تحولت رأس العين، تلك القرية الصغيرة الواقعة في شمال سوريا، إلى إحدى البؤر الدولية للحرب في سوريا، قطع عنها المياه نحو عشرة أيام. وتأتي مياه الشرب لحوالي 20 ألفاً من سكانها عبر صهاريج بصورة غير منتظمة، ويستخدمون مياه الآبار المالحة للاستحمام. أما الحفاظ على النظافة الشخصية في وقت تتفشى فيه كورونا غير ممكن تقريباً. وثمة تخوف من أن يموت السكان من العطش بسبب حرارة الصيف.
لقد اعتادت هذه القرية الواقعة في محافظة الحسكة، تحت سيطرة الحكم الذاتي الكردي، الذي يدير الأقاليم الكردية في شمال سوريا، الحصول على المياه الجارية من محطة سحب كبيرة في موقع علوك الذي تسيطر عليه القوات التركية التي غزت شمال سوريا. توفر المحطة المياه لأكثر من 800 ألف نسمة في المحافظة، وهناك تتم تعبئة الصهاريج التي تزود المياه للمنطقة القروية المقطوعة عن شبكة المياه اللوائية.
منذ بداية العام الحالي، قطعت تركيا تزويد المياه للمحطة ثماني مرات بذريعة الحاجة إلى أعمال الصيانة، ولكن السبب يبدو مختلفاً: صراع تركيا مع محافظة الحسكة على زيادة الكهرباء للقوات التركية، وهي كهرباء يوفرها الإقليم الكردي وعليها تعتمد محطة المياه. وحسب ادعاء تركيا، فإن الإقليم الكردي مسؤول عن قطع المياه لأنه قطع تيار الكهرباء، ما يعطل عمل المحطة. لا ينفي الأكراد أنهم قطعوا الكهرباء، لكنهم -حسب قولهم- فعلوا ذلك رداً على تركيا لوقفها تدفق المياه.
هو صراع آخر من صراعات القوى المحلية التي لا تصل إلى عناوين الأخبار ويتم ابتلاعها في تقارير عن المعركة في سوريا. ولكن نجحت أزمة المياه هذه المرة في اختراق حدود عدم المبالاة وأثارت اهتمام المجتمع الدولي، الذي استخدم الضغط على تركيا. وكتب المبعوث الأمريكي لشؤون سوريا، جيمس جيفري، بأنه يجري محادثات مع القيادة التركية لاستئناف تزويد المياه. وتعمل روسيا أيضاً من أجل ذلك، وعدد من الدول الأوروبية.
وتركياً، يدور الحديث عن نظام سياسي أكبر من احتياجات القرية الكردية، أي حرب بين دول عظمى. روسيا المعنية بخطوات سياسية من أجل حل سياسي للحرب في سوريا، تعطي أهمية لمشاركة الأكراد في النقاشات حول الدستور الجديد. بدونهم، تقول روسيا، لن يكون بالإمكان تشكيل حكومة متفق عليها وبناء دولة موحدة تحت سيطرة نظام سوري متفق عليه. تعارض تركيا مشاركة الأكراد السوريين، الذين ترى فيهم فرعاً لحزب العمال الكردي، الذي يعتبر منظمة إرهابية. وتراوح الولايات المتحدة بين استمرار تأييدها للأكراد، الذين كانوا رأس الحربة في الحرب ضد داعش، ورغبتها في الحفاظ على علاقتها الجيدة مع تركيا. وتفضل الإدارة الأمريكية بسبب ذلك أن ترى في أزمة المياه في رأس العين مسألة إنسانية، وليس أساساً لمنافسة ليّ أذرع.
لا تنظر تركيا القضية بهذا المنظور. ومن وجهة نظرها، فإن كل تنازل على المستوى المحلي من شأنه أن يؤثر على صورتها وقدرتها على تحقيق أهدافها في شمال سوريا، التي تشمل إبعاد السكان الأكراد عميقاً إلى داخل الأراضي السورية.
لقرية رأس العين تاريخ ممتع، فقد استخدمت في القرن التاسع عشر ملجأ للاجئين الشيشان الذين هربوا من الاحتلال الروسي إلى القوقاز. وبنت السلطات العثمانية قرب القرية قلعة من أجل الدفاع عنهم ممن يلاحقونهم. في العام 1915 عندما طردت الإمبراطورية العثمانية الأقلية الأرمنية وذبحتها، وجد آلاف الأرمن القرية ومحيطها ملجأ لهم، في المخيمات التي أقيمت من أجلهم. وعندما انهارت الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وتم تقسيم أراضيها بين الدول العظمى المنتصرة، تم تقسيم القرية بين تركيا وسوريا، والآن يفصل بين الشطرين جدار فيه بوابة حديدية كبيرة، تستخدم كنقطة عبور وحيدة بين القرية وتركيا.
وحول السيطرة على البوابة، يجري مؤخراً صراع بين سكان القرية والمليشيات السورية التي تعمل برعاية تركيا، بعد أن قررت تركيا تعيين رجل عسكري من قبل المليشيات للإشراف على المعبر. ويخاف السكان أن يؤدي تعيين شخص عسكري تركي إلى وصول البضائع القادمة من خلف الحدود إلى أيدي المليشيات المحلية وليس إلى أيدي السكان.
إن صراعات القوة حول رأس العين تعكس الحروب المحلية الصغيرة التي تجري في مناطق أخرى في سوريا، منها درعا في جنوب سوريا، والقنيطرة ودير الزور وضواحي دمشق. لم تعد هذه معارك عنيفة بين المتمردين والنظام، بل صراعات قوة فيما بين المليشيات المحلية نفسها، ومواجهات بين قبائل وعائلات ووحدات صغيرة للجيش السوري ومجموعات من المسلحين؛ للسيطرة والاستيلاء على الأصول وجباية العمولات وتهريب البضائع. مع ذلك، هي تدلل على الصعوبات الكبيرة المتوقعة أمام أي نظام سوري سيقوم في أعقاب العملية السياسية من أجل استقرار المنطقة وإخضاعها إلى أنظمة الإدارة والقانون.
إلى جانب ذلك، تستعد سوريا للحرب الكبرى حول محافظة إدلب التي يتركز فيها عشرات آلاف مقاتلي المليشيات، بالأساس أعضاء جبهة النصرة. الجهود العسكرية والسياسية لتركيا وروسيا وسوريا المبذولة لإخلائهم من المحافظة فشلت حتى اللحظة. وحين تبدأ هذه المعركة، فلا أحد يهتم لرأس العين.
بقلم: تسفي برئيل
هآرتس 31/8/2020