تحتل الألقاب المهنية والعلمية رسمية أو شعبية مكانة مهمة في أنساق حياتنا العامة، متحكمة في كثير من أساليب التعامل في ما بيننا. وعادة ما تنال الشخصيات هذه الألقاب بسبب ما تحرزه من إنجاز إنساني أو تحصيل علمي وما تتمتع به من مكانة مميزة في ميدان من الميادين الحياتية المختلفة.
واللقب التشريفي صفة اعتبارية تمنحه جماعة معنيّة بشأن من الشؤون ليكون اسما دالا على شخصية ما. وليس اللقب هوية، كون القصد من إطلاقه ليس التحديد المهني لطبيعة عمل الشخص؛ فقولنا فلان مهندس أو محام أو دكتور ليس لقبا تشريفيا. ولا يكون اللقب تدليلا على الموقع فنقول فلان رئيس أو مدير أو عميد فهذا منصب. ولا تحديدا للمستوى والطبقة كأن نقول فلان برجوازي أو فلان جامعي. ولا تصنيفا أثنيا كقولنا جنوبي أو سرياني، فهذه كلها وغيرها توصيفات يشترك فيها أفراد كثيرون وتكون لهم بمثابة هوية مخصوصة ضمن المجال المحدد الذي ينتمون إليه.
والمفترض في الألقاب أنها تُمنح من لدن أناس متخصصين في مجالهم وخبراء لهم احترامهم أو جهات رسمية موثوقة كأن تكون جامعات أو مراكز دراسات أو معاهد بحث تمتلك المؤهلات التي تجعلنا مطمئنين إلى أحكامها، ومن ثم لا تشوب مكانة من يطلق الألقاب شائبة من الناحية الموضوعية حتى إذا مُنحت شخصية ما لقباً فينبغي أن يكون ذلك المنح في مكانه دقيقا ونزيها ليس فيه محاباة ولا مراعاة؛ بل هو التمييز الذي يستحقه الملقب، والموضوعية التي تحقق المقبولية للقب الممنوح.
والمسألة لا تتعلق بالأشخاص الذين يُنعتون بهذه الألقاب فلربما يكونون مستحقين لها وأكثر، لكن الإشكال يكمن في مدى مشروعية إطلاق الألقاب وهل تخضع لمعايير محددة؟
وقد تثار الشكوك حول بعض التلقيبات وذلك رغبة في الوصول إلى حقيقة إطلاقها؛ فالأمر ليس متروكاً على الغارب كي يقوم هذا أو ذاك باطلاق الألقاب على آخرين قد لا تنطبق عليهم أصلاً.
ومؤخرا صرنا نشهد إطلاق ألقاب تشريفية ونعوت تكريمية على شخصيات معينة بطريقة مجانية من دون اعتبار للمعايير اللازمة لمنحها ولا احترام للرأي العام أو الشعور بالمسؤولية في اعتمادها لاسيما في مقالات صحافية يطلق كتّابها ألقاباً على شخصيات أدبية ونقدية وأكاديمية وبحثية؛ وهو أمر يتطلب وقفة حازمة ونظرة جادة. ومما صادفني من ألقاب ونعوت أخذت تطلق مؤخرا وبأوقات غير متباعدة وكأن مطلقيها خبراء علماء: الشاعر الكبير والقاص الخالد وفلان المفكر وفلان العلّامة.
ولا يخفى أن من يلقب بواحدة من هذه الألقاب والنعوت لا يكفي أن يكون متميزا ببعض المزايا في مجال عمله؛ بل ينبغي إضافة إلى ما تقدم أن يكون له تميزه الفريد الذي به يغاير مجايليه إبداعا وابتكارا وضمن الحقل نفسه الذي عمل فيه وتخصص؛ وإلا فإن الشهادة والخبرة في التخصص وكثرة التأليف والأكاديمية لن تكون كافية لأن تعطي لصاحبها التمايز الذي يجعله ليس كغيره بينما هو في الحقيقة يتقارب مع آخرين لهم ما له من إمكانيات.
وإلى جانب ما تقدم أيضا ينبغي في منح الألقاب أن يكون المطلق لها على دراية بحقيقة الشخصية مستقصيا منجزاتها وحياتها وما قيل فيها استقصاء دقيقا كي لا يكون إطلاقه لمجرد هوى في نفسه تجاه تلك الشخصية أو لاجتهاد شخصي محض وبجزافية ليست لها دعائم.
وعادة ما تتحلى الشخصيات الملقبة بالألقاب التشريفية بباع حياتي أو علمي هو نتيجة جهد ذاتي وانقطاع للمعرفة بشكل تام في مجال من المجالات بما يجعل الشخصية متميزة إبداعيا أو ربما علميا أو معرفيا وإنسانيا عن الآخرين المعروفين ضمن مجال معين، أما بسلسلة لا تحصى من المتراكمات الإنتاجية والسيرورات الإبداعية وبلا أدنى خمود أو فتور، وأما بتأليف الكتب المتوالية المحملة بالاجتهادات الخاصة والطروحات البناءة وأما بالتتابع الدائم والمداوم بحثا وتقصيا وبفاعلية لا تعرف انقطاعا مع سيرة حسنة وسلوك مشهود له في المحافل المختصة.
فطه حسين مثلا لُقّب بعميد الأدب العربي في بدايات القرن الماضي، لا لأنه كان أستاذا وأكاديميا وباحثا وأديبا وقاصا ومقاليا مميزا وإنما أيضا فرادته في كل واحدة من هذه المزايا التي لا يضاهيه فيها أحد إن لم يكن متفوقا بها كلها، على غيره حتى أنه لا يشبه أحدا ولا أحد يشبهه. وها قد مضى أكثر من 47 عاما ولا أحد يستطيع أخذ اللقب منه. هذا اللقب الذي منحه إياه الرأي العام ناظرا إليه مفكراً أثارت كتاباته جدلا وتعرض بسببها إلى المضايقات، فكان منها الإقالة من الوظيفة والتشهير والتكفير. الأمر الذي جعل احتجاجات الطلاب والأساتذة تصدح خارج أسوار الجامعة المصرية، هاتفين أنه “إذا أقيل طه حسين من عمادة كلية الآداب فإنه عميد للأدب العربي كله”. وكذلك ما لُقب يوسف وهبي بعميد المسرح العربي إلا بسبب ما قدمه للمسرح من مجهود تجديدي كبير كان بمثابة مدرسة تخرج فيها الرعيل الأول من الفنانين والممثلين والمسرحيين الكبار. وما لُقب الفنان يوسف العاني بعميد المسرح العربي والأفريقي إلا بعد مسيرة شاقة في الميدان المسرحي نافت على السبعين عاما تأليفا وتمثيلا وكتابة نقدية. ومعلوم أن الأب أنستاس الكرملي كان يتمتع بالموسوعية والباع المعرفي الكبير في مجال اللغة والأمثال واللهجات والمعاجم ولشدة حبه للعلم وانقطاعه إليه منحه المتخصصون الصدارة المعرفية بلقب “العلامة”.
وليس مثل الأدب والنقد ميدانين هما أحوج ما يكونان إلى الدقة في إطلاق لقب محدد أو نعت معين أو منح تسمية ما. ومن ثم يغدو لقب كبير مثل “العلامة” غير سهل ولا متاح لان يُسمى به أحدهم بشكل جزافي وغير مسؤول.
ولعل وراء التسمية أسباب ليس العلم واحدها، وأهم تلك الأسباب الارتفاع باسم الملقب وتضخيمه، إما لهوى في النفس أو لرغبة في رد جميل. ونادرا ما تكون الشخصية الملقبة واقفة خفية وراء ذلك الذي يسميها بالعلامة إما لأن اسمها في الأساس مصدر بواحدة من المسميات (الدكتور أو الأستاذ أو الباحث) أو لأنها معروفة عند الجميع ومنجزها وأكاديميتها تكفيان في التدليل عليها قولا وفعلا.
بيد أننا نرى أن الفرادة التي يقتضيها لقب العلّامة قد تستحقها أسماء، بعضها ما كان أكاديميا ولا صاحب شهادة جامعية ولا أستاذا أو مدرسا ومع ذلك كان لعلمها فيض يشهد به القاصي والداني ولمنجزها أثر لا تخطئه العين كعباس محمود العقاد مثلا. وعموماً؛ فإن الشخصية الكبيرة ذات الغنى المعرفي عادة ما تكون برمة بالألقاب فلا توليها اهتماماً كبيراً لكونها لا تضيف إليها شيئاً.
* كاتبة عراقية
شكرًا أختي نادية هناوي. كما تلاحظين أنا لاأحبذ أبدًا الإستخدام السائد نوعًاما للألفاب العلمية لأنها أصبحت سلعة يتم المتاجرة بها وعذرًا للتعبير القاسي لكن هكذا يبدو لي الأمر في بعض الأحيان إن لم يكن إنتشار واسع. وليس فقط للألقاب الأكاديمية بل أيضًا سياسيًا وصل الحد إلى جعل الحكام أشبه بالآله وفرعنه! أحييك على هذا المقال الجدير بالإهتمام واتمنى أن يلقى اهتمام واسع.
انا باحث من المغرب ابحث عن كتب الاستادة عناوين من فضلكم