كان مرور نصف قرن من الزمان على ثورة أكتوبر الأسطورية في السودان مناسبة لتأملات كثيرة، واستعادة أحداثها، ثم استقاء الدروس والعبر. وتكتسب هذه المناسبة أهمية مضاعفة، ليس فقط بسبب أوضاع السودان الحالية، ولكن ببساطة لأن «جيل أكتوبر» في طريقة للانقراض، حيث أن معظم من بقي على قيد الحياة ممن شارك في تلك الأحداث هم في السبعينات من العمر أو ما فوقها.
ولا شك أن تلك الثورة كانت فريدة في زمانها، لم يقرب من مضاهاتها حدث من انتفاضات الشعوب في تلك الحقبة. صحيح أن انتفاضات «ربيع براغ» وثورات طلاب أوروبا تبعتها بعد هنيهة، ولكن ثورة براغ قادها جناح ليبرالي في السلطة والحزب، ثم لم تلبث أو وئدت بتدخل سوفييتي، بينما قامت ثورات طلاب أوروبا وأمريكا في مناخ ديمقراطي يسمح بالتظاهر السلمي. ولم تقع ثورة مماثلة، قوامها الحشد الشعبي السلمي وتنجح في إسقاط نظام دكتاتوري إلا في الفلبين عام 1986. وفي ذلك الوقت، كان السودان قد شهد ثورة ثانية في عام 1985 أسقطت نظاماً دكتاتورياً آخر، أكثر شراسة من سابقه، وفي فترة أقصر.
ولكن الاحتفال بثورة أكتوبر استعاد بدوره كثيراً من الأساطير والالتباسات (أو أشكال التلبيس، لأن كثيراً منها متعمد) حول طبيعة تلك الثورة وحقيقة ما جرى فيها. ولعل أول أوجه التلبيس تتجلى في أن كل الروايات حول تلك الثورة تركز على تعظيم دور الراوي وشيعته في تلك الثورة، مع الإصرار على نفي أو تقليل دور المنافسين. وينبع هذا من أن كلاً يدعي وصلاً بليلى أكتوبر تحديداً بسبب القيمة الأسطورية لتلك الثورة التي يجمع الكل على عظمتها وروعتها.
وينسى هؤلاء الرواة أن عظمة أكتوبر تأتي أساساً من الإجماع الذي تحقق فيها وحولها، وأن أي محاولة لاستخدامها لأداة للإقصاء والهيمنة يقضي على أهم خصائصها. وسنأتي لاحقاً لتفاصيل التنازع حول مكاسب الثورة ودعاوى الفضل فيها، وما سببه من ضرر بليغ للسياسة السودانية ما تزال البلاد تعاني من تأثيره.
ثاني وجوه التلبيس يبرز في المبالغة في تضخيم سوءات النظام العسكري، وتعظيم سطوته من جهة، وأخطائه وخطاياه من جهة أخرى. ولا شك في أن النظام العسكري كان نظاماً دكتاتورياً، ولكنه كان نظاماً «أبوياً» لم يبالغ في القمع والقهر، حيث كان عدد المعتقلين السياسيين فيه يعد بالعشرات، ولم يكونوا يمكثون في السجن إلا فترات قصيرة. وقد كانت الأحزاب وقياداتها، رغم الحظر الرسمي عليها، تتحرك في العلن. ولكن الأهم من كل ذلك، هو أن النظام لم يتغول على مؤسسات الدولة، بدءاً بالجيش. فبخلاف ما حدث في انقلابي عامي 1969 و 1989، فإن مؤسسة الجيش، وليس صغار الضباط، كانت من استولى على السلطة. وبهذا حافظت المؤسسة العسكرية على انضباطها وتماسكها، ولم تصب بما أصيبت به الأنظمة الانقلابية الأخرى في السودان وخارجه من هيمنة صغار الضباط على كبارهم، مما يقوض أساس الانضباط في الجيش.
لا يقل أهمية عن ذلك أن النظام حافظ على استقلال القضاء وحيادية الخدمة المدنية، ولم يمارس العدوان على مؤسسات الدولة بالاختراق والتخريب كما فعل اللاحقون. وشمل ذلك أجهزة الإعلام، حيث سمح للصحف المستقلة بالاستمرار في العمل، وكذلك حافظ التعليم على مهنيته، وتمتعت الجامعة باستقلاليتها رغم محاولة فاشلة لإلحاقها بوزارة التربية والتعليم. ونذكر هنا أن النظام العسكري استعان بشخصيات وطنية لها وزنها وسمعتها الطيبة، مثل أحمد خير المحامي، أحد رواد الحركة الوطنية، وزيراً للخارجية، والقاضي أبو رنات.
