تحمل الأعمال الثقافية الحديثة عموماً موقفاً متشككاً من الأحكام الأخلاقية الجماعية، فمن مسرحية «عدو الشعب» لهنريك إبسن، مروراً بوصف مقتل الأرملة المتهمة بالفجور في رواية «زوربا»، وصولاً لفيلم «الصيّاد» الدنماركي، يظهر دوماً الفرد/الضحية، في مواجهة هستيريا جماعية، تقوم عادةً على كثير من النفاق والتعصب. يمكن ردّ هذه الثيمة المتكررة لتأثير الحركة الرومانتيكة، التي رفضت هيمنة الحيز الاجتماعي، بمعناه الحديث، فـ»السلوك الحسن» الذي يقتضيه المجتمع، بدا مخالفاً لمفهوم فعالية وحرية الذات الإنسانية، الذي تخيله الرومانتيكيون، ويثبّط الأسئلة الروحية والجمالية والإيتيقية الأكثر عمقاً.
هذا الموقف اتخذ طابعاً ثورياً في كثير من الأحيان، فقد اعتبر متمردو اليمين واليسار أنفسهم مناهضين للمجتمع القديم وقيمه، ودعوا، في الحالات الأكثر راديكالية، إلى هدمه وبناء مجتمع جديد. ومازالت رواسب هذا موجودة في أيامنا، ضمن التيار المسمى «يساراً ليبرالياً»، أو حركات الهوية والتظلّم، التي تدعو لقلب علاقات القوة في عالم «الرجل الأبيض»، القائم على التمييز، لمصلحة الفئات المهمشة. إلا أن المفارقة المثيرة للاهتمام أن هذه الحركات لم تعد تملك الحساسية ذاتها تجاه عدالة الجموع، بل باتت تعتمد عليها بشكل كبير، بواسطة سلسلة متكاملة من الأجهزة الأيديولوجية، مثل المؤسسات الإعلامية والثقافية الكبرى ووسائل التواصل الاجتماعي و»المنظمات غير الحكومية».
يمكن اليوم تجريم أي ممارسة أو منتج ثقافي وفرض الرقابة عليه، بناء على الاستياء الجماعي، أو استثارة الحساسيات، أو أي اعتراضات أخرى تُنسب للمجتمع. وعلى الرغم من أنه لا يمكن ربط حركات التظلّم المعاصرة بالتراث الرومانتيكي، فإن هذا الأسلوب في التعامل مع الخطاب السياسي والثقافي، لم يكن مألوفاً لدى التيارات التي نسبت نفسها يوماً لليسار أو الليبرالية.
يتمّ اليوم تجاوز الإجراءات المألوفة لنظام القانون في ما يتعلق بقضايا الفئات التي تُعتبر ضعيفة، كما هو الحال في اداعاءات التحرش والاغتصاب، والممارسات التي قد تحوي عنصريةً وتمييزاً، ما يطيح بكثير من المبادئ الأساسية للعدالة الحديثة، وحتى التقليدية، مثل قرينة البراءة، وتدرجات الفعل الجرمي وما يناسبها من تدرجات العقوبة، ولذلك مبررات لا تخلو من وجاهة، فالقانون يعاني دوماً من مشكلة التثبّت من الفعل الجرمي، تحديداً عندما يتعلّق الأمر بممارسات تتمّ في الحيز الخاص والحميمي، وليس بإمكانه أن يلحظ أنماط «العدوان المصغّر»، ولكن هل الاعتماد على عدالة الجموع، القائمة على انفعالات وقتية قابلة للانقلاب، التي تساهم بتنفيذها غالباً مؤسسات وشركات خاصة، سيساهم بتحسين أوضاع الفئات المتعرضة للانتهاك؟ خاصة إذا تذكرنا أن النساء مثلاً كن على الدوام ضحايا هذا النمط من «العدالة»، فممارسات مثل «صيد الساحرات» و»جرائم الشرف» ووصمة العار الاجتماعي، ما هي إلا أنماط نموذجية لعدالة الجموع.
تحلل الترميزات الاجتماعية والتواصلية المألوفة، ومنها تعريف التحرش والاغتصاب والعنصرية، يؤدى لمحاولة إنشاء معايير جديدة، لم تتضح معالمها بعد.
تواصل نزع التحضّر
ليس رفض عدالة الجموع موقفاً حداثياً وتنويرياً بالضرورة، فحتى في أكثر المجتمعات تقليديةً يبدو قيام عامة الناس بإطلاق الأحكام، وتنفيذهم لها بشكل مباشر، فشلاً خطيراً للنظام الاجتماعي، بل اعتداءً على الحلول التي يمكن إنتاجها عن طريق التواصل ضمن عالم الحياة، الذي يجري عادةً بإشراف هيئات اجتماعية، تميّز نفسها بوضوح عن العامة، حتى لو كانت مرتبطة بهم أو تستمد شرعيتها منهم.
تصبح عدالة الجموع أشبه بحالة استثنائية لابد من تداركها، ولهذا تنشأ المجالس العرفية لإصلاح الأضرار التي سببها انفجار الانفعالات الاجتماعية، فتقضي بالصلح والديّة، أو تعيد تنظيم القضايا المتعلّقة بالأرض والأحوال الشخصية، بناءً على عرف أو شريعة ما. هذه الممارسة يمكن رصدها في كل المجتمعات الإنسانية، وهي علامة على وجود النظام الرمزي الذي يميّز الحضارة، ويضمن نوعاً من الاستقرار القيمي والاجتماعي. في حالات أخرى قد تقوم السلطة نفسها بركوب موجة الانفعالات الجماعية، أو استثارتها، خلال فترات تعد دوماً حقباً تاريخية مظلمة وهمجية، «صيد الساحرات» يبقى المثال الأفضل عن هذا: يرى كثير من المؤرخين المعاصرين أن خوف الفلاحين الأوروبيين، مطلع العصور الحديثة، من تجمد أراضيهم، وغياب الشمس، مع حلول «العصر الجليدي المصغّر»، أدى لموجة من الهستيريا الجماعية، دفعت ثمنها النساء المتهمات بممارسة السحر، فيما قامت السلطة بإنشاء محاكم قضت بإحراق آلاف النساء. نظام العدالة هنا أصبح تابعاً لانفعالات الجموع، في فترة اتسمت بفوضى عارمة، أدت لانحلال معظم الأنظمة الاجتماعية القائمة.
لا يعني هذا أن القوانين منزّهة عن الهمجية، الهولوكوست تمّ بإجراءات قانونية وبيروقراطية منفصلة عن الانفعالات، ولكن هذه المأساة دفعت المشرعين، فيما بعد، إلى بذل جهود كبيرة لتجنّب تكرارها بشكل مُشرعن، هذا النوع من المراجعات ممكنٌ مع القوانين ومستحيلٌ مع الانفعالات الجمعية. يبدو أننا نعيش اليوم شرطاً شبيهاً بانهياراته في مطلع العصور الحديثة، كثير من الأنظمة الاجتماعية تدهورت، أو غيّرت أساليب اشتغالها، ولم يعد التواصل الاجتماعي يتمّ في الحيز العام الاعتيادي، في حين أدى تحلّل المواطن التقليدية للعمل والتلاقي والرعاية الاجتماعية، إلى بروز نمط من التواصل غير الاجتماعي، يتمّ بشكل افتراضي بين أفراد معزولين ومشتتين، يصبح من السهل عليهم إطلاق الأحكام ضمن فقاعات سيبرانية آمنة، وفي هذا الشرط يمكن أن نصادف كل شيء ممكن: العنصرية، الصواب السياسي، عدالة الجموع، إلخ. وظيفة الاندماج الاجتماعي، التي كانت تتم عبر الهيئات الوسيطة، الضامنة لنوع من الرعاية والإدماج للأفراد، تعطلت بشكل كبير، وهذا من أهم سمات «نزع التحضّر» الملازم لـ»الحداثة التقهقرية» regressive Moderne التي نعيشها، إذا استعرنا مصطلحات عالم الاجتماع الألماني أوليفر ناختفاي.
الصحوة الذاتية
تحلل الترميزات الاجتماعية والتواصلية المألوفة، ومنها تعريف التحرش والاغتصاب والعنصرية، يؤدى لمحاولة إنشاء معايير جديدة، لم تتضح معالمها بعد. تبدو حركات التظلّم عاجزة عن إنتاج تعريفات موضوعية وعامة للظواهر التي تحاربها، وتعتمد بدلاً من هذا على التجربة والمشاعر الذاتية. ما كان يعتبر تصرفاً عادياً في مطلع الألفية، مثلاً، قد يصبح اليوم فعلاً جرمياً يؤدي للنبذ الاجتماعي، والمعيار هو الصحوة الذاتية للضحية، واكتشافها لهول المعاناة التي تعرّضت لها في ما مضى.
