الأمريكيون ليسوا ضد المستوطنات

حجم الخط
0

في خريف 1914 نشر دافيد بن غوريون في صحيفة عمال صهيون «الوحدة» مقالة عنوانها «المسألة الشرقية» وفيها أبدى تخوفه من امكانية انتصار دول التحالف في الحرب، التي لم تكن تُعرف بعد باسمها التاريخي، الحرب العالمية الاولى. حيث كتب: «إن ذلك سيكون انتصارا للحرية والتقدم»، ولكن «السياسة الليبرالية لفرنسا وبريطانيا هي بضاعة تنتقل الى التاجر فقط في السوق المحلية. ومن اجل السوق الخارجية ولا سيما من اجل الشرق، فهي خطيرة… في بريطانيا وفي المستعمرات الانجلوسكسونية – سلطة شعبية لا مثيل لها من ناحية الحرية في أي مكان في العالم، وفي الهند سلطة طاغية وخانقة».
كلمات بن غوريون هذه قبل مائة عام صالحة في الشرق اليوم: ففي حين يسود في الولايات المتحدة نظام شعبي لا مثيل له في أي مكان في العالم، فانه في الشرق الاوسط تعطي الولايات المتحدة غطاءً مستمرا للنظام الطاغي والخانق الذي هو حليفتها اسرائيل. لا يجب أخذ الانطباع من الازمة الاخيرة بين الولايات المتحدة واسرائيل بأن النظام الامريكي وزعماءه قد لفظوا اسرائيل أخيرا التي تستخدم سياسة القمع والاضطهاد في المناطق. والامريكيون الذين ينتقدون سياسة الاستيطان في الضفة الغربية وشرقي القدس يتجادلون مع بنيامين نتنياهو لأنه من وجهة نظرهم فان الاحتلال والمستوطنات عمل غير حكيم، وليس انطلاقا من أنه عمل غير عادل.
استمرار الاحتلال والمستوطنات، كما يقول الامريكيون لنتنياهو، لا تخدم عملية السلام، وهي تزعزع الأمن الاقليمي وتهدد المستقبل الديمغرافي للاغلبية اليهودية في الدولة اليهودية. ولكن الديمقراطية المدنية في العالم لا تقول للديمقراطية اليهودية إن استمرار الاحتلال والمستوطنات ليسا أمرا شرعيا وأنهما يناقضان الديمقراطية الامريكية التي تلوح بها امريكا في كل زاوية في أنحاء العالم.
لا يمكن تفسير عدم ضغط الولايات المتحدة على اسرائيل لاسباب براغماتية، مثل الضغوط التي يمارسها اللوبي اليهودي المؤيد لاسرائيل، أو المصالح الأمنية المشتركة. والسبب العميق للصمت الامريكي على الاحتلال هو أن الكولونيالية المسيحانية الدينية الاسرائيلية والمعيار المزدوج حول حق تقرير المصير لليهود والفلسطينيين لا تناقض المباديء والقيم الامريكية.
آري شبيط تحدث عن التأييد العميق لاسرائيل في اوساط المواطنين الامريكيين خلال زيارته هناك. وحسب قوله فان هذا التأييد هو بسبب القيم المشتركة، قيم الديمقراطية الليبرالية التي تتميز بها الدولتان.
كثير من الامريكيين هم مسيحيون بروتستانت أو على الأقل تأثروا بشكل مباشر أو غير مباشر بالقيم البروتستانتية – أساس مركزي من الهوية الوطنية الامريكية. الكثير من الامريكيين – سواء من رجال الحكم أو مواطنين عاديين، سواء مسيحيون محافظون أو علمانيون يؤيدون فصل الدين عن الدولة – من الصعب عليهم فهم العلاقة بين الفلسطينيين وبين ارض شعب التوراة، ولماذا تعطى أحقية السيادة لمن لا ينتمون للتاريخ المسيحي اليهودي المقدس في ارض اسرائيل.
إن مشكلة الامريكيين هي أنه على الغرب المسيحي في القرن الواحد والعشرين الالتزام بالقيم العلمانية، الليبرالية والمساواة في الحقوق، ويشمل ذلك حق تقرير المصير. ليس من المناسب لحكومة في دولة ديمقراطية أن تُظهر أفضلياتها واهتماماتها الدينية. وكلما استُدعي من قبل الحكومة الامريكية ومسؤوليها صياغة مواقف رسمية تجاه الصراع الاسرائيلي الفلسطيني فانهم يدخلون في صراع بين الالتزام بالقيم الليبرالية الديمقراطية وبين الحاجة الداخلية المخفية للقيم الدينية.
من جهة على الولايات المتحدة أن تكون أمينة لصورتها السياسية كحاملة راية حقوق الانسان في العالم، ومن جهة اخرى عندما ينظر الامريكيون باتجاه اسرائيل فان النظرة تتبدل باتجاه الشعب المختار الذي بُعث في ارضه الموعودة، كما جاء في الكتاب الذي يرافق الامريكيين من الطفولة حتى الممات.
هذا الصراع بين الوعي الديمقراطي والحساسية الدينية يتسبب بالاحباط الكبير لدى الادارة الامريكية، ولا سيما أن سياسة الاستيطان الفظة للحكومة الاسرائيلية آخذة في الازدياد. وبشكل غير مباشر فان الصراع الناتج عن الاحباط نلمسه بين الحين والآخر على شكل غضب صبياني من قبل الولايات المتحدة تجاه دولة الشعب المحبوب، الذي يعرف كيف يجبي الثمن الديني من امريكا. ومثال على هذا الغضب كان في الآونة الاخيرة في تصريحات نابية لمسؤولين في الادارة مجهولي الهوية، تجاه نتنياهو.
ولكن حسب سيناريو معروف مسبقا، فان الغضب يترك المكان سريعا للايضاحات، والحساسية الدينية تتغلب مرة اخرى على الديمقراطية. ثم يعود الامريكيون سريعا الى تمويل القبة الحديدية السياسية فوق اسرائيل المحتلة والمستوطِنة، مع التأكيد على التشخيص الدقيق لدافيد بن غوريون قبل مائة عام بأن السياسة الليبرالية الغربية هي بضاعة تنتقل الى التاجر فقط في السوق الداخلية. ومن اجل السوق الخارجية ولا سيما في الشرق فانها فائضة وخطيرة.
كل هذا بالذات عند الحديث عن ذلك الجزء من الشرق الذي من شأن المساواة فيه بين الشعوب أن تزعزع الأسس الدينية لزعيمة العالم الغربي.

دمتري شومسكي
هآرتس 11/11/2014

صحف عبرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية