جونسون يعرض مشروعا “غير قانوني” لمستقبل التجارة مع الاتحاد الأوروبي

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

بعد يوم من تقديم مشروع قانون “السوق الداخلية” لمجلس العموم، أعلنت الحكومة البريطانية أنها توصلت إلى اتفاق لتحرير التجارة مع اليابان، في الوقت الذي دخلت فيه مفاوضاتها التجارية مع الاتحاد الأوروبي في نفق مظلم ربما ينتهي إلى إضاعة فرص التوصل إلى صيغة إيجابية تحافظ على مصالح الطرفين بعد سريان قانون الانفصال بينهما في بداية العام المقبل. الاتحاد الأوروبي يمثل الشريك التجاري الأول لبريطانيا، في حين ان اليابان تمثل الشريك التجاري السابع. لكن التوصل إلى اتفاق يعفي 99 في المئة من الصادرات البريطانية إلى اليابان، يفتح الباب أمامها للدخول إلى أسواق واسعة في دول جنوب شرق آسيا والمحيط الهادي.

الأزمة الراهنة في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي تعود إلى مشروع قانون “السوق الداخلية” الذي قدمته حكومة بوريس جونسون لمجلس العموم يوم الأربعاء الماضي، وهو يمثل نموذجا لسلوك حكومة تعلن صراحة عدم احترامها لقوانين الدولة، وللاتفاقيات التعاقدية مع الدول الأخرى، ما يلقى ظلالا قاتمة على الثقة في سياساتها محليا وخارجيا. مشروع القانون يضع الحكومة فوق القانون، ويمهد لاتخاذ إجراءات استثنائية واسعة النطاق، لإعادة تنظيم أسواق تداول السلع والخدمات في عموم بريطانيا، وتقويض سلطات برلمانات وحكومات أقاليم اسكتلندا وويلز وايرلندا الشمالية، وتقويض اتفاق السلام في ايرلندا الشمالية، وكذلك تقويض المفاوضات التجارية مع الاتحاد الأوروبي بخصوص مستقبل العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، ونسف إمكان التوصل لاتفاق تجاري مشترك. مشروع القانون يسمح للحكومة بتعديل التزاماتها في بروتوكول تنظيم التجارة والجمارك في ايرلندا الشمالية من طرف واحد، كما يفتح الباب لاحتمال اتخاذ إجراءات استثنائية من طرف واحد أيضا فيما يتعلق بتبادل السلع والخدمات مع الاتحاد الأوروبي.

كذلك فإن إعلان بريطانيا انها ستوقف المفاوضات إذا فشل الطرفان في التوصل إلى اتفاق بحلول منتصف الشهر المقبل قد زاد من صعوبة الموقف. المشروع الذي سيناقشه ويصوت عليه مجلسا العموم واللوردات من المتوقع أن يواجه مقاومة شرسة من جانب نواب العمال واسكتلندا وويلز إلى جانب ما يقرب من نصف نواب ايرلندا الشمالية. كذلك فإن مشروع القانون يلقى معارضة قوية من جانب جمهورية ايرلندا وقيادة الاتحاد الأوروبي، لأن هذا القانون ينقل بريطانيا من موقف “تجاري تفاوضي” إلى موقف “أيديولوجي غير تفاوضى” يصيب المفاوضات الحالية في مقتل إذا لم يسارع الطرفان إلى محاولة إنقاذها.

قبل ظهور مشروع القانون إلى العلن، تركزت الخلافات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي في موضوعات حقوق الصيد في المياه الإقليمية، وقواعد المنافسة العادلة، وإعادة تنظيم شروط ومواصفات تبادل الخدمات المالية، وقضايا تنظيم الحدود التجارية بين شطري ايرلندا، بما لا يخل باتفاقية السلام الايرلندية، التي تسمح بمرونة عالية في تنقل البضائع داخل الجزيرة الايرلندية. لكن الفشل في التوصل إلى اتفاق يمكن أن يقود إلى أزمة اقتصادية عالمية جديدة، بسبب إرباك شبكات الإمدادات والمبادلات في الاتحاد الأوروبي التي كانت بريطانيا جزءا رئيسيا منها لمدة نصف قرن. وبالتالي فإن خطورة مشروع القانون الأخير تتجاوز السوق الداخلية البريطانية والسوق الأوروبية وتمتد إلى كل الأسواق العالمية في وقت يفتقر فيه الاقتصاد العالمي لأبسط مقومات الاستقرار.

خسارة أكبر شريك تجاري

 

يمثل الاتحاد الأوروبي حتى الآن الشريك التجاري الأول لبريطانيا، إذ استوعب 43 في المئة من الصادرات بقيمة 300 مليار جنيه إسترليني في العام الماضي، كما وفر ما يقرب من 51 في المئة من كل وارداتها بقيمة 372 مليار جنيه إسترليني في العام نفسه. وبمقارنة وزن العلاقات التجارية بين بريطانيا والمناطق التجارية الرئيسية الأخرى في العالم، يتضح أن سوق الولايات المتحدة تستوعب حوالي 58 مليار جنيه إسترليني بنسبة 19 في المئة من صادراتها، بينما تستوعب الصين حوالي 31 مليار دولار فقط من الصادرات، أي ما يعادل 10 في المئة تقريبا من صادراتها للاتحاد الأوروبي، في حين تبلغ قيمة الصادرات الكلية إلى اليابان حوالي 15 مليار جنيه إسترليني أي ما يعادل 5 في المئة من صادراتها إلى الاتحاد الأوروبي. وفي حال عدم الاتفاق على ترتيبات تجارية مشتركة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي فإن ذلك يمكن أن يكلفها ما يقرب من 16 مليار جنيه إسترليني بنسبة 5 في المئة من صادراتها.

هذا الانخفاض في الصادرات سيكون أحد مظاهر التراجع في التجارة المتبادلة بين الطرفين، التي تظهر فعلا قدرا كبيرا من التراجع منذ بداية القرن الحالي. وفي حال عدم التوصل لاتفاق تجاري مشترك، فستخضع المبادلات بين الطرفين في السلع والخدمات لقواعد منظمة التجارة العالمية، الأمر الذي يعني فرض الرسوم الجمركية الأوروبية، والقيود المتعلقة بالمواصفات الصناعية والصحية والبيئية على السلع والخدمات الواردة من بريطانيا. ومن المعروف ان الاتحاد الأوروبي يفرض رسوما جمركية عالية على المنتجات الزراعية مثل الألبان واللحوم والمصنعات الغذائية، تصل إلى حوالي 44 في المئة على الألبان ومنتجاتها و28 في المئة على السكر والحلويات، و 18 في المئة على الأسماك. وفي القطاع الصناعي يفرض الاتحاد رسوما عالية تضمن توفير مزايا تنافسية للسلع المنتجة محليا في بعض الصناعات، مثل الملابس الجاهزة بنسبة 11 في المئة، والسيارات بنسبة 10 في المئة.

أن عدم التوصل إلى اتفاق تجاري مشترك سيؤدي في الأجل القصير إلى اضطراب شديد في المبادلات التجارية، خصوصا في مجال السلع الزراعية الغذائية، ما لم تبادر بريطانيا سريعا إلى عقد ترتيبات تجارية مع دول أخرى تضمن أسواقا ملائمة لصادراتها من اللحوم ومنتجات الألبان، خصوصا من اسكتلندا وايرلندا وويلز، وأيضا لوارداتها من الخضروات والفواكه والسلع الغذائية لتصبح بديلا عن بلدان مثل إسبانيا وإيطاليا وفرنسا. كذلك فإن صناعة السيارات في بريطانيا ستواجه هي الأخرى مستقبلا صعبا جدا، خصوصا في الوقت الذي تتقدم فيه صناعة السيارات في دول مثل إسبانيا والتشيك وإيطاليا وألمانيا، بما يتجاوز قدرة الصناعة البريطانية على المنافسة.

وإلى جانب التجارة السلعية، فإن المبادلات الخدمية بين الطرفين مثل التأمين والنقل والشحن والاتصالات وخدمات المدفوعات والمقاصة المالية والاستثمارات، إضافة إلى الخدمات المصرفية عبر الحدود، ستصبح جميعها موضوعات للخلاف بعد نحو خمسين عاما من وجود تنظيمات وتشربعات واحدة تحكم هذه المبادلات.

وتبلغ قيمة سوق الخدمات المالية في بريطانيا حاليا ما يقرب من 300 مليار جنيه إسترليني، منها أموال من مؤسسات أوروبية بقيمة 30 مليار جنيه أي بنسبة 10 في المئة. وفي حال إصرار الاتحاد الأوروبي على تناسق قواعد تنظيم الاستثمار المالي طبقا للمعايير الأوروبية، فإن مؤسسات الخدمات المالية البريطانية ستخسر نسبة كبيرة من عملائها الأوروبيين. ومن الطبيعي بعد ذلك أن تنخفض المعاملات في سوق المال البريطانية وأن يهتز الإسترليني بشدة، وأن تنقل مؤسسات صناعية وتجارية وخدمية مكاتبها الرئيسية من لندن إلى عواصم أوروبية أخرى مثل مدريد ودبلن وباريس وبرلين.

الآثار طويلة المدى

تبدو حكومة بوريس جونسون حاليا وكأنها تخوض معركة أيديولوجية ضد الاتحاد الأوروبي بصرف النظر عن النتائج والتكلفة. وقد رفعت الحكومة سقف هذه المعركة بتقديم مشروع قانون “السوق الداخلية” وبوضع حد أقصى لمواصلة المفاوضات ينتهي في منتصف الشهر المقبل. هذا التصعيد يجعل الفشل أقرب من النجاح، في التوصل إلى اتفاق شراكة تجارية.

الأسوأ من ذلك أن اعتراف الحكومة بأنها تخالف القوانين المحلية والقانون الدولي في مشروع القانون، من شأنه أن يؤثر على فرص بريطانيا في عقد اتفاقيات تجارية عادلة مع أطراف أخرى خارج أوروبا، أهمها الولايات المتحدة والصين، وذلك على الرغم من إعلان الاتفاق مع اليابان. وتطفو على السطح حاليا تصريحات ومواقف في الخارج والداخل تشكك في جدوى التوصل إلى اتفاقات تجارية مع بريطانيا. على سبيل المثال فإن نانسي بيلوسي رئيس مجلس النواب الأمريكي صرحت بأن تمرير مشروع قانون “السوق الداخلية” من شأنه أن يمحو تماما فرصة عقد اتفاق تجاري بين البلدين يوافق عليه الكونغرس. وعزت بيلوسي ذلك إلى تعارض القانون مع التزامات بريطانيا الدولية، ومنها اتفاق السلام الايرلندي الذي شاركت الولايات المتحدة في إنجازه عام 1998. كذلك تواجه بريطانيا صعوبات في تسويق فكرة عقد اتفاقات تجارية جديدة مع أطراف أخرى منها الصين نظرا لوجود خلافات حول تحرير التجارة والاستثمار والتكنولوجيا. وفي الداخل حذر جون ميجور رئيس الوزراء البريطاني الأسبق من الآثار السلبية المتوقعة لمشروع القانون.

انكماش الاقتصاد

خسارة السوق الأوروبية ستفضي حسب تقديرات الخبراء إلى انكماش حجم الاقتصاد البريطاني بنسبة تتراوح بين واحد إلى اثنين في المئة، كما سيؤدي الى انخفاض معدلات النمو في السنوات التالية. ويبلغ حجم الاقتصاد البريطاني سنويا ما يقرب من تريليون دولار مقابل 16 تريليون دولار للاقتصاد الأوروبي. ولا يمكن فصل ذلك عن الظروف التي يمر بها الاقتصاد العالمي من تداعيات أزمة كورونا وتأثير زيادة معدلات الديون وضعف النمو، إضافة إلى عدم اليقين بشأن المستقبل مع تعرض احتمال التوصل إلى لقاح آمن وفعال للوقاية من فيروس كوفيد-19 لضربة قاسية نتيجة الشكوك المثارة حاليا حول أمان وفعالية اللقاح الذي تطوره شركة “استرازينيكا” البريطانية الذي كان العالم يعلق عليه آمالا كبيرة، ويتوقع دخوله إلى حيز الاستخدام على نطاق واسع قبل نهاية العام الحالي.

وهكذا فإن فشل بريطانيا في التوصل إلى اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يضعها في موقف اقتصادي أشد صعوبة، بعد أن ارتفع حجم الدين العام إلى 2 تريليون جنيه، وانكمش الاقتصاد بنسبة 22 في المئة خلال النصف الأول من العام الحالي، وهو ما يعادل ضعف نسبة الانكماش الاقتصادي مقارنة بأي من بلدان الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة. هذا الانكماش الكبير يبرز ضعف قدرة بريطانيا على مواجهة الأزمات الطارئة بمفردها، ويؤكد ان السياسات الاقتصادية الحالية تحتاج إلى كثير من التعديلات، والمزيد من التعاون مع العالم بما فيه الاتحاد الأوروبي، باعتبار ان الأزمات الاقتصادية الحالية هي بشكل عام ذات طابع عالمي، ومن الصعب مواجهتها بالخروج من ترتيبات التعاون المتعدد الأطراف.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية