الهوية معادلة معقدة

حجم الخط
8

ما الذي يساهم بشكل فعلي في بناء الهوية؟ هل يمكن لأي نظام معرفي أن يغير المعالم الهوياتية للأفراد والجماعات؟ وبتعبير آخر هل يمكن للهوية كشعور ثابت يربط الإنسان بجذوره الجغرافية والثقافية، أو الدينية، أن ينسحق جرّاء عوامل معينة، ما يؤدي إلى انسلاخه من كل تلك الروابط وتحوّله لكائن يقف فوق ألواح متحركة، تحرمه الشعور بالاستقرار والثــــبات، وتقوده تدريجيا إلى اختلال توازن دائم، ثم فقدان كامل لبوصلة التقدم؟
الفرضية المبنية على مفهوم «الهوية»، ازدادت تعقيدا مع الزمن، فالتغيرات التي تعرّض لها العالم، أسست لفرضيات جديدة لمفهومها، وكلها صحيحة رغم اختلافها. فيما تفكك تماما المفهوم القديم الذي يربط الهوية بالانتماء الجغرافي، أو العشائري، أو ما شابه. يصعب اليوم أن نحدد هوية شخص سُحِبت منه جنسيته في بلده الأصلي، بسبب إفصاحه عن بعض الأفكار التحررية، التي لا تناسب هيئات سياسية ودينية في بلاده، وفي المقابل مُنِح جنسية البلد المستضيف له، والتي تمنحه كل حقوقه التي حرم منها في بلده الأم. نقف عاجزين أمام هذه التغيرات النّاسفة لرؤى لم تعد مناسبة لواقعنا المعيش. أتابع مثلا قصة حياة المرأة التي شعرت دوما بأنّ روحها الحقيقية وجدت في جسد غير جسدها، وأجرت سلسلة من العمليات الجراحية التي حوّلتها إلى رجل، ما جعلها تجد السكينة مع نفسها أخيرا، يصدمها المحيط المقرب منها والبعيد، برفضه الكلي لها بعد هذه التغيرات، فلا يكتفي بتعذيبها معنويا ونبذها، بل يهددها بإنهاء حياتها، فتخرج من كل الحدود التي ترسم هويتها القديمة، تطلب لجوءا، حتى تجد نفسها وقد أصبحت «مواطنا» في بلد آخر، بهوية جديدة، تسمح له بالعيش كأي إنسان عادي، لكن تماما كما أشعر بالقلق وأنا أتعثر بين ضميري التأنيث والتذكير لوصف الحالة كنموذج صغير عن تغير مفهوم الهوية، أرى هذا التعثر الذي يقع فيه كثيرون، مهاجرون من أجسادهم إلى أجساد أخرى، مهاجرون من أوطانهم الظالمة إلى أوطان أكثر إنسانية ورأفة بهم، وآخرون هاربون من طوائفهم إلى اللاطائفة، من ثقافة بائدة إلى ثقافة مواكبة للتطورات العظيمة التي يشهدها العالم…
لا هوية ثابتة، لا مفهوم مستقر على تعريف من تلك التعريفات، التي تفرّعت من بعضها بعضا. يُولد اليوم مفهوم جديد مرتبط بصناعة الهوية، لا على ما تفرضه الجماعات المنغلقة على حالها، بل على الفردانية المنبثقة من رغبات الأنا، ومدى ارتياحها في عناوين تعرّف عنها. يصعب على القارئ المتعب من أسئلة لا أجوبة نهائية لها أن يبحر في شساعة المصطلح واتجاهاته سيسيولوجيا وسيكولوجيا، كما ليس كل قارئ على استعداد لخوض هذه المغامرة، لهذا تحضرني حكاية شانتال وحبيبها جان مارك، التي رواها الروائي الفرنسي من أصول تشيكية ميلان كونديرا في روايته «الهوية»، وكما العادة أراهن على أن الرواية أكثر تمكنا لإيصال الأفكار للقارئ مهما تعقدت. كونديرا نفسه سحبت منه جنسيته التشيكية، بعد معاناة وقمع لم يحتملهما، فلجأ إلى فرنسا وطلب جنسيتها، هذا جانب يجعلنا ربما نفهم موضوع الهوية من خلال أدبه، وتحديدا هذه الرواية. وهي من أغرب رواياته، بعنوان مباشر، وحاد، بدون أي إيحاءات أدبية جمالية فيه، كأنما انزلق من قلم كونديرا سهوا وهو يفكر في موضوع يبني عليه فكرته الروائية.

لا هوية ثابتة، لا مفهوم مستقر على تعريف من تلك التعريفات، التي تفرّعت من بعضها بعضا. يُولد اليوم مفهوم جديد مرتبط بصناعة الهوية، لا على ما تفرضه الجماعات المنغلقة على حالها، بل على الفردانية المنبثقة من رغبات الأنا، ومدى ارتياحها في عناوين تعرّف عنها.

الحكاية لا تبدو في البداية أكثر من قصة رجل وامرأة عاديين جدا، يقعان في الحب، لكن، انتباه! الكاتب يحذرنا منذ البداية من أن «الشخصيات الروائية لا تولد من جسد أُمّ من لحم ودم، لكن من حالة، جملة، استعارة تحتوي على بذرة بشرية أساسية يتخيلها المؤلف غير مكتشفة بعد، أو أنه لم يتم ذكر أي شيء أساسي عنها».
تولد «شنتال» من رحم وصف شحيح يحيلنا إلى هوية غريبة، «الرجال لن ينظروا إليّ بعد الآن»، فمتى كانت محبوبة؟ ومتى أصبح الأمر غير ممكن؟ ما الذي تغيّر فيها لتصبح لامرئية أو غير جذابة؟ ثم هل يمكن أن تتغيّر نظرتنا للآخر، فنحبه في بعض حالاته، ونكرهه في أخرى؟ هل الحب مرتبط بهوية المعنِي التي تعرف عنه، أم بأمور أخرى يجتهد في إبرازها؟ وضعنا كونديرا في مواجهة قصة مربكة، مليئة بالأسئلة، وقد قيل إنها نص تراقصت فيه علامات الاستفهام بعدد نافس الكلمات، فهل السبب صعوبة بلوغ المعنى الحقيقي للهوية؟ للوهلة الأولى نعتقد أن كونديرا يقدم نمطا بسيطا من الكتابة، بعيدا عن «أطروحاته الفلسفية»، ولكنه سرعان ما يعود إلى الصف الذي تعوّد أن يوقفنا فيه، فيخرج من قبعته السحرية المعنى تلو المعنى لاحتمالات هوية شنتال، وكأنه يريدنا أن نعرف أن الهوية صورة يصنعها الآخر لنا، بالتأكيد هناك هوية ذاتية، نولد معها وتولد معنا، لكن الحياة تمضي في خط تصاعدي، نكبر ونشيخ، نفقد أحبة، ونكسب آخرين، وخلال حياتنا المتشابكة بالناس يصبح لدينا أعداء، هم أيضا لديهم تأثيرهم في صنع هويتنا، وتغيير ثقلها حتى بيننا وبين أنفسنا.
في تخيلات شانتال، وضياعنا ونحن نبحث معها عن مراسلها السري، تطرح كل أنواع الاحتمالات للرجل المعجب الذي يطاردها برسائله، ننسى جان مارك الذي تقاسم معها الحياة على الحلوة والمُرّة، نجد مبررات لها وهي تستعيد فرحها بعاشقها السري، ثم ننتكس دفعة واحدة حين نكتشف النهاية التي خطط لها المؤلّف، فتحضر آراؤنا، بحدّة وانفعالية، فما حدث ليس مقبولا. فكل تلك الهزّات العنيفة وليدة مخيّلة ملّت من السكون، والحياة الرتيبة، وهي الأسباب التي تجعل من هوية صاحبها هوية باهتة، مسطّحة، تكاد تظهر للعيان لو أنها بعيدة بعض الشيء عن الظلال، لو أن الضوء لامسها قليلا، وهذا كان دور «فكرة الرسائل» التي كانت العامل الفعّال الذي كشف الستارة عن هوية مجهولة لشانتال، وأيضا لجان مارك نفسه.
يحصل الإنسان على هويته باسم ولقب عائلي وتاريخ ومكان مولده، ثم شيئا فشيئا تبدأ التعقيدات تطاله، حين تتسع مداركه ومعارفه، ويصبح القرار في يده أو في يد غيره. قد يكون مجرد «قطرة» تسبح في سائل بحجم المحيط، وقد يكون النقطة التي تقترب شيئا فشيئا وتأخذ الأشكال المختلفة وفق المسافة التي تتحكم في نظرنا.
ألم نرَ أشباحا في غرفنا ليلا حين كنا أطفالا؟ ألم يكن الشبح في الحقيقة قميصا معلّقا على شمّاعة مثبّتة على الحائط؟ أو انعكاسا لنور طفيف تسرب من بين شقوق النافذة؟
أعتقد أن الحديث عن الهوية، وفق نظرة أدبية محضة، يشبه إلى حدٍّ كبير نظرة كونديرا، وهو أقرب إلى اكتشاف هوية الشبح الذي تختلف حقيقته، حسب قوة الأضواء الموجهة نحوه، وقوة الإدراك المرتبطة بتقدمنا في العمر كعامل زمني جد مهم.
لكن هل انتهينا هنا؟ لا أظن، فاليوم حسم العلم معضلة الهوية في معطيات أخرى بدأت ببصمات أصابع اليد، إلى بصمة العين، ونتائج الـ DNA . هل ينسف هذا الأمر بما قدمته الفلسفة وعلم الاجتماع من مفاهيم للهوية؟ بالطبع لا، فكل هذه المعارف بدأت بفضول السائل، وانتهت بالإجابات، لكن بعد أن سلكت دربا طويلا نحوها. أمّا الخطورة فكانت حتما تكمن في قمع فضول السائل، فقد تطور وتحقق مفهوم الهوية لدى الشعوب المؤمنة بالحرية. أمّا في الشق المظلم من العالم فلا يزال الإنسان غير متأكد من هويته أقميص هو أم مجرّد شبح!

