على الرواية العربية ممارسة نقد الدين والدنيا: خليل النعيمي: للغربة مذاق العسل عندما يكون الوطن عَلْقَماً

حجم الخط
0

رجل تعددت دلالاته، وتشتت مساحاته… وضمن تعدده وتشتته، امتطى صهوة ميتافيزيقا السفر والحضر، ليكتب لنا أجمل مشاهداته، وأروع ما خزنته ذاكرته، في نصوص رحلية وروائية، غاية في الصناعة الأدبية والفنية. هذا الكاتب والرحالة لا يمكن لشغوف بالقراءة، وعاشق للسفر في جغرافياته الرهيبة، ومقولاته الفاخرة، ألا يتعرف عليه بسرعة وعلى عجل..
خصائص ومياسم ينفرد بها الروائي والرحالة والطبيب السوري خليل النعيمي صاحب التجربة الشامخة في الكتابة والإبداع، والأناقة في الذوق والحياة.. مع هذا المسافر الكبير في الأمكنة والناس والثقافات..نسافر معه هذه المرة عبر حواره الجميل…

○ لا تنجلي الحياة وتنسرح، إلا والإنسان مغمور بتجارب شتى ومتنوعة، فالتجارب هي التي تكتب سيرة المرء…وخليل النعيمي الطبيب الجراح والروائيّ والرحّالة، لن يحيد عن هذا المسار، كما أتصوّر، فهلا رسمت لنا بعض ملامح هذه التجارب في مسيرة حياتكم؟
• تجارب الحياة تبدأ منذ الولادة.. وأحياناً هذه الولادة تكون سعيدة وصعبة. وتلك كانت حالتي، ولدت في الصحراء السورية ونشأتُ فيها. دخلت المدرسة صدفة، فأنا من قبيلة مترَحَّلَة باستمرار. نرحل وننزل، هذه هي القاعدة التي عشتها، وتآلفتُ معها طفلاً. وكان لذلك الرحيل والنزيل طعم العسل والرماد. في الربيع، بعدما نطوي الخيام، كنا نلهو كثيراً. فنحن، صغاراً، لم نكن نهتمّ بشيء، ولا يكلفنا أحد بأمر. وعندما نتعب في الطريق والقافلة تسير، كنا ننام على ظهور الخيل والجمال، تهزّنا حركاتها الهادئة مثل موج سحريّ، إلى أن نفيق. ومنذ أن نفتح عيوننا الصغيرة، نرى ضوءاً آخر وقاعاً أخرى وأشجاراً لم نألفها من قبل ونباتات جديدة، ونكاد نحس بالإنهاك العاصف الذي يجعل الخيل تَزْفُر بعصبية، وكأنها تطرد التعب من خياشيمها. والجِمال تَرْمَح بقوائمها المعقوفة الطويلة، وكأنها تُشاجِر الريح. ونصير نتلَفَّتُ من حولنا، ونحن نكاد أن نبكي على مرابعنا التي تركناها. من ذلك الفَقْد المستمر نشأتْ في قلبي حكمة المحبّة.. محبة الأمكنة والكائنات. وإلى الان، عبر زياراتي لقارات «الكوكب المائيّ» المُسَمّى الكرة الأرضية خطأً، لا زلتُ أبحث عن تلك المرابع التي لم أعد أريد، ولا أستطيع حتى أن أراها، بعد كل الذي أصاب سوريا من التدمير والطغيان. وأنا في الحقيقة، لا أعرف حتى تحديد تلك الأمكنة الصغيرة الآن. لكن ذلك لا يغيّر من الأمر شيئاً، طالما أنها غدت جزءاً أساسياً من تاريخي الشخصيّ. هذا ما حصل في البدء، وما تلاه ليس إلا من نافل القول، لأنه يشبه إلى حد كبير تجارب الاخرين.
○من القضايا الضاغطة على عقل ووجدان الإنسان العربي، تلك التي لها أواصر بالغربة والهجرة والأستاذ النعيمي من الذين شربوا كؤوس الهجرة والاغتراب، نتطلع لتوصيف مذاقاته وطعومه من البعد عن الوطن والمنزل الأول، الذي يشهد على انقداح شرارته وانبثاقه؟
• هذا ليس صحيحاً.. الغربة هي أجمل لحظات الحياة لدى الكائنات التي لا تعود تنسجم مع أوضاعها، وتضطرّ للرحيل. ونحن عندما نسافر (حتى لا استعمل نُهاجر ولا نتَغَرّب)، لا نستبدل مكاناً بمكان آخر، وإنما نستبدل فكراً بفكر آخر. نحن لا ننْفُر من الأمكنة التي نرحل عنها، وإنما ننْفُر من السلطة التي تتحكّم فيها. فالمكان كالكائن لا يمكن استبداله. وكل مَنْ يقول عكس ذلك، لا تأخذ ما يقوله على محمل الصواب. وبعدما كبرنا، صرنا نعرف أن مكاننا الحقيقي ليس مسقط الرأس، وإنما هو ‘موطئ القدَم. ولا حاجة بي لأُذكِّركَ ببيت المتنبي الذي يقول فيه : غنيّ عن الأوطان لا يستحثّني // إلى وطن سافرتُ عنه إياب. ولا ضرورة للإشارة، كما أتصوّر، إلى أنه يعني الوطن الذي يسيء إليه، ويرحل هو عنه مستاء منه. ولا حاجة بي لتذكيرك، أيضاً، ببيت الشعر القديم مَخْطوفاً: بلادي إذا جارتْ عليَّ كريهة // وأهلي إذا ضنّوا عليَّ لئام. (والأصل كما تعرف: بلادي إذا….عزيزة. وأهلي إذا… كِرام). وإذاً، للغربة مذاق العسل عندما يكون الوطن عَلْقَماً. أيكفي هذا؟
○ خليل النعيمي خليط من الأدب والطب، نسعى لمعرفة أي مجال يتربع على قبة قلبه، ويحظى باهتمام أكبر؟
• ليس للقلب قُبَّة. ولا أحد يترَبَّع عليه، باستثناء الحركة المستمرة للحياة. لا وقت للحَصْر، والتحديد. علينا أن نأخذ الحياة غِلابا. وما لم ندرك ذلك سيَفْتك الركود، والتشَبُّث البليد، بوجودنا، وينخره مثل العِث الذي يَقْرُض الثياب المهملة. علينا أن نتجاوز باستمرار النقطة التي نصل إليها، وإلا فقد الوجود طعمه المر الآسِر، وغدا باهتاً كالضباب، ولكي أجيبك بعد هذه المقدمة القصيرة، وقد صرت أخشى من سوء الفهم، أقول لا الطب وحده ولا الأدب، يكفيان لملء حياة شديدة الاتساع. هما، إذاً، عنصران من بين عناصر لا تحصى تشكل حياتي. حياتي التي تتغَيّر باستمرار.
○ بماذا يذكركم الروائي خليل النعيمي عنوان «مديح الهرب»، وهلا رجعت بنا إلى سياقات هذا العنوان، وأسباب نزوله؟
• يذكِّرني فحسب؟ يجعلني أستعيد كل شيء كان سبباً للهرب من الجنة. من دمشق أقصد. يذكّرني بالقمع المعمم الذي كان يسود سوريا أوائل السبعينيات، وبالخوف العميق والمكتوم من كل أحد ومن كل شيء، حتى من مجرّد التفكير بما لا يجوز أن يُفَكَّر به. وهل ثَمَّة حدود لفكر الكائن، غير حدود السلطة اللعينة، وما لا ترغب هي بأن يكون موضوعاً لفكر مُضْطَهَديها؟ طغيان السلطة الأمنية التي كانت، ولا زالت مع الأسف، ترعب سوريا مزروع في هذا العنوان، ومتغلغل في بنيان رواية «مديح الهرب». وهي تحكي قصة ثلاثة ضباط على الجبهة السورية، ورابعهم مدنيّ. تروي معاناتهم من القهر، والملاحقات الخبيثة والخبيئة، ومن التعسّف والطغيان. أحدهم انتحر، والآخر سجن، والثالث انشقّ ونجا بنفسه. والمدنيّ المثقف الذي كان في حزب السلطة، أُصيب بالجنون. فالسلطة اللئيمة لم تكن تسيء إلى المعارضين لها فحسب، بل كانت تدفن حتى أعزّ أبنائها في التراب، أو تجعلهم يجنّون، كما حدث للرابع في هذه الرواية. وهي قد كتبت ونشرت سنة 2005، وفيها تحدث أولى الانشقاقات عن جسد الجيش الذي كان لا زال يسمّى الجيش العربي السوريّ. وقد فَقَد منذ أن انبثقَت الثورة العظيمة هذه المزيّة: مزية اسم لم يعد يستحقه.
