بعد جملة من التغيرات الكبيرة التي كرستها الانتخابات التشريعية المشهد الحزبي في تونس في أفق الاستحقاقات الرئاسية

حجم الخط
1

تونس – «القدس العربي»: بدا واضحا وجود ملامح عديدة لإعادة تشكّل المشهد الحزبي في تونس بعد نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة خاصّة في ظل حصول حزب «نداء تونس» (يمين ليبرالي) على الأكثرية النيابية وبقاء حركة «النهضة» الإسلامية فاعلا رئيسيا في الحياة السياسية رغم تراجعها للمركز الثاني، وسترتكز إعادة التشكل في ظل النتائج الهزيلة لأحزاب يسار الوسط والقوى الوسطية والترتبات المنتظرة لكل ذلك على الإستحقاق الرئاسي والذي ستجرى دورته الأولى يوم الأحد المقبل، فأيّ مشهد حزبي يُمكن تصوّره في المرحلة المقبلة؟

بين التجدد والإرث القديم

بين حزب «نداء تونس» قُدرة فائقة على إحتواء الساحة التجمعية لصالحه بل واستقطاب ليبراليين ويساريين ونقابيين، وكنتاج لذلك ستختفي عمليا «الحركة الدستورية» لأنها لم تحصد أي مقعد نيابي، بل وسحبت مرشحها للرئاسية، بينما اكتفى حزب المبادرة بثلاثة مقاعد ويتردد زعيمه في الإنسحاب من الرئاسية مقابل منحه حقيبة سيادية، ورغم الصراعات التي لن تتوقف في «نداء تونس» واحتمال تطورها في هذا الإتجاه أو ذاك مستقبلا، فإن استراتيجيات النداء المستقبلية وخاصة أذرع الماكينة التجمعية المستندة للدولة العميقة وخاصة قواها المالية، ستعتمد على إعادة التمركز في المشهد واستثمار الحصول على الأكثرية النيابية، وسيسعى النداء إلى تدويل الوضع عبر توظيف مقولات «البورقيبية» أو «الدستورية» والإدعاء أن الثورة لم تحقق شيئا بالفـــــاعلين السياسيين السابقين وأنه سيكون صمام الأمان الوحيد في بناء تونس الجديدة.

مستقبل مفتوح

تميز واقع اليسار عبر العقود الماضية بغموض كبير إذ تكرّس التشتت داخله، حيث خاض أقصى اليسار الإستحقاق الإنتخابي بقوائم متعددة وإئتلافية وحزبية وعمليا يبقى مستقبل اليسار على ضوء النتائج الأولية للتشريعية مرهونا بمسألتين:  
أ- ضرورة أن يتمكن اليساريون من تجاوز حالة التشرذم والإنقسام داخل كل مجموعة، تنظيميا أو سياسيا، خاصة وأنّ مُبَرّرات الإنقسام لم تعد مطروحة، ومن مصلحة قُواه أن تتوحد على الحدّ الأدنى وتعميق الحوار الديمقراطي بين جميع مٌكوناتها وتشكيل حزب يساري قادر على استقطاب شباب جدد والتخلص من منطــــــق توظيف التجمعيين لليساريين.  
ب- سيكون الموقف من دخول حكـــــومة مع «نداء تونس» الذي يعتبره أغلب اليساريين اليمين الليبرالي أو ممثل البرجوازية العميلة، سيُحدد مستقبل اليسار في هذا الاتجاه أو ذاك، كما ستكون النتائج للمــــرشحين كلثوم كنو وحمة الهمامي معيارا لشعبية اليسار في الأوساط الشعبية.

الرهان الأصعب

واقعيا وبعد النتائج الأولية للتشريعية، أصبح التناغم بين النهضة وبقية المكونات المختلفة بل والتناغم داخل النهضة أمرا صعبا ولا مفر منه من ناحية ثانية، ذلك أن الإسلاميين ينقسمون إلى تيارات وأحزاب وجماعات تبدو غير متجانسة في الغالب، وستعمل النهضة مستقبلا على محاولة تلمس واقع سياسي متقلب يوميا وطنيا وإقليميا وستحاول تجنب الهزات التنظيمية وترتبات عدم حصولها على الأكثرية النيابية، وستعمل على تحقيق أهداف أربعة:
-التواصل مع كل الإسلاميين للحفاظ على امتداد شعبي في حد أدنى على الأقل للمحافظة على قاعدتها الصلبة من الناخبين الموالين لخياراتها العامة.
– تجنب ترتبات «الهزيمة» أو بالأحرى التراجع في البقاء لاعبا أساسيا ورئيسيا للحياة السياسية في تونس وعلى مستوى إقليمي أيضا.
– تجديد بنية العقل السياسي والإعلامي لحركة النهضة حتى تكون قادرة على مواجهة منطق الثورة المضادة وعقلية استئصال الإسلاميين بل وكل القوى الثورية.
– إعادة تشكيل تيار اجتماعي واسع للتصدي لتغول المنظومة القديمة وفي انتظار خوض أهم استحقاق فعلي في الأشهر المقبلة وهو الانتخابات المحلية (المجلس البلدي والجهوية).

دار لقمان على حالها

بينت النتائج الأولية أن القوميين بمختلف توجهاتهم مُرتبكين وأنهم لم يحسنوا قراءة الوضع الراهن خاصة وأنهم خاضوا نقاشات عديدة طوال السنوات الماضية تنتهي دوما بدون نتيجة، وما سيربك القوميين مستقبلا هو إذا ما واصلوا في وضع أنفسهم موضع تجاذب بين الإسلاميين واليساريين فلا هم شكلوا قطبا مُستقلا عن الطرفين ولا تحالفوا بشكل نهائي مع هذا أو ذاك، وطبعا ستؤثر ّالتطوّرات الإقليمية على واقع وتطور التيار خلال المرحلة المقبلة وخاصة بعد النتائج الكارثية المتحصل عليها وعدم وجود مرشح لهم في الرئاسيات وأيضا بناء على ترتبات ما يحدث في سوريا وليبيا واليمن ومصر.

التعدد والإختلاف

منذ نجاح ثورة 14 كانون الثاني/يناير 2011 في خلع الرئيس السابق، تحولت الوسطية إلى حصان طروادة، بل وتعددت التحالفات التي تصبغ نفسها بالوسطية ولكنها أصيبت عشية الإعلان عن النتائج الأولية بخيبة أمل كبيرة:
أ ـ يسار الوسط: وهو المتكون من الحزب الجمهوري والذي لم يحصد سوى مقعد وحيد بسبب تخبطه في كل الإتجاهات وتغير مواقفه في كل مرحلة، أما حزب المسار فسيتقلص حضوره السياسي بعد عدم نجاح أي مرشح له، وهو حال أحزاب صغيرة هي أقرب لليسارية منها للوسطية، بينما من المنتظر أن تبقى محاولات آفاق والتحالف الديمقراطي أقرب للنخبوية رغم حصول الأول على ثمانية مقاعد ستمكنه من التموقع ضمن الحكومة المقبلة أو ضمن المعارضة 
ب- وسط اليمين: وهي أحزاب قيمت تحالفاتها بناء على قراءة الواقع من زاوية الفرز السياسي الذي أفرزته انتخابات2011 ولكن تبين أنