكي تتماشى وتطلعات الشعوب في العالم؟
يقلل كيشور محبوباني المفكر السنغافوري، من التغيير الذي قد يحدثه فيروس كورونا في الاتجاهات الاقتصادية، لكنه قد يسرّع، كما يقول، «الانتقال من العولمة الأمريكية إلى العولمة الصينية» والسبب في ذلك يرجع، حسب رأيه، إلى أنّ الشعب الأمريكي «فقد الثّقة بالعولمة والتجارة الدولية واتفاقيات التجارة، التي بات يعتبرها سلبية، سواء بوجود الرئيس دونالد ترامب، أم من دون وجوده» في المقابل، يضيف محبوباني، بأن الصين، «لم تفقد إيمانها» بعد، بل زادت ثقتها بنفسها، نتيجة النمو الكبير الحاصل في اقتصادها، بالتالي، فإن النموذج الصيني انتصر على الأمريكي. في السياق ذاته، هناك من يرى بأن العولمة ستتجدد حتماً، لكي تتوافق مع التطورات الحاصلة في مجال التكنولوجيا، ولعل هذا ما أشارت إليه أرانتشا غونزاليس لايا، وزيرة خارجية إسبانيا، عندما قالت أثناء زيارتها لتركيا مؤخراً بأن عالم ما بعد فيروس كورونا سيشهد ميلاد عولمة جديدة، تكون التكنولوجيا بمثابة الطاقة التي تمنحها القوة والحياة، وعليه، فإن الحديث عن تفكك العولمة، أو نهايتها أمر مبالغ فيه، في هذا الصدد تقول: «أعتقد إنه عالم سيشهد نوعاً جديداً من العولمة، وإن الطاقة التي تقوي العولمة في المستقبل هي التكنولوجيا» لاسيما بعدما صارت الرقمية رقماً صعباً في العديد من المجالات، «في التعليم والمدفوعات والتسوق عبر الإنترنت» لذا فهي تؤكد على أنه من الضروري أن تكون التكنولوجيا متاحة للجميع، سواء للمواطنين أو للشركات.
محاكمة العولمة
في الحقيقة أنّ محاكمة العولمة هي، في واقع الأمر، محاكمة للرأسمالية المتوحشة، التي كان همها الأول والأخير هو الربح «الربح مقدماً على كل شيء» حسب وصف تشومسكي، بدون الأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الإنسانية، والقيم التضامنية في العالم، ولعل ذلك ما قصده إدغار موران عندما وصف العولمة بأنّها «ترابط وتشابك فاقد للتضامن» ومع أنّ «مسار العولمة قد نتج عنه توحيد تقني- اقتصادي شمل كوكب الأرض» إلا أنّه على الرّغم من كل ذلك، يضيف موران، أنها «لم تحرز تقدماً في مجال التفاهم بين الشعوب». وحتى يخرج العالم من هذا المأزق يطرح موران فكرة تقوم على ثلاثة أسس، وهي:
– ضرورة الوعي بالمصير المشترك.
– ضرورة وجود تضامن وطني.
– العمل على تغيير الفكر السياسي القائم.
في هذا الشأن يقول: «غير أننا إذا لم نفهم أنّه من الواجب وعينا بوحدة مصير البشرية، وإذا لم نبلغ مستوى متقدماً من تضامننا، وإذا لم نغير فكرنا السياسي» مؤكداً، في الوقت ذاته، على أن هذه الأفكار ضرورية لخروج البشرية من الأزمة العميقة التي تعيشها، لاسيما بعد رسالة الفيروس الواضحة، التي تتمثل في المصير البائس، الذي ينتظرها، أي البشرية، إذا ما تمادت في غيها وعبثها، يؤكد ذلك بالقول: «فإن أزمة البشرية ستتفاقم حتماً، إن رسالة الفيروس واضحة، وبئس المصير إذا كنا لا نريد الإصغاء إليها». صحيح أنّ رسالة الفيروس واضحة، لكن، السؤال الذي يبقى مطروحاً: هل تصغي البشرية إليها أم لا؟
كاتب جزائري
وباء كورونا المعولم سيكبح العولمة الاقتصادية حسب ما الفناها وسيفرض حلولا محلية قائمة على الخصوصية الوطنية وليست مستندة الى قواعد مؤسسات بريتون وودز. الليبرالية الجديدة قيما ومؤسسات دولية هي في طور الافول النهائي، واكبر الخاسرين هم من ارهنوا سياسات بلدهم على مبادئها تحت عناوين شتى.