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد محمود اخيارهم:

    بعبارة أخرى ما بين السفر من الهوية العربية مرورا بالصهيونية واخيرا المثلية تدجين المصطلحات
    لقد أصبحت الصهيونية معبودة السلطات الاماراتية

  2. يقول S.S.Abdullah:

    صدام حسين، كرئيس دولة الحداثة، ضرب مفهوم (الهوية) عام 1980 من زاوية، وفي عام 1990 ضرب مفهوم (الهوية) من زاوية أخرى،

    للإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية في دولة الحداثة، وفق محدّدات سايكس وبيكو،

    هو أول تعليق لي على ما ورد تحت عنوان (الهوية معادلة معقدة) والأهم هو لماذا؟!

    الكاتبة من البحرين، والبحرين من ضمن مجلس التعاون في الخليج العربي،

    الذي تم تأسيسه، بعد إحتلال المسجد الحرام في مكة، بواسطة فكر (المهدي) وجهيمان، في بداية عام 1400 هجري،

    في نفس الفترة، تم تأسيس دولة ولاية الفقيه في إيران عام 1979، بعد عودة (الخميني) من فرنسا، بأموال (معمر القذافي)، عنداً وكيداً ومنافسة (لصدام حسين)،

    تم إعلان الحرب العراقية الإيرانية، بين عام 1980، وحتى 8/8/1988،

    تم سحب الجنسية العراقية، وتسفير، بطريقة وحشية، كل من كان مدوّن، في شهادة الجنسية، أنّ عائلته لم تملك الجنسية العثمانية،

    وفي يوم 2/8/1990، ابتلع (صدام حسين)، دولة من دول مجلس التعاون في الخليج العربي، في أربع ساعات،

  3. يقول S.S.Abdullah:

    وتم إلغاء الجنسية الكويتية، عام 1990، كما حصل مع إلغاء الجنسية العراقية، عن عدد مماثل تقريباً، لما حصل عام 1980، سبحان الله،

    (نوري المالكي)، من أجل القضاء على مقاومة قوات الإحتلال، أثناء فترة حكمه،

    جمع رؤساء العشائر، في المناطق التي تواجد فيها (مصعب الزرقاوي)، وهدّدهم، بتكرار ما قام به (صدام حسين)، من سحب الجنسية والتسفير،

    وبعد ذلك، يسأل غبي، كيف سقطت يوم 9/6/2014، المحافظات التي لم تسقط وتقبل بحكم (اللا دولة) عام 1991؟!??
    ??????

  4. يقول الدكتور جمال البدري:

    على سعة الموضوع وتعقيداته ؛ بايجاز أرى أنّ ( الهويّـة ) مرّت بمفاهيم أساسيّة ؛ لا تــزال في صراع حتى اليوم.# الأوّل : هويّة الفطرة. # الثاني : الهويّة المكتسبة.وهويّة الفطرة هي التي خُلقنا عليها وثيمتها : الانتماء. والهويّة المكتسبة ثيمتها المصالح ؛ وصاغها الإنسان السياسيّ وفق الدستوروالقانون.والفرق بينهما ؛ أنّ هويّة الفطرة مشتركة بين بني آدم جميعًا ؛ هذه الهويّة الإنسانيّة من الثوابت التاريخيّة.أما الهويّة المكتسبة فهي مـن المتغييرات وفق عوامل : البيئة والجغرافيا والاجتماع السياسيّ…والبشريّة تتجه حثيثًا نحو هويّة الفطـــرة من خلال التلاقـــح والتفاعل بين الأمـم والشعوب للانصهارالحضاريّ…منذ الهجرات العظمى في التاريخ ؛ وهي هجرات : جماعيّة وفرديّة…إنّ الهويّة المكتسبة تشيـــخ ؛ لأنها تقوم على دوافـــع محدودة…فيما تتسع هويّة الفطرة ؛ وأصبحت سائدة تحت العولمة المفتوحة ؛ إلا أنّ جائحة كورونا قد أعادت سطوة الهويّة المكتسبة… وستبقى القطبيّة الثنائيّة محور الحركيّة البشريّة ؛ بغض النظرعن بصمات الأصابع والأعين وأشباح القمصان…

