الوباء عالميا… الرواية عربيا

نروي أو لا نروي، ذلك ما يمليه زمن الوباء عربيا. ينتظر الروائي ما ستمليه عليه اللحظة الوبائية، بما تسمح به فواصلها الخالية من الخوف أو المكثفة به. هل يستطيع أن يكتب الروائي خيالا وهو في قبضة المرض الذي يقف له بالمرصاد في كل زاوية وشارع، أو الموت الذي يتربص به الدوائر عند كل عدوى متخيلة من مريض مفترض حاملا للفيروس لا تبدو عليه الأعراض؟ ليس فقط الخوف من المرض هو ما يدفع أو يمنع الروائي من توثيق اللحظة الوبائية تخييلا، جدل الكتابة «الاستعجالية» أيضا، فالروائي الأردني إلياس فركوح يعتبر «الكتابة الآن عن فيروس كورونا، ربما يكون غير دقيق».

رواية الوباء أم رواية الذات:

كيف يجد الروائي نفسه مدفوعا إلى الكتابة في ظل الوضع الوبائي المروع؟ لا يمكن إهمال الحجر الصحي وخطوات الخروج المحسوبة بدقة، فكل خطأ قد يؤدي بحياة الروائي كما غيره إلى التهلكة، تفادي التجمعات، الحفاظ على «التباعد الاجتماعي» النظر في تعابير الوجوه المحتاطة من الموت، الزمن المسيج بالحذر، والمسافات بين الأفراد في العائلة الواحدة. إن الوضع الوبائي لا يقرأ زمنه إلا مقلوب القيم المعتادة، فانتظار الدور في سلسلة أمام مؤسسة، أو محل، يشوبه الاضطراب والتوجس من أي اقتراب قد يمس بالمسافة المكرسة في وعي الخوف من الآخر المفترض إصابته. في خضم هذا الصراع النفسي، تُنسج الملهاة الإنسانية غير العابئة بالوباء، بالفيروس كعنصر مجهري فتّاك، فيصادف الروائيُ وهو يبحث عن حدث تنطلق منه روايته المفترضة، تناقضا رهيبا في واقع معاشه، حيث في الشارع أو الحي المعين يلتصق الناس ببعضهم، ولا يأبهون بمعايير الوقاية، بل لا يهتمون أصلا بما يجري ويعتبرونه مجرد إشاعة من الإشاعات، أو مؤامرة، وهنا يتغير الوضع، فيتهاوى المنطق العلمي، من خلال منطق لا يقوم على أساس سوى الوهم والريبة من الخطابات الرسمية.

الصراع النفسي أو الرواية على حواف اللذة:

من يملك سلطة الكتابة، والحكي على وجه الخصوص، يعتبر باحثا عن حدث نووي، يدفع به إلى إنتاج رواية، وهو في ذلك يتتبع الانقداحات التي تنسج الحدث، والصراع المزدوج الذي يعيشه، صراعه مع الخوف والمرض والموت، وصراع الحدث في الحكاية، وهذا ما يمكّنه من الإقبال على الكتابة، ويمنحه لذة المغامرة في ترسيم حدود الرواية المشبعة بخوفه الذاتي من مآلات النهاية، أو مطبات المرض، فتصبح الكتابة مشوبة بهشاشة الوقوف على الحقيقة الإنسانية، وحقيقة الرواية في زمن الوباء، الأكيد أنها تختلف عن غيرها من الأزمنة، لأنها لا تتم وفق حالات الارتخاء داخل نظم المفردات والتراكيب والدلالات، إنها تكون مشبعة بخوف استكشاف الراهن، واستطلاع المستقبل، وفي هذا تكمن لذة الحكاية ومرارتها، لأنها تستشرف المختلف. يقف الروائي على مشارف العتمة، يحاول أن يستضيء بالأمل في الرواية، لعلها تشكّل جسرا إلى المجهول في طي المقبل، لأن ما يعيشه عزلة توجهه إلى بناء الحدث من لا موقع الرفاه العادي في الغوص في عالم الكتابة بجماليات الإضاءة. يقف الروائي على هضبة الخوف المظلمة، ممتشقا القلم الذي لا يرى موقعه من الورقة، فتنزل الكتابة كأنها شيفرات لا تسلسلية غير معنية بالسطر المستقيم، ولا بالمعنى الذي يختلف أثناء تداخل السطور، وكما أن ظلمة الحوت هي ظلمة مستغرقة في ظلمة العمق البحري، أيضا ظلمة زمن الوباء هي ظلمة مستغرقة في ظلمة سابق العصور في وباءاتها الماضية. إن طبقات الظلمة المعبر عنها، والحاصلة في الخوف واللارؤية، تمنح الروائي السند التاريخي والاجتماعي والثقافي في كتابة رواية تستجيب للواقع الإنساني في إطلالته الهشة على واقعيته، في ظل مسار وجودي تتناوبه المخاطر، كما الأوضاع الطبيعية، وفي كل منهما يحتاج إلى الجمالية الإنسانية في قول الأشياء وترجمتها في واقع الحكاية.

لا تروى الحكاية إلا من حيث هي أحداث وقعت في خيال الروائي، ولامس واقعيتها عندما اختار الشخوص وتجول معهم وتحدث إليهم، وقبل هذا وذاك عرفهم، وكورونا لم تسعف الروائي في أن يقتنص فرصته كي يختار عالم روايته.

هل يمكن الانفصال عن العالم؟

إننا نقف على هضبة الكتابة ونحن نتأمل وضعا غريبا جنح بنا عربيا نحو أنماط من التفكير ومن الأسئلة غير الاعتيادية، تكون في بعض حالاتها متحالفة مع الوهم والخرافة، وأحيانا تتمسك بعقلانية مفرطة وصارمة، وهو ما يرسم منحنيات التخييل المتناقضة المنتجة للحدث الفارق، لكننا قد نهمل فورتها إذا نحن لم نسجلها في حينها، فحرائق الأسئلة ودهشتها تضمحل مع مرور الوقت، ولهذا يرى الروائي المصري منير عتيبة بأن «أزمات مثل هذه ستغير كل شيء.. لهذا فإن الكتابة ضرورية في هذه المرحلة، في أي شكل من أشكالها لتكون مرجعا للأيام المقبلة» «داعيا إلى تدوين كل التفاصيل، مؤكدا على أن يكتب الروائي عن فيروس كورونا وما يشعر به كإنسان».
الكثير من الناس يستفسرون عن هذه التحولات المفاجئة في وضع العالم، عن المرضى المبعثرين في ممرات المستشفيات، عن الموت المزروع في كل مكان، عن تفشي الفوضى، عن التناقض في سلوكات التزام معايير الوقاية، عن بشر ملثمين وآخرين مستهزئين، عن بشر يضحكون من الوباء وآخرين يبكون عليه، عن مواكب الجنازات المشيعة إلى المقابر، عن القبور التي تنجز بالحفارات، عن أسعار حفرها الذي صار باهظا، عن قلة السيولة المالية، عن الناس وهو ينتفضون على مستوى شاشات الفضائيات واليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي، عن مجتمعات زادت حدة الحروب فيها، وعن أنظمة غذت بكل ما تملك نار الفتنة، فوق نار الوباء، تاركة الشعوب لمصيرها البائس، وكل ما يتبادر إلى الذهن حين ينفجر بالون الوباء الضخم أمام عقلنا المحتار، ندرك فقط أننا في زمن الوباء، ونستذكر الأوبئة الماضية، الطاعون والتيفوس والكوليرا، وفي هذه الأزمنة يختل مسار التخطيط، وتُشْدَهُ العقول، لوقوع ما لم يكن محسوبا أنه سوف يقع. وللرواية العربية أن تستثمر تخييلا في ما حدث، ولعل بعض أشيائه (الواقع) كانت حصرا على مجتمعات عربية بعينها، ومن هنا تضاف إلى واقع الحجر الصحي، فكرة العزل عن العالم (الغربي) المالك للإمكان المادي والمعنوي في مواجهة الوباء.
تحولت البيوت إلى علب، والقبور إلى علب أخرى، والوطن علبة معزولة عن العالم لشدة الفروق المنطقية/الإنسانية في التعامل مع وحش الوباء. نتحرك في علبة البيت ونسكن في علبة القبر، فهل يمكن أن نساءل سكون القبر باعتبار هذا الأخير فكرة علبوية، ألم تكن الحركة في البيت سكونا، بمعنى تعطيل الحركة على مستويات تتماشى وطبيعة الكائن المتحرك، فقط تبقى الذاكرة هي المحرك الأساس للمحجور على مستويات العالم والتاريخ، وذلك هو ما يحرك الساكن علبة القبر، إنه ذاكرة تتحرك على مستوى العالم والتاريخ أيضا، فهل يستوي الأموات والأحياء زمن الوباء.

تروى ولا تصدق:

لا تروى الحكاية إلا من حيث هي أحداث وقعت في خيال الروائي، ولامس واقعيتها عندما اختار الشخوص وتجول معهم وتحدث إليهم، وقبل هذا وذاك عرفهم، وكورونا لم تسعف الروائي في أن يقتنص فرصته كي يختار عالم روايته، بل باغتته بعالم وقف مندهشا، وهو يحاول أن يقبض على خيوط عرائسه كي يحركها في الوجهات المحددة، هو يدري مسبقا أنها يمكن أن تنفلت منه، وتبني مصائرها متحررة من قيوده، لكنه لم يكن يتخيله بتلك الصورة السريعة والغريبة، ولهذا لم يؤشر إلى البيوت التي أشيع أنها توبأت، وانفصلت تماما عن مسار المجتمع الموبوء أصلا، لكن عندما أشارت الأصابع إلى ذلك البيت أصبح أهله في عداد المعزولين قسرا وقهرا، ماركة مسجلة تعني عدم الاقتراب. الكادر الروائي أضحى سينمائيا بامتياز، فالقرنفل والكالبتوس أصبحت مواد معقمة لتبخير المنازل، ومناخ البخور والاندفاع خلف المجمر للغطس في ضباب البخور، يجعل الكتابة تنتقل بين العصور والأمكنة والفضاءات الأسطورية، الواقع أصبح أسطورة، فالفضاء المؤمن بالإيمان أصبح فجأة مفتوحا على الإنسان الذي انقطع حبل تواصله الظاهر بالسماء، عن طريق المسجد، أو الكنيسة، لم تكن هذه السيناريوهات مصنفة في ذهن الكاتب، المفاجأة هو عنصر الرواية في زمن الوباء.

٭ كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية