إبراهيم عبد المجيد٭
منطقتنا العربية تعيش وسط العالم المعاصر، في الوقت الذي تعيش فيه في العصور القديمة. منطقتنا العربية بقبحها هي أكثر مناطق العالم إلهاما للشعراء، وكتّاب القصة والرواية، في الوقت الذي يحيط بها عالم آخر أجمل لا يقل إلهاما.
منذ عامين اشتركت في تحكيم مسابقة للقصة القصيرة في الجامعة الأمريكية في بيروت، وكانت كل القصص القصيرة المتقدمة للمسابقة من سوريا والعراق ومصر، ومن كتّاب يعيشون خارج الوطن العربي بعد أن فروا منه، كلها باستثناء قصة أو اثنتين من مصر عن الحروب والهجرة و«داعش»، والقمع والمعتقلات والسجون. هذا لم يأت من فراغ، لكن طبعا مما يحدث في المنطقة حولنا. وطبعا لن أحدثكم عن سيل الروايات التي كتبها الكتّاب، فهي سيل حقيقي كماً، وعالية القيمة كيفا، والحديث عنها يطول.
دول ذات حضارة وتاريخ مثل العراق وسوريا واليمن، زُج بها لتكون في بداية العصور القديمة كأنما لا يسكنها غير وحوش قديمة استيقظت على أنواع غريبة من المخلوقات هم البشر، فراحت تأكل فيها. ودول أخرى لم تصل إلى ما وصلت إليه هذه الدول الثلاث، لا تتوقف فيها الصراعات السياسية، وإن لم تأخذ أشكالا مسلحة مثل تونس والجزائر والسودان تفاجأ فيها كل يوم بأخبار خارج حدود العقل. ودول صغيرة دخلت بما أعطاها الله من إمكانات بترولية، فراحت تشن حروبا وتتدخل في شأن الدول الأخرى بشكل لا يأتي باستقرار ولا يعرف أحد لماذا. لا استطيع أبدا أن أصف أي دولة، وأي حكم بالبراءة، ففي الوقت الذي نقرأ فيه من هم وراء الجماعات المسلحة، نقرأ فيه أن هذه الدول ضد الجماعات المسلحة، ومن ثم أي حوار لن يصل إلى نتيجة غير ما نراه بأعيننا، أن هذا العالم العربي في نكبة كبيرة، وبصفة خاصة الشرق منه. وفي الوقت الذي تقرأ فيه عن أياد أجنبية تقرأ فيه عن أياد محلية، والنتيجة هي ما نراه أمامنا.
مئات الروايات والقصائد تنتشر الآن عن هذه الأوضاع التي صارت مادة الكتابة الرئيسية، لكن ألم يكن ممكنا أن تستقر أحوال البلاد، ويكون لدينا نوع آخر من الإنتاج الأدبي. هل لا بد أن يكون الثمن كل هذا الخراب، تخيل بلدا مثل سوريا وحدثت فيها ثورة ما لبثت أن امتدت إليها الأيادي الخارجية العربية قبل الأجنبية، وركبت الثورة الجماعات المسلحة، التي وجدها النظام فرصته فتحالف مع دول مثل إيران وروسيا وحزب الله، وشن غارات جبارة على الجميع، وتم تدمير البلاد، في الوقت الذي كلما توسعت «داعش» وغيرها من جماعات مسلحة على الناحية الأخرى تدمر في البلاد حتى تم نسيان الثورة. وتصور أن الدول العربية التي دفعت بالجماعات المسلحة، صارت أخيرا تقترب من النظام الحاكم فلماذا كان هذا كله؟ لماذا لم تترك الثورة للثوار، بعيدا عن دعم الجماعات المسلحة، وحتى لو فشلت غير أن تُنسى ويشتعل الجحيم. تخيل أنت بعد أن قفز الحوثيون إلى الحكم في اليمن، لو تُرك الأمر لأهل اليمن، ولم تُشن عليها الحرب هل كان الوضع سيكون كما نراه الآن، انشقاق في اليمن بين الشمال والجنوب، ودمار كامل للبيوت التقليدية والآثار، وملايين من المرضى والجائعين من الأطفال والناس، غير القتلى والمهاجرين، وفي النهاية لم ينجح أحد. في كل الدنيا من حق أي دولة أن تدافع عن نفسها، حين يحدث عليها عدوان، لكن شعبا يثور ويفشل، فلماذا التدخل في شؤون حياته من دول أخرى؟ وكيف لا تعرف هذه الدول أنها لن تنجح لأن من تشن عليهم الحرب سيفتحون أو فاتحين لطرق مع دول أخرى مثل، إيران، ولا يهمهم أن يُقتل الناس بقدر ما يهمهم البقاء. لو تُرك الأمر للشعب اليمني هل كان سيحل به كل هذا الدمار.
أيها الحكام لا نريد أن نكتب شيئا عن الخراب، ولا عنكم، ولا عن أي شيء مما تنثرونه حولنا من ضياع. سيجد الكتاب ما يكتبونه في السلم، كما يجدونه في الحرب، فدعونا ننعم بالسلم وانتبهوا إلى أحوال بلدانكم، بعيدا عن اختيارات البلاد الأخرى.
الأمر نفسه في ليبيا بعد ثورة دامية يتفق أهلها على حكومة يعترف بها العالم، فيقفز إلى الصورة عسكري هو حفتر، تساعده دول كالإمارات والسعودية ومصر وفرنسا وروسيا، خشية من سيطرة الإخوان على الدولة الجديدة، وطمعا في بترولها بالنسبة لدول مثل روسيا وفرنسا، فتذهب حكومة الوفاق إلى تركيا أو قطر، وتتسع المعركة ويبدو أنها لن تنتهي إلا بتقسيم البلاد. لو تُرك الأمر لليبيين ليكونوا أحرارا في اختيارهم، هل كانوا بعد الاستقرار سيشنون الحرب على أي دولة؟ وهل سيستطيعون؟ وهكذا يبدو الأمر كله من صنع أيدينا، أو صنع أيدي حكامنا العرب، حتى أن تجربة مثل تونس، تمشي بصعوبة في طريق النجاح، لا تسلم من تدخلات وإن كانت من بعيد، لوعي الشعب التونسي ووعي أحزابه. أنا لا أعرف من تحارب الأنظمة العربية؟ لا أرى إلا خرابا في كل مكان وليست هناك حرب واحدة نجحت في تحقيق أي شيء. كل هذا يعطي مادة واسعة للكتابة، لكن هل كانت الكتابة بحاجة إلى كل هذا القتل؟ ثم تأتي العاصفة الجائحة الأكبر في بيروت. الجائحة الأكبر لأنها حدثت في دقائق بعد انفجار مرفأ بيروت، بسبب الكميات المرعبة من نترات الأمونيا المخزنة فيه منذ عام 2014. تأتي الجائحة في الوقت الذي كان فيه اللبنانيون يثورون على الفقر والفساد في مظاهرات سلمية، وكان الرد هو خراب بيروت وخراب لبنان. خراب البلاد. أعادنا الخراب إلى لبنان أكثر من أي وقت، وتاريخها وبيروت نفحة السماء على الأرض، وظهرت المراثي، وحملت الميديا الحكايات، وسوف يجد الأدب والأدباء مادتهم العظيمة فيها لسنوات، لكن ألم يكن ممكنا أن لا يحدث هذا؟ هل كنا سنحزن لأننا لم نكتب رواية عن خراب بيروت؟ هل لو لم تحدث الحرب الأهلية في لبنان في النصف الثاني من السعبينيات الماضية كنا سنحزن على عدم وجود روايات وأشعار عما جرى للبلاد؟ السؤال الذي يقتلني هو ماذا تريد هذه الأنظمة الحاكمة من الحروب، ومن السجون المفتوحة، ومن القمع ومن امتلاك الحقيقة وحدها والحقيقة هي الخراب حل بالبلاد؟ ولا أحد يراجع سياسته في ما يفعل، بحيث تتقدم بلاده ويترك البلاد الأخرى تتقدم وحدها، وتختار طريقها الذي تريده، وحين تعتدي عليه يحاربها، ولن تعتدي عليه حتى يشن حربا مقدما من أثر الأوهام، أو رغبته في التخلص من أي مظهر من مظاهر الربيع العربي.
لقد انتهى الربيع العربي ، فهل يمكن أن تبتعدوا عن البلاد الأخرى. الآن لن تهدأ الأمور في لبنان، وسنعرف الحقيقة وراء ما حدث، لكن هذا ليس هو المشكلة. المشكلة هي ما سنراه من محاولات التدخل لتقسيم كعكة لبنان من جديد، والأمر منذر بحرب أهلية أخرى، وبلد أسطوري صاحب حضارة عظيمة آخر سيضيع.
أيها الحكام لا نريد أن نكتب شيئا عن الخراب، ولا عنكم، ولا عن أي شيء مما تنثرونه حولنا من ضياع. سيجد الكتاب ما يكتبونه في السلم، كما يجدونه في الحرب، فدعونا ننعم بالسلم وانتبهوا إلى أحوال بلدانكم، بعيدا عن اختيارات البلاد الأخرى. لقد رأيتم الأصوات الداعية لعودة الانتداب الفرنسي إلى لبنان يأسا مما فيها، ولا ينقصكم إلا أن تروا إسرائيل تفتح شواطئها للمهاجرين العرب. أعرف أن إسرائيل لن تفعل هذا لأنها بلد يريد أن يكون خالصا لليهود، لكن ماذا سيحدث لو فعلت ذلك من باب النكاية بكم؟ أيها الحكام لا نريد أن نكتب. نريد أن نعيش. أيتها الجامعة العربية أغلقي أبوابك واتركي مكانك يتحول إلى مركز للرقص والغناء فهو أفضل.
٭ روائي مصري
يبدو يا صديقي أنك تتجاهل حقيقتين أولاهما أن الحكام العرب مجرد وكلاء ينفذون أوامر الكفيل الغربي والصهيوني، والأخرى أنهم جميعا إلا من رحم الله لصوص يحولون ما يسرقونه إلى بنوك الغرب وتل أبيب ودبي، ومعهم كتائب من اللصوص متعددة المستويات من لص كبير إلى لص صعير، وكلهم يخدمون الكفيل الأكبر في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والدعائية. وقد حدد لهم الكفيل الأكبر هدف رئيسا واحدا هو الإسلام مصدر الخطر الأعظم الذي تحدث عنه المستشرقون منذ القرن التاسع عشر. الإسلام هو الهدف الذي يجب سحقه، لأنه يحرض على الحرية والعدل والكرامة، وهو ما لا يريده الوكلاء واللصوص والنخب التي يشترونها، وتجيد التلون كالحرباء. رحم الله عصام العريان، شهيد الحرية الذي قتلوه قهرا ، ويشهر به نعال البيادة ومحجوب عبد الدايم!
تحية للكاتب الكريم الجامعة العربية لم تغلق ابوابها بعد و لكن من يتحكم فيها
–
يجيدون السيرك و فنون المسخ المريع للاوطان