وهذا يفسر سرعة سقوط النظام، ونزوله عند إرادة الشعب. على سبيل المثال، كثرت الروايات عن دور القضاء في التصدي للشرطة ومنعها من قمع المواطنين. ولكن هذا الدور يعود أساساً لأن النظام حافظ على سلطة القانون، بحيث لم يكن متاحاً للشرطة استخدام العنف لفض الاحتجاجات دون إذن قضائي. فبدون هذه المنظومة التي تلزم الشرطة بالخضوع للقانون، لم يكن ممكناً أن يلعب القضاء هذا الدور. كذلك فإن تمرد القيادات الوسيطة في الجيش ورفضها الاشتراك في قمع المدنيين، بل تهديدها بالتصدي لمن يقوم بذلك، كان عاملاً حاسماً في إسقاط النظام. وهذا الدور ما كان ليكون متاحاً لولا المحافظة على مهنية الجيش والبعد عن تسييسه، كما حدث في الأنظمة اللاحقة.
إذن يمكن أن نقول إن النظام العسكري سقط في أكتوبر 1964 (والأصح في نوفمبر من ذلك العام) لأنه لم يكن بالسوء الذي صوره به خصومه. صحيح أنه واجه انتفاضة شعبية شاملة، ولكن قمع مثل هذه الانتفاضات متاح، كما أثبت نظام النميري في أعوام 1973 و 1982، حين نجح في قمع الاحتجاجات الطلابية والشعبية والنقابية، وضرب وحدتها ثم القضاء عليها. ولعل المفارقة هي أن أول ما قامت به الإدارة المدنية التي تولت السلطة بعد أكتوبر، وكانت تحت هيمنة يسارية في مبدأ الأمر، أن شرعت في تقويض أسس المهنية في الخدمة المدنية وتسييسها تحت لافتة «التطهير»، وكانت هذه بداية كارثة لم تسترد منها مؤسسات الدولة عافيتها وحياديتها حتى اليوم.
من جهة ثانية فإن تقويض تجربة أكتوبر بدأ مع التنازع السياسي حولها. ذلك أن أهم ميزة للثورة تجسدت في التضامن السياسي بين كل القوى السياسية والمدنية والمجتمعية، والتفاف الجميع حول قيم الديمقراطية. ولكن ما أن نجحت الثورة، حتى بدأت التنازع حول «ملكيتها». وكانت البداية من «خدعة» يسارية شملت «تهريب» عناصر مسيسة إلى حكومة أكتوبر الأولى تحت غطاء المؤسسات النقابية والمهنية والمدنية التي تم التوافق على تمثيلها تحديداً لحياديتها. فقد تم الاتفاق على تمثل الأحزاب السياسية بوزير لكل منها، إضافة إلى وزيرين يمثلان الجنوب، على أن يكون البقية من المستقلين وممثلي النقابات والمنظمات المدنية والمهنية. ولكن غالبية ممثلي تلك المؤسسات كانوا من اليسار، بل أعضاء في الحزب الشيوعي، مما جعل اليسار يحظى بما يشبه الأغلبية في الحكومة. وقد تم تصحيح هذه المعادلة بضغط شعبي بعد ثلاثة أشهر من الثورة.
العبرة من هذا هو أن الروايات اليسارية بدأت من تلك النقطة لتتحدث عن دور سابق متميز، بل حاسم، لليسار في الثورة، لتتبع ذلك برواية «خيانة» الثورة «التقدمية». وكانت تكملة هذه الرواية في توصيف انقلاب مايو بأنه كان «التصحيح» لذلك الانحراف واستعادة الثورة مسارها الصحيح. أي أن ثورة كان جوهرها توحيد السودانيين ضد حكم العسكر والاستبداد، استخدمت في روايات أسطورية لتشريع عودة العسكر إلى الحكم والانقضاض على الديمقراطية والشروع في استراتيجية قمع يخجل منها النظام العسكري القديم. وقد كان هذا الافتراء على الثورة كارثة أخرى، لم تكن وبالاً على البلاد فحسب، بل كذلك على فصائل اليسار التي أصبحت من ضحايا هذا التسويق للأيديولوجيا (بالمفهوم الماركسي للتعبير).
ولعل العبرة الأولى من تأمل «أساطير» ثورة أكتوبر هو ضرورة معالجة هذا التناقض الذي يمجد الثورة على انها انتفاضة الشعب بكامله ضد نظام قمعي، ثم يعود ليدعي احتكار تلك الثورة ورمزيتها لفئة بعينها دون بقية فئات الشعب. فمثل هذه الروايات «الأسطورية» لا تناقض الواقع فحسب، بل هي بنيات ذات ثمار مرة، بل سامة، كما شهدنا.
ولنا عودة، لأن اليسار لم يكن وحده الذي روج لأساطير قاتلة وفتاكة حول طبيعة تلك الحقبة من تاريخنا.
٭ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
د. عبدالوهاب الأفندي
شكرا” يا دكتور على هذه الاضاءة , فعلا” نحتاج الى ان نفهم ماضينا و نستوعبه و نسمح بالاختلاف بيننا اذا اردنا ان ننهض من جديد …….
قبل ايام عرضت قناة الجزيرة وثائقيا عن ثورة اكتوبر وكان متحاملا على عبود بشدة ولم يرد فيه أى رأي لمسؤول خلال تلك الفترة بل اورد اراء الطرف الاخر. ليتهم يطلعون هذا المقال المنصف.
مقال محترم