  5. يقول الدكتور جمال البدري:

    إنما ثمة صيرورة هويّة ثالثة يعاد تشكيلها هندّسيًا.نستطيع تسمّيتها ( بالهويّة المهاجرة ).أي أنّ الإنسان بشكـل عام ؛ يسعى وراء مصدر رزقه الآمن ؛ بغض النظر عن الهويّة الجغرافيّة والأثنيّة والمناطقيّة…وبالتالي تتكوّن لديه هويّة جديدة تستتبع التكييف مع ضرورات الحياة ؛ فينشأ جيل ؛ وفق رؤى ثقافيّة مغايــرة لهويّة الأبويـن. ومن هذه الهويّة المهاجرة الانتماء المفرط لعالم النت ؛ الذي ربط بني آدم في المشارق والمغارب بكبسة زرّ. وحتى الآن فإنّ سلبيات الإفراط في منظومة وسائل التواصل الاجتماعيّ ؛ أرجّح على مفهوم الهويّة الناضجة. إنّ شروط الهويّة المهاجرة ؛ لا تنشأ فقط عن الانتقال المكانيّ التقليديّ بل وتنشأ حتى في داخل المكان عينـه ؛ فتنقلب الجذور القديمة في الأرض لتصبح فروعًا جديدة في السّماء…إذن : هل ثمة هويّة أخرى جامعة ؟ لـوعدنا لمبررات تشكيل هيئة الأمم المتحدة وفق ميثاق ( سان فرانسسكو ) نجد أنّ المادة الأولى بعد الديباجـــة ؛ تقول : { مقاصد الأمم المتحدة هي حفظ السلم والأمن الدوليّ }.فهذه هي الهويّة الجامعة ؛ لـوصدقت زرقاء اليمامة ؟

  6. يقول حي يقظان:

    بعد التحية والسلام للأخت بروين،
    بالنسبة للشق المظلم من العالم الذي ورد ذكره في الختام، هناك، كما نوه أحدُهم ردًّا على أحدِهم، مثل قديم جدًّا له مدلوله في هذا السياق يقول ما معناه: “إن الإمَّعَة العديمَ الهوية يدَّعي بأنه حتى عمدة البلد صديقه لمجرد معرفته باسمه وباسم زوجه في ظرفٍ ما”. وفي هذا ترين الكثير من الإمَّعَات العديمي الهوية في الغرب يذهبون إلى الحانات ويجلسون في المكان المحاذي لمكان الساقي صاحب، أو السقاة أصحاب، الحانة لكي ينتهزوا الحديث معهم بأي نحو كان – وبالتالي، وما هي إلا أيام معدودات حتى تجدي الإمَّعَة العديمَ الهوية المعني يتحدث بكل ثقة نفس عن “صديقه” الساقي صاحب الحانة!
    فقط للعلم كذلك، بمناسبة ذكر نتائج الـ DNA في تحديد الهوية، بأن هناك نسبة كبيرة جدًّا جدًّا من الـ DNA من بنية الموز تشترك مع ما يماثلها في بنية الإنسانية: إذن، هوياتنا في جلِّها، إن لم نقل في كلِّها، إنما هي “موزية” التكوين”، يا عزيزتي!
    [يتبع]

    1. يقول حي يقظان:

      [تتمة]
      أخيرًا، أتفق مع توصيف المعلق جمال البدري بالهوية الفطرية (أو الهوية الذاتية، كما ذُكر في المقال) والهوية المكتسبة، غير أن التوصيف الثالث كان عليه أن يكون بالهوية الرقمية، وليس بالهوية المهاجرة، لأن كلاًّ من هذه الهويات الثلاث يمكن لها أن تكون مهاجرة في ظروف معينة، أو حتى غير مهاجرة في ظروفٍ أخرى!

  7. يقول الدكتور جمال البدري:

    شكرًا أخي المحترم حي يقظان على التواصل والملاحظة المفيدة.ونتمنى تواصل ملاحظاتك اللماحة لتعزيز العلاقات بين القراء والمهتمين…
    فكلنا نسعى لهدف واحد التبادل الثقافيّ والمعرفيّ : { وفوق كلّ ذي علم عليم }( يوسف 76).

إشترك في قائمتنا البريدية