«مجهولون» يغتالون العراق

هل هناك بيت لم يزره الموت مبُكرا في العراق؟ هل من عائلة لم تفقد أحد افرادها تغييبا وقتلا منذ «تحرير» البلد، لتضيف الى قائمة ضحايا القمع والحرب والحصار اسماء جديدة لشباب لم يعرفوا غير خطيئة وحيدة عبر عنها شعارهم «نريد وطنا» فرفعوا رؤوسهم محتجين على الأوضاع المهينة، حالمين بالحرية و الحياة الكريمة، فبات حرمانهم من الحياة حكما لا يقبل الاستئناف والنقض.
في كل يوم، بدلا من الاحتفال بالحياة، بجيل يواصل حمل شعلة البناء والتطور والحضارة التي نفتخر بها، تطالعنا وجوه شباب شوهتها الاطلاقات النارية وأخرستها كواتم الصوت.
نرى صورا وفيديوهات لقتلة يرتكبون جرائمهم ويهربون. القتلة دائما «مجهولون» هكذا تخبرنا التصريحات الرسمية.
ما هو غير مجهول: جثث ومقاعد سيارات مغطاة بالدماء. تغُّيب الملامح الفتية فتبقى عيون الضحايا مفتوحة على سعتها، متساءلة بأي ذنب قتلت!
في الاسابيع الأخيرة، رأينا مقاعد سيارة أخرى، تغطيها الدماء. على أحد المقاعد حقيبة يد نسائية لم يعد بالإمكان تمييز لونها.
غاب عن مدينة البصرة، وجه ترتسم على ملامحه النضرة طيبة سكانها وكرمهم وعزة أنفسهم. بعد عامين من مشاركتها في الاحتجاجات وقيادتها لمسيرات نسائية، لم تعد الكاميرات تتوقف عند رهام يعقوب، الناشطة وخبيرة الصحة والتغذية، لنسمعها وهي تلخص بعاطفة متأججة وصوت غاضب، مأساة مدينتها، المعاقبة بوجود الميليشيات في ظل حكومات يتقاسمها الاحتلال الأمريكي ـ الإيراني. مدينتها البصرة ذات الثروة النفطية التي لولا الفساد لأصبحت فردوسا أرضيا غير أن أهلها يقفون منذ «تحريرهم» على هامش الحياة انتظارا لقطرات ماء نظيفة تحت حرارة منحت العراق لقب البلد الأشد قيظا في العالم، والأكثر اصابة بالامراض نتيجة تلوث المياه وقلة التزود بالكهرباء وتجمد الخدمات الصحية في الحضيض.
منذ يوم الاربعاء، 19 آب/ أغسطس، لم نعد نسمع صوت رهام وهي تتقدم الشباب والشابات مخاطرة بحياتها، معهم، قائلة مرة ردا على أحد التصريحات الرسمية الكاذبة حول تحسن الأوضاع في البصرة «كنت أتمنى أن تشرب وزيرة الصحة من ماء البصرة لتعرف معاناتنا».
منذ يوم الاربعاء، لم يعد بامكان رهام أن تكًّذب التصريح الرسمي حول اغتيالها القائل بأنه «نُفذ برصاص بندقية هجومية كان يلوح بها مسلحان مجهولان يستقلان دراجة نارية وسط المدينة حيث لاذا بالفرار بعد إطلاق النار على السيارة».

من واجبات الحكومة، صيانة حياة مواطنيها، أيا كانوا وليس برمجة زيارات لتعزية أهالي الضحايا أو احتضان أطفالهم وتقبيلهم في لقطات تلفزيونية دعائية، كما يفعل الكاظمي

إن اغتيال رهام حلقة في سلسلة اغتيالات استهدفت عديد الناشطين. فقد سبقها بايام قليلة اغتيال تحسين أسامة الخفاجي الذي كانت ابنته قد حذرته من الخروج مع المتظاهرين فأجابها قائلا بأن هذه هي فرصة التغيير.
وكان حسين العابدي وزوجته، والمراسل أحمد عبد الصمد، قد اغتيلوا قبلهم وكذلك الخبير الأمني هشام الهاشمي.
وفي يوم 17 آب نجا اربعة هم عباس صبحي ولوديان ريمون وفهد الزبيدي ورقية الموسوى من محاولة اغتيال بعد اصابتهم بجروح ونقلهم الى مستشفى البصرة. كما نجا ثلاثة ناشطين من مدينة الحلة وهم محمد جابر وعدنان الكهار ومحمد المنصوري، ومحسن الزيدي بينما استشهد ياسر كاظم ببغداد.
كل الاغتيالات ومحاولات الاغتيال وصفتها المصادر الرسمية بأنها تمت « بأيدي مسلحين مجهولين».
حين تم تعيين رئيس المخابرات مصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء، في 7 أيار- مايو، كان أحد مطالب منتفضي تشرين/ أكتوبر 2019، الرئيسية هو محاسبة قتلة المتظاهرين واطلاق سراح المختطفين ووضع حد لآلام ومعاناة أهالي المختفين.
كان مطلبا ملحا لا لكثرة أعداد الضحايا الذين بلغ عددهم 560، اعترف بهم في 30 تموز/ يوليو، رسميا، كشهداء، بالإضافة الى 30 ألف جريح ومعوق بشكل دائم جراء الاستهداف بواسطة القناصة واستخدام الرصاص الحي وبندقيات الصيد والغازات المسيلة للدموع. ولا لأنهم الضحايا الوحيدون من قتلى ومختطفين منذ الاحتلال عام 2003 وحتى الانتفاضة، حيث تجاوز العدد المليون، بل نبعت أهمية المطلب من كونه حقا عاما، وحَّدَ ابناء الشعب بكل اديانه ومذاهبه، ووضع رئيس الوزراء أمام اختبار يبين صحة وعوده حول تطبيق القانون على الجميع بلا استثناء، ولا طائفية الحكومة، وسياستها في تمثيل ابناء الشعب كلهم، بدون تصنيف « الآخر» إرهابيا.
إلا أن أيا من المسؤولين عن جرائم الاغتيالات والخطف والتغييب لم يتم القاء القبض عليه، واكتفى الكاظمي، كما فعل من سبقه من رؤساء الوزراء، بتشكيل لجان لم يتم الاعلان عن نتائجها. مما يعني إبقاء الجهات المسؤولة عن الاغتيالات سواء كانت أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية، أو الميليشيات، ذات الدعم والولاء الإيراني والتي يتجاوز عددها الخمسين، أو فرق الموت والعمليات الخاصة التابعة لأمريكا، أو أي جهة مخططة لهذه الاغتيالات، حرة طليقة، بالإضافة الى بقاء المنفذين « المجهولين» على أهبة الاستعداد لتنفيذ أية عملية اغتيال أخرى حسب الطلب.
كما بقيت اجراءات الكاظمي لمحاسبة القتلة مقتصرة على تصريحاته المغلفة بسين المستقبل مثل « سنقوم بكل ما يلزم لتضطلع القوى الأمنية بواجباتها» و«سنقوم بكل ما يلزم لتقوم أجهزة وزارة الداخلية والامن بمهمة حماية أمن المجتمع» كما فعل عند عودته، منذ يومين، من واشنطن.
عمليا، ليس هناك ما يشير الى وضع حد للعنف والتصفية الجسدية ضد المحتجين والناشطين وكل من يجرؤ على السباحة عكس تيار الفساد مطالبا بوطن. ومع تجذر الفساد المؤسساتي والاداري، وتوفر السلاح بانواعه خارج سيطرة الدولة، يشكل الناشطون الذين تمكنوا من افراغ الاستغلال السياسي للدين والمذهب من قدسيتهما المصّنعة خطرا حقيقيا لا على الميليشيات والحشد فحسب بل وعلى الأحزاب التي ازدهرت تحت توليفة الفساد الطائفي في « العراق الجديد». من واجبات الحكومة، صيانة حياة مواطنيها، أيا كانوا وليس برمجة زيارات لتعزية أهالي الضحايا أو احتضان أطفالهم وتقبيلهم في لقطات تلفزيونية دعائية، كما يفعل الكاظمي.
إن اعلان هوية مخططي الاغتيالات ومنفذيها وتقديمهم للقضاء مسؤولية رئيس الوزراء وقائد القوات المسلحة خاصة وأنه كان، حتى أشهر قليلة مضت، رئيسا للمخابرات. مما يجعل مسؤوليته مضاعفة لأنه أدرى من غيره بكل من يمس أمن واستقرار البلد ويستهدف معارضيهم او من يعتبرهم اعدائه عن طريق التصفية الجسدية.
هذا، طبعا، اذا لم يساهم هو أو يسكت، لأسباب يعرفها، على تغطية دور المجرمين والمخططين والممولين، من خلال الإجراءات الشكلية الهادفة إلى دفن القضية وتسجيلها، كالعادة، ضد « مجهول».

كاتبة من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    ” كل الاغتيالات ومحاولات الاغتيال وصفتها المصادر الرسمية بأنها تمت « بأيدي مسلحين مجهولين». ” إهـ
    ألا يعرف رئيس الوزراء الكاظمي هؤلاء المسلحين المجهولين؟ ألم يكن رئيساً للمخابرات؟
    هل يًعقل ذلك؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول هل من المعقول:

    عشرات الآف من القتلى والجرحى والمخطوفين والمغيبين من المتظاهرين فقط
    ولا يتم محاسبة أحد! هذا يتم في بلد يسمي نفسه دولة القانون. لا يتم القبض على
    قتلة ابناء البلد وآخرهم الدكتوره رهام بينما تُطلق سراح المانيه مختطفه خلال ساعات.

  3. يقول حردان العلوان / البو كمال / شاعـر:

    كلامك صحيح مئة بالمئة.والواجب العلم ان الاحزاب التي اختارت الكاظمي هو مثلها وهي مثله ، الفرق انه جاء كمكياج لتحسين صورتها البشعة ، والا لا فرق بينهم فهو واحد منهم على طريقة اختلاف الملابس الرثة بلبس الأفندية في مسرحية النخلة والجيران.هي التقية المشتركة بينهم ، لا تزول بالانتماء لغيرهم بالظاهر المزعوم.الكاظمي مخادع ويبدو حريص جاد ، لم ولن يفعل الا ما تريد الاحزاب منه كما كان دائما.

  4. يقول S.S.Abdullah:

    لقد تم تدمير مفهوم الدولة، يوم 2/8/1990 عن عمد وقصد، وبدأ عصر اللا دولة، هو أول تعليق لي على العنوان الرائع (مجهولون» يغتالون العراق) والأهم هو لماذا؟!

    (نوري المالكي)، من أجل القضاء على مقاومة قوات الإحتلال، أثناء فترة حكمه،

    جمع رؤساء العشائر، في المناطق التي تواجد فيها (مصعب الزرقاوي)، وهدّدهم، بتكرار ما قام به (صدام حسين)، من سحب الجنسية والتسفير، مرتين، أثناء حكمه،

    وبعد ذلك، يسأل غبي، كيف سقطت يوم 9/6/2014، وهي المحافظات التي لم تسقط، وتقبل بحكم غوغاء (اللا دولة) عام 1991، أو بعد 9/4/2003؟!

    الإشكالية على أرض الواقع، في أجواء العولمة، هي عقلية الضبابية أو سياسة اللعم (جمع نعم/لا)، هو أول ردة فعل على ما ورد تحت عنوان (اللون بين التاريخ والسياسة) والأهم هو لماذا؟!

    لأنني لاحظت مشاكل أي قوات أمنية، تم تدريبها، بواسطة أمريكا، على أرض الواقع،

    ستكون الدولة، تحت نفس مشاكل أهل فلسطين، مع قوات الإحتلال، من أهل فلسطين ما قبل 1948، أو أهل الضفة أو غزة العز، ولذلك السؤال، لماذا؟!

  5. يقول S.S.Abdullah:

    الدليل العملي، ما يحصل في العراق، بعد 9/4/2003، بواسطة الجيش الأمريكي في أبو غريب، أو ما حصل مع المراهق العراقي، وأهل المظاهرات،

    الدليل العملي ما يحصل في مصر، بعد 30/6/2013،

    الدليل العملي ما يحصل في سوريا والأردن والمغرب بعد 11/9/2001،

    الدليل العملي، مع من تم سحب الجنسية منه، في دول مجلس التعاون في الخليج العربي بعد 2/8/1990،

    لأن الواسطة والمحسوبية والشفاعة (الرشوة) في عقود تدريب الشرطة الأمريكية، والبريطانية والأوربية، يتم ترسيتها على الكيان الصهيوني، بحجج الدعم الاقتصادي،

    بعيداً عن منافسة السوق الحر عند عرض مناقصات الدولة.

    ثم من حق أي كاتب وضع بهارات في أي عنوان، لمقاله، ولكن الأهم، هو المصداقية بموضوعية، وشفافية في جمع كل زوايا أوجه الموضوع، تحت العنوان،

    حتى من يريد أن يفهم الموضوع، بتفاصيله، بعيداً عن بهارات جذب العنوان،

    هنا تظهر نوعية وجودة وكفاءة مهنية الإعلام، ما بين وسيلة وأخرى، في أجواء سوق العولمة الحر،

    تم احترام وتقدير موقف (الملك حسين) في الأردن عام 1991، وموقف (الرئيس رجب طيب أردوغان) في تركيا عام 2003، لأنّه كان واضح، وغير ضبابي مثل بقية رؤساء دول المنطقة، في مشاركة أمريكا في حربها ضد العراق،

  6. يقول S.S.Abdullah:

    لأن (صدام حسين)، كرئيس دولة الحداثة، ضرب مفهوم (الهوية) عام 1980 من زاوية، وفي عام 1990 ضرب مفهوم (الهوية) من زاوية أخرى،

    للإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية في دولة الحداثة، وفق محدّدات (سايكس وبيكو)، بعد تقسيم الدولة العثمانية،

    وهو أول تعليق لي على ما ورد تحت عنوان (الهوية معادلة معقدة) والأهم هو لماذا؟!

    الكاتبة من البحرين، والبحرين من ضمن مجلس التعاون في الخليج العربي،

    الذي تم تأسيسه، بعد إحتلال المسجد الحرام في مكة، بواسطة فكر (المهدي) وجهيمان، في بداية عام 1400 هجري،

    في نفس الفترة، تم تأسيس دولة ولاية الفقيه في إيران عام 1979، بعد عودة (الخميني) من فرنسا، بأموال (معمر القذافي)، عنداً وكيداً ومنافسة (لصدام حسين)،

    تم إعلان الحرب العراقية الإيرانية، بين عام 1980، وحتى 8/8/1988،

    تم سحب الجنسية العراقية، وتسفير، بطريقة وحشية، كل من كان مدوّن، في شهادة الجنسية، أنّ عائلته لم تملك الجنسية العثمانية،

    وفي يوم 2/8/1990، ابتلع (صدام حسين)، دولة من دول مجلس التعاون في الخليج العربي، في أربع ساعات،

    وتم إلغاء الجنسية الكويتية، عام 1990، كما حصل مع إلغاء الجنسية العراقية، عن عدد مماثل تقريباً، لما حصل عام 1980، سبحان الله.??
    ??????

  7. يقول يوسف:

    ربما حان الوقت عن البحث عن “نموذج جديد” للمقاومة، لأن مسألة حصد الرؤوس في العالم العربي لا تكلف الكثير، زيدوا على هذا أن الأوضاع ” هي هي” لا تتغير..؛

إشترك في قائمتنا البريدية