«فإن الحق القديم لا يُبطله شيء، ولو وجدته وقد تزوج به النساء وفرق في البلدان، لرددته إلى حاله»
الإمام الثائر أبوالحسن علي بن أبي طالب
مُنيت ثورات الربيع العربي في المجمل بهزيمةٍ ثقيلةٍ ومؤلمة، لا محيص عن الاعتراف بذلك. فشلت أو غُدرت لن نختلف الآن، إلا أن الثابت أن ضعفاً وتناقضاتٍ في قوى التغيير أمام مؤسسات وهياكل الدول، على ترهلها، تردفها وتدعمها مصالح لقوى إقليمية وعالمية، تضافرت وتكالبت على ثورات الشعوب فهزمتها.
عقب ذلك وتحت غطاءٍ من دعاوى تعرّضها لمؤامراتٍ إقليميةٍ وكونيةٍ، لم تلبث تلك الأنظمة أن استغلت الفرصة، لا لتعيد ترميم نفسها فحسب، وفي المقام الأول مؤسساتها الأمنية، بتجديد دمائها وتغذيتها بعناصر أشرس، بدعمٍ وضماناتٍ بعدم الالتزام بأي قوانين أو حدودٍ للعنف، بل لتصفية حساباتها أيضاً، ليس فقط مع من تراهم أو تتصورهم محرضين أو رموزاً للحراك الشعبي وإنما مع جملةٍ من الترتيبات والسياسات، التي شكلت إطاراً عاماً وصيغةً لطبيعة العلاقة ومضمونها بين الأنظمة المزمنة المؤبدة، والشعوب التي صيغت من ثم مفاهيمها وتوقعاتها ورؤاها، وحتى شكلها وطرق كلامها وتصرفها، وفقاً لتلك المعادلات الحاكمة عقب الاستقلال.
كل ما كان مُضمراً أو حاصلاً بالفعل في الخفاء خرج إلى العلن، وفي زحام الثورة المضادة اتُخذت إجراءاتٌ وأُجهز على ضماناتٍ لم يكن أي نظامٍ ليجرؤ على المساس بها من قبل، وعلى سبيل المثال الأقرب والأنصع لي بصورةٍ شخصية، إلغاء الدعم في مصر عن المحروقات والخبز إلخ؛ بالطبع وكشأن كل حركات الاقتصاص والنقص تُعَّمَد تحركاتٌ كتلك تحت يافطاتٍ مدلسة من عينة، الحرص على وصول الدعم لمستحقيه الحقيقيين، أو تبدية مصلحة البلد أو الوطن الأم، ذلك الكيان المتعالي الذي يبدو أنه لا يتشكل من أفرادٍ ولا شعبٍ، كما عبر عنه ولا أفضل السيسي «انتوا حتاكلوا مصر؟» أي أن مصر تلك في علاقة مواجهة وتضاد مع المواطنين.
أنظمة ليست قضيتها الشعوب، ولا الحقوق وإنما بقاء السلالات الحاكمة والمكاسب المالية
في هذا السياق لزمت ملاحظة أن الواقع، الذي خرجت إلى الوجود في ظله تلك الأنظمة، كان واقعاً مغايراً إلى حدٍ كبير، إن لم يكن تماماً، فذاك كان عالماً ثنائي الأقطاب، تنتظم دوله في معسكرين كبيرين بصفةٍ عامة، بكل ما يلحق بذلك من تفاصيل.. عالم تتحرر مستعمراته ومن بينها دولنا، بينما تتجذر إسرائيل بقوة الحديد والبارود والدم، والتهجير والاستيلاء، ومن غير الإنصاف إنكار همٍ ما لدى أنظمة ما بعد الاستقلال بقضايا التنمية والتعليم والتطور (الذي يعني اللحاق بالغرب أساساً حتى لو كان استناداً إلى دعمٍ شرقي).
أما الآن فنحن في عالمٍ جد متغير، سقط أحد أقطابه بنموذجه بدعاواه الأيديولوجية (بغض النظر عن تقييمنا له) والآخر تنزلق الأرض من تحته، عالم يشهد حالة سيولة ويتحرك مركز ثقله الاقتصادي شرقاً، بالإضافة إلى صعود وكلاء إقليميين؛ في منطقتنا المباركة، لم تعد تلك الأنظمة تكترث لا بالتنمية ولا تعبأ بقضايا التحرير، بل إنها وقد أُتخمت وتبلورت انحيازاتها بعيداً عن الطبقات الشعبية بصورةٍ قاطعة، فلم تعد ترى في الناس سوى عبءٍ مزعجٍ. وكما أن القرآن حمال أوجهٍ، فكذلك هو الواقع، فكل هزيمةٍ أو انكفاءٍ هما بالتأكيد مكسبٌ للطرف المعادي، ويُعد بمثابة فرصة للاستثمار والكسب، وهذا ما حدث مع هذه الأنظمة، التي أسفرت بصفاقةٍ عن وجوهها الحقيقية، وجوهها الأقبح وانحيازاتها السياسية، ويندرج في ذلك بامتياز اتفاق السلام بين الإمارات والكيان الصهيوني، إذ أننا إذا تجاوزنا وتغاضينا عن الهزل وابتذال الكلم، المتمثلين في اختيار كلمة «السلام» بين بلدين لم يتحاربا قط، فإن خطوةً كتلك تبدو منطقيةً تماماً وتتويجاً لنهجٍ واختياراتٍ وانحيازاتٍ موغلةٍ في القدم. لن أعود إلى تأسيس ممالك ومشيخات النفط من عباءة الاستعمار البريطاني، منضويةً في منظومة رأس المال الغربي، ولا التحالف الوثيق بين نظام آل سعود والولايات المتحدة، والمروّج له بالإسلام السني بصفةٍ عامة، لمواجهة حماسة جمهوريات ما بعد الاستقلال العربية ذات النكهة اليسارية، بل إلى مصر وإلى السادات تحديداً، رسخ في نظري عدة انحيازاتٍ وسماتٍ أسهمت بصورةٍ رئيسية في مجرى الأحداث وما وصلنا إليه.
على صعيد السياسة والاقتصاد فلعل أول وأهم اختياراته، كان تصفية الصراع مع إسرائيل، ويا لها من مفارقة كيفية، استغلال عمليةٍ عسكرية شجاعة تحلت بحس تضحيةٍ وفداءٍ عاليين، لتكريس عدم المقدرة على المواجهة «أنا ما أقدرش أحارب أمريكا» في حين أن حرباً كتلك لم تكن مطروحة من الأساس، ولعله كان أكثر اتساقاً حين أدرك (سواءً أوحي إليه أم أُخبر) بأنك لا تستطيع أن تدخل في النسق الأمريكي تماماً، أن «يقعد على حجرها ويمسك بجلبابها» كما كان يرى شاه إيران يفعل حاذقاً، وتظل على عداءٍ لإسرائيل، ناهيك عن كونه لأسبابٍ فكرية سأتطرق إليها، لم يعنه ذلك العداء منذ الأساس.
من ناحيةٍ أخرى كان الثمن دائماً وضمنياً التضحية بالقضية الفلسطينية، تحت مسمياتٍ عدة للتأجيل لوقتٍ لاحقٍ لا يأتي أبداً، وفي الحقيقة هو تغاضٍ عنها وتجنيب لها.
أما على صعيد الفكر، فثمة صعودٌ مذ قدم إلى السلطة لما أسميه «الجهل النضالي» وهو في جوهره عداءٌ مسعورٌ للثقافة، ومحاولات التعمق والمقاربة، والفهم لأسس القضايا وتعقيداتها، عداءٌ يقترن بالتعالي والسخرية والجهل المتبجح، الذي يساوي بين الفكر والحذلقة، وبين الكلام المنطقي المرتب والتقعر، ومن ثم تُكلل ذلك العداء وتستند إليه فهلوةٌ متأصلة ترى أنها تستطيع حل أعوص المشاكل، بدون الحاجة إلى الارتكان إلى المعرفة؛ والحقيقة أن السادات لم يخف ازدراءه وحقده ذاك على المثقفين الذين كان يصفهم بـ»الأفندية» و»الأراذل» بمنتهى السخاء. لقد جرّأ السادات بسلامه وعدم اكتراثه وتهاونه في الحق الفلسطيني و»جهله النضالي» الجميع على التخلص من الأقنعة ودعاوى القطيعة مع الكيان الصهيوني، لاسيما بعد سقوط نظام البعث في العراق الذي كان لم يزل يُحسب لخطه السياسي حساب، وإذ تضعضعت مصر وهُدم العراق نامت القوالب فقامت الأنصاف كما نقول في مصر.