يذكّر هذا بالسؤال الذي طرحه نقّاد فيلسوف العلم الشهير توماس كون: هل كان الأوكسجين، قبل الثورة العلمية، التي أطلقها لافوازيه، مؤسس الكيمياء الحديثة، غير موجود؟ الجواب وفقاً للمنظور البنائي متاح: «الأوكسجين» مفهوم علمي يعبّر عن عنصر أو ظاهرة يُفترض وجودها في الطبيعة، وقبل ابتكار المفهوم لم يكن «الأوكسجين» موجوداً طبعاً، بدون أن يعني هذا أن الظاهرة التي يحاول تمثيلها غير موجودة، ويمكن دوماً تغيير فهمنا للظاهرة وإعادة رصدها وتحديدها، وتعديل مفهوم «الأوكسجين» أو استبداله. بهذا المعنى فإن الممارسات المسيئة للنساء وجدت دوماً، ولكنها كانت تمرّ بشكل اعتيادي، ما تغيّر أن المجتمعات تحاول إعادة بناء قيمها، ومعايير المقبول والمرفوض اجتماعياً، ولكنّ هذه العملية، على ما فيها من محاولة لإنصاف ضحايا الانتهاك، قد تؤدي إلى نتائج عكسية، إذا تُركت بدون مفهوم قانوني عام، واقتصرت على المشاعر والصحوات الذاتية، والأحكام الانفعالية، لأفراد مشتتين يحملون كل سمات «الحشد السلبي»، الذي تكلّم عنه الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين: متشابه، مُميّع، غير فرداني رغم كل ادعاءات الفردانية، خاضع وقادر على القمع في الآن ذاته.
يتعرّض المرء دوماً في مجتمع البالغين، بحسب بفالر، لكثير من المضايقات الاعتيادية، والتعامل معها جزء من تجربته الحياتية والأخلاقية.
تسييس «الناجيات»
يحدد الكاتب النمساوي روبيرت بفالر مفهوم «الطفلنة» بوصفه انتزاعاً لأهلية الأفراد البالغين، القادرين على طرح مطالب اجتماعية وسياسية محددة، يمكن فهمها وتعميمها في الحيز العام، لحساب التركيز على خبرات ومشاعر غير قابلة للترجمة، لا يمكن التعامل معها إلا بنمط من التمكين الفوقي الأبوي. يتعرّض المرء دوماً في مجتمع البالغين، بحسب بفالر، لكثير من المضايقات الاعتيادية، والتعامل معها جزء من تجربته الحياتية والأخلاقية. في حين يؤدي تمييع الحدود، بين الاعتداءات الإجرامية، وما يسمى «عدواناً مصغراً»، إلى تعزيز الهشاشة الفردية، وجعل الحيز العام، القائم على التواصل بمفاهيم موضوعية، مجالاً للحميمية والذاتية، ما يفضي لخصخصته هوياتياً، وتعطيل فعاليته السياسية. وهذه المشكلة الأساسية لحركات التظلّم، التي ورثت عقوداً من النضال الحقوقي والسياسي لحركات الحقوق المدنية، ساهم في ما مضى بتحسين الأوضاع الفعلية لكثيرين، وأوصلته إلى طريق مسدود.
يختلف الوضع في العالم العربي، فالنساء، وبقية الفئات المضطهدة، محرومات من حق الحياة نفسه، نتيجة تشريعات وممارسات اجتماعية تبيح القتل والانتهاك بمختلف المسميات، ما يعطي المطالب النسائية طاقة سياسية هائلة، ويجعلها أقرب للمفاهيم الكونية لحقوق الإنسان، متيحاً الفرصة للنسوية العربية للمساهمة في إعادة بناء أنظمة السياسة والاقتصاد والقانون. ولعل التقدم الذي حققته الحركة النسوية السودانية، نتيجة إدراكها لارتباط النضال الجندري بالطبقي والديمقراطي، نموذج جيد يمكن استلهامه وتعميمه عربياً، على أساس تسييس «الناجيات»، وجعلهن قادرات على إنتاج مطالب ومفاهيم، بدلاً من التعويل على عدالة جموعٍ، طالما عانت منها النساء العربيات.
٭ كاتب سوري