لا شيء يُذكّر بالأيام والأشهر الأولى للثورة السورية، أكثر مما يجري الآن في جمهورية روسيا البيضاء «بيلاروسيا التي يحكُمها ومنذ 26 عاما ألكسندر لوكاشينكو، الذي يحلو لأغلب وسائل الإعلام الدولية وصفه بآخر طاغية أو ديكتاتور في القارة الأوروبية.
تظاهرات وتجمعات احتجاجية سلمية تعم أرجاء البلاد، تطالب بتغيير أو إسقاط النظام الديكتاتوري، تُقابل بالقمع والاعتقالات ومحاولات الإساءة إلى الحراك الشعبي، والتشكيك بغاياته ودوافعه الحقيقية.
الأحداث التي اندلعت في الدولة الأوروبية الشرقية، التي كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي السابق، جاءت بعد إعلان فوز لوكاشينكو (65 عاماً) بالانتخابات الرئاسية للمرة السادسة على التوالي، بنسبة تجاوزت نحو 80% من أصوات الناخبين، مقابل حصول منافسته الأبرز سفيتلانا تيخانوفسكايا (37 عاما) على نحو 10% فقط من الأصوات، حسب الجهات الرسمية المنظمة للانتخابات، وهو أمر اعتبرته المعارضة البيلاروسية تزويرا فاضحا للنتائج، مدللة على ذلك بما أظهرته استطلاعات الرأي المستقلة، في فترة ما قبل الانتخابات، من شعبية كبيرة تتمتع بها نيخانوفسكايا، التي كانت تؤهلها لفوز ساحق في ما لو جرت الانتخابات الرئاسية، من دون ترهيب للناخبين، وتزوير للنتائج، كما حصل على أرض الواقع. وفي تكرار للسلوك الذي اتبعه النظام السوري مع المحتجين السلميين في سوريا، فقد اتبع نظام الكسندر لوكاشينكو المسار ذاته تقريبا، حيث امتلأت سجون بيلاروسيا، في غضون أيام على اندلاع الاحتجاجات بمئات من المعتقلين الذين تعرضوا لتعذيب وحشي، وتحدث رأس النظام عن تحريض خارجي على الأحداث (مؤامرة خارجية ) كما وصف المعتقلين لديه «بأدوات لهذا التحريض الهادف إلى إثارة الاضطرابات وأعمال التخريب في البلاد» وأظهر التلفزيون الرسمي البيلاروسي عددا من المعتقلين ليعترفوا بما يدعم رواية نظام لوكاشينكو عن تلقيهم دعما خارجيا، وقد ظهر أحد المعتقلين الشبان وهو يقف إلى جانب مبالغ مالية من العملات الأجنبية (الدولار واليورو) كان يقوم بتوزيعها (وفق اعترافاته التي جاءت تحت التعذيب) على المتظاهرين بغية حثهم على النزول إلى الشوارع للمشاركة في الاحتجاجات. وفي واحدة من الحوادث الموثقة، تم رصد مجموعة من ضباط الأمن البيلاروسيين بلباس مدني، وهم يضعون أكياسا من الحجارة إلى جانب مبنى البرلمان في العاصمة مينسك، في وقت كانت فيه جموع المحتجين والمتظاهرين تزحف باتجاه المبنى، وهو ما يشير إلى رغبة نظام لوكاشينكو في جر المتظاهرين لمهاجمة قوات الأمن، والمؤسسات الحكومية بغية إظهارهم بمظهر عدواني، وتبرير القمع الذي تمارسه بحقهم أجهزته الأمنية، وهو ما يذكّر أيضا بإسلوب النظام السوري، ومحاولاته في بدايات الثورة السورية، جرّ المتظاهرين إلى سلوك طريق العنف والمواجهة مع أجهزته وقواته الأمنية، لعرض لقطات وصور عنها على شاشات قنواته التلفزيونية، وعلى صدر صفحات جرائده الرسمية، كمادة دعائية تشكك بأهداف ونوايا الحراك الشعبي وتبرر قمعه والتنكيل به.
حشّد نظام لوكاشينكو المتظاهرين المؤيدين لنظامه، وفق الأسلوب ذاته للنظام السوري في تنظيم التجمعات والمسيرات
أوجه التشابه أو سيناريو التعامل السلطوي في الحالتين السورية والبيلاروسية، مع ثورة الشعب في كلا البلدين، امتدت لتشمل أخيرا وليس آخرا، حرص النظام على إبراز أنه ليس معزولا في مواجهة الهجمة عليه، وأنه يستند إلى دعم شعبي لا يُستهان به، ومنه يستمد مشروعية حكمه للبلاد، حيث حشّد نظام لوكاشينكو قبل أيام، بضعة آلاف من المتظاهرين «المؤيدين» لنظامه، الذين جرى تجميعهم ونقلهم إلى العاصمة مينسك، وفق الأسلوب ذاته الذي يتبعه النظام السوري في تنظيم التجمعات والمسيرات المؤيدة له. بيد انه وفي الوقت الذي يبدو فيه ان أنظمة القمع والإستبداد، تستعير من بعضها بعضا، وسائل وحيلا وأساليب مواجهة ثورات شعوبها وشيطنتها وحرفها عن مسارها، كما يتضح من تجربة نظامي الحكم الاستبداديين في كل من سوريا وبيلاروسيا، إلا انه من الإنصاف الإشارة إلى فارق مهم في نسبة ودرجة العنف والقمع السلطوي، التي حققها، أو وصل إليها كلا النظامين ضد حراك الشارع. النظام السوري كان صريحا ومندفعا منذ البداية لإراقة دماء المحتجين السلميين، بهدف القتل لترويع الناس وإخافتهم، وحملهم على مغادرة الشارع، وإنهاء الاحتجاجات بأسرع وقت ممكن، وهكذا لم يغب الرصاص الحي الذي استخدمه النظام عن أي تظاهرة احتجاجية سلمية، منذ بداية الثورة وصولا إلى بدء مرحلة المواجهة المسلحة بين الجانبين، في حين وباستثناء حادثة واحدة أو اثنتين من حوادث إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين في بيلاروسيا، الأسبوع الماضي، ما نتج عنه مقتل شخصين، تركّز استخدام الشرطة وقوات الأمن البيلاروسية على الرصاص المطاطي، والقنابل المسيلة للدموع وغيرها من أدوات مواجهة وقمع التظاهرات وأعمال الشغب (حتى اللحظة على الأقل).
وفي تمايز آخر لكنه مهم وذو دلالة، أظهرت صور المعتقلين البيلاروسيين، الذين تم إطلاق سراحهم إلى تعرضهم للتعذيب الوحشي، ولكن من خلال الضرب المُبرح فقط على أسفل مؤخراتهم وسيقانهم من الخلف، الأمر الذي يشير إلى حرص السلطات على «تأديبهم» وردعهم، من دون التسبب لهم بأذى أو إعاقة بدنية دائمة. كما قامت وزارة الداخلية في بيلاروسيا بإطلاق سراح كافة المعتقلين، وأصدرت بيانا تعتذر فيه عن حملات الاعتقال العشوائية والجماعية، التي جرت على مدى أسبوع في عموم البلاد .في حين كان الأمر مختلفا تماما في سوريا، فتفحص آلاف الصور لمعتقلي الحراك الشعبي السلمي في البلاد، التي جرى تهريبها خارج سوريا، عن طريق مصور لدى النظام، والذي يُرمز له باسم «قيصر» إضافة لسماع شهادات العشرات من المعتقلين السابقين، الذين خرجوا من سجون النظام بمعجزة، أو بتبادل المعتقلين والأسرى مع فصائل المعارضة، توثق جميعها، وتؤكد على أن حالات التعذيب والضرب، كانت تستهدف كل أجزاء الجسد وعلى خلفية انتقامية حاقدة، بغية إشعار المعتقل وإذاقته أقصى درجات التعذيب الجسدي، وصولا إلى قتله وإحراق جثته في محارق أقامها النظام للتعامل مع مئات وآلاف الجثث المكدسة.
في التحليل الأول لهذا التمايز في درجة العنف، الذي تمارسه السلطة بحق المحتجين والمتظاهرين السلميين في كل من سوريا وبيلاروسيا، لا بد من التذكير بأن ما يجمع نظامي الحكم في البلدين، وهو سمة الاستبداد والديكتاتورية وحكم الفرد، لا ينسحب أو ينسجم مع حقيقة التركيبة الداخلية لكل منهما، والتي تختلف طبيعتها وتفاصيلها وتُحدث بالتالي هذا الفارق في درجة العنف والقمع المُستخدم.
فنظام الحكم في سوريا ذو طبيعة طائفية في المقام الأول، يعتمد في قياداته وكوادره، وحتى في أغلب عناصره الأمنية على طائفة رأس النظام، التي تم ويتم على الدوام شحنها بمشاعر ومواقف عدائية، أو على الأقل مشككة تجاه الطوائف الأخرى، خاصة تجاه الأغلبية، كما أن الدرجة غير المسبوقة من أعمال القمع والتعذيب والتصفية الجسدية، وحصار المدن وتدميرها، التي قام بها النظام السوري وما زال، تخفي أيضا هلعا وخوفا وتهربا من النظام وقاعدته الاجتماعية من المحاسبة والقصاص، على سجل طويل وحافل من التجاوزات والمآسي التي تسبب بها النظام للشعب السوري على مدى 50 عاما .في المقابل لا يتمتع نظام الكسندر لوكاشينكو في بيلاروسيا (روسيا البيضاء) بهذه الصفة ذات البعد الطائفي، ولا حتى العرقي المتمايز مع انتماء المتظاهرين والمحتجين، وهو أمر ينعكس بلا شك على درجة قمع التظاهرات الاحتجاجية والتعذيب الجسدي الذي يتعرض له المعتقلون، وللسبب نفسه على الغالب، لم تكن التجاوزات التي قام بها لوكاشينكو ونظامه في بيلاروسيا على مدى أكثر من عقدين، بالبعد الفج ذاته الذي مارسه وما زال نظام الأسد في سوريا .
في المحصلة تجد الأنظمة الديكتاتورية نفسها وبشكل دائم أمام تحد مصيري تمثله تطلعات الشعوب بالحرية والحياة الكريمة، وغالبا ما يكون مصير هذه الأنظمة واحد، وإن اختلفت درجة قمعها وتنكيلها بمواطنيها وتطلعاتهم المشروعة.
كاتب ومحلل سياسي فلسطيني