في كل ذلك نحن بصدد اختيارتٍ سياسية وانحيازاتٍ اجتماعية، لقد اختارت تلك الأنظمة التسليم والهزيمة للمشروع الصهيوني. هذه أنظمة ليست قضيتها الشعوب، ولا الحقوق وإنما بقاء السلالات الحاكمة والمكاسب المالية. نحن أمام ذهنيةٍ مهزومةٍ بامتياز، ذهنية تنطلق من جهلٍ متأصل وغرورٍ نفخت فيه الفوائض المالية، إذ لولا الجهل لما تصوروا أنه بالإمكان التعايش مع الكيان الصهيوني، والتطور به ومعه وعلى حسابه؛ وحده الجهل يعمي عن كون الكيان الصهيوني لم يوجد ليندمج، بل كان ردة فعلٍ على كل محاولات ودعاوى الاندماج في بلدان الشتات، ومحصلةً لفشل ذلك المسعى، وحده الجهل يعمي عن مجتمعٍ إسرائيلي لم ين يجنح يميناً، وحده جهلٌ بالذهنية الإسرائيلية الجمعية، يسوغ تصوراً بأن السلام «سيأسر» الإسرائيليين، ويلين من عنصريتهم عوضاً عن أن يرسخها ويطمعهم في المزيد، وحده الجهل يعمي عن دور إسرائيل كبؤرةٍ استعمارية تستهلك وتعرقل وتمتص طاقة هذه المنطقة، بفوائضها المالية.
إن عدم الاندماج الصهيوني خيارٌ مؤسس، تماماً كالانهزام العربي للأنظمة الحالية.
دائماً كانت هناك بدائل وخيارات وأوجهٌ أخرى للواقع والتعامل معه، وعلى سبيل المثال الأقرب جداً، وبغض النظر عن ما قد يكون من خلافاتٍ فكرية، فإن شيخاً مقعداً مصاباً بشللٍ رباعي لا يستطيع أن يوصل شربة ماءٍ إلى فيه، الشيخ الشهيد أحمد ياسين، اختار المقاومة في أحلك الظروف وفي تحدٍ لظرفه الشخصي بإعاقته الجسيمة.
كان معاقاً لكنه أبداً لم يكن مهزوماً، مشلولاً في جسده لكنه كان طليقاً في روحه لديه كرامة وكبرياء. هذا على مستوى القيادات، ولأن التاريخ لا يدور حولهم، فلنذكر ونؤكد بأن غزة كلها قاومت مراراً حروباً إسرائيلية شرسة.
في المقابل فإن بعض أنظمة النفط والثورة المضادة لديها تصورٌ غامض بأنها ستستفيد من إسرائيل، ومن يدري ربما تصوروا أنهم بالحذاقة والفهلوة سيطوعونها لمصالحهم ويوظفونها في حروبهم، وقد اختاروا تصفية القضية الفلسطينية (التي لا تعنيهم في الحقيقة ) ناسين أو متناسين عنصراً هو الأهم: أن هناك شعباً فلسطينيا! ربما يأتي ذلك الكشف كمفاجأة، وهذا الشعب لم يزل مُهجَروه يطالبون بحق العودة، ولا يسعون للتجنس بجنسياتٍ أخرى في الدول العربية، ناهيك من كون ذلك غير مطروحٍ، خاصة في دول الخليج ذاتها. المطلوب الآن من ذلك الشعب (خاصةً الذين يعيشون منه داخل الأراضي المحتلة) أن يمارس الإمحاء أو الإلغاء الذاتي، وهو واقعياً مستحيل.
لا شك أن الشعوب العربية تعيش حقبةً مأزومةً بعمق، شاهدها الأكبر أن دولاً طرفيةً مفرطةً في الصغر لا عمق لها في السياسة، ولا سابقة حضارية هي التي تقرر وترسم سياسات المنطقة بأسرها؛ لكن بغض النظر عن كون قضية الشعب الفلسطيني قد ابتذلت واستغلت من أنظمةٍ قمعيةٍ فاسدة، فأنا على يقين بأن الأيام ستثبت خطأ كل الحسابات التي تصورت أنه بالإمكان التوفيق بين مصالح الكيان الصهيوني والعرب، شعوباً لا أنظمةً، ناهيك من تفاهة وسطحية هذه التصورات.
كاتب مصري