○ما تقويم المبدع خليل النعيمي للرواية العربية، وهل من رموز تستهويكم للارتماء في بساتين تجاربها الروائية؟
• أمام الرواية العربية اليوم مشروع خطير: نقد الدنيا ونقد الدين، أو نقد الممارسة الخاطئة لكليهما. وهذا الموقف النقدي، وبالخصوص، في شكله النَصّيّ يحتاج إلى حرية ملتهبة وإلى ضوء آسر، وليس إلى جوائز استيعابية، وإلى نشاط مشهدي خاذل وسمج. وأرى أن أخطر ما يواجه النزعة الحرة للرواية العربية، اليوم، هو انتشار الجوائز الأدبية التي صارت تتوالد كالفطر السام على أرض الإبداع، وبالخصوص الروائيّ منه. الناس لم تعد تقرأ الشعر ولا حتى تسمعه. وهو على أي حال مفروغ منه. فليس مجاله، لا النقد، ولا التحريض العميق، وإنما إثارة العواطف. وهي ليست مسألة هيِّنة أيضاً، لكنها مثل نار القِشّ سرعان ما تنطفئ، بدون أن تترك جَمْراً. صار القراء العرب، مثلهم مثل بقية القرّاء في أنحاء الكون، يلجأون إلى الرواية. أمن أجل استيعاب هذا الحقل الخطير، إذن، بدأت تتقاطرعليه الجوائز؟ ولماذا هي بالتحديد من دول ومؤسسات ذات فكر محافظ ومتزمِّت وخجول؟ وكيف التقينا منذ عقود طويلة بأجمل الروايات العربية وأهمها، عند نجيب محفوظ وأدوار الخراط وعبد الرحمن منيف ويوسف إدريس، وغيرهم كثيرون، بدون أن تكون أمامهم جوائز مادية تجعل لعابهم الإبداعي يسيل. فهو كان يسيل لأسباب أخرى جديرة بأن تحرِّضهم على الإبداع الأصيل. واليوم، إنْ لمْ تتخطَّ الرواية العربية هذا الحاجز المادي المُرْبِك، المثبِّط، والمحسوس بقوة: حاجز «الجوائز الوهمية» على المستوى الإبداعيّ، والمجزية مادياً وترجماتيّاً أيضاً (وهذه مشكلة خطيرة أخرى. خطورتها تَمُسّ الثقافة العربية، كلها)، أقول، إنْ لَمْ تتخَطّ الرواية العربية هذا الحاجز، أو تلتف عليه، أو تجد لها مخرجاً آخر غيره، فستموت. ستموت من الابتذال.
○من المعروف والبين عن خليل النعيمي كثرة أسفاره ورحلاته في البلدان والجغرافيات، وبذلك استطاع أن يحايث ويداخل حياة الناس المختلفة والمتضاربة، فما الذي أفدتموه من السفر والترحال؟
• فَكّ الحصار المضروب حول عقلي منذ الطفولة الأولى. حول العقل العربي بعامة. السفر هو النشاط الوحيد الناجِع، أو يكاد أن يكون كذلك، من أجل عملية التحرر من حُمولة الوجود الخامجة التي نتلقّنها بشكل آليّ منذ الصغر، ومن كتامة الحياة التي نغرق فيها. السفر علاج فَعّال ضد البلادة الذهنية والغباء والاكتفاء الذاتي. وهو، وحده، يستطيع أن يخلِّصنا من أحادية النظرة الشنيعة. ويسمح لنا بأن نتذوّق أطعمة العالَم ونرْتَوي من مشروباته. ينقلنا من السكون المميت إلى ضفاف الحركة الكونية. يحقننا بمشاعر جديدة تجاه مَنْ لم نكن نعرفهم، ويُجدِّد مشاعرنا التي انطفأتْ تجاه مَنْ كدنا أن ننساهم بسبب بقائنا لاصقين بهم سنوات طويلة. فمن ْ لا يسافرْ يُصَبْ بالعمى، ولا يستطيع فهم ما أقول. تصوّر أحداً لم يأكل غير ما تطبخه أمه، ومن بعد زوجته، والمطاعم المحلية، ونريد أن نقنعه بطعم حساء مكسيكيّ آسر، أو خَلْطَة أوزبكيّة خالدة الطَعْم، سيبدو له الأمر مجـرد تهويمات ذوق فارغ من المحتوى.

حاوره: محمد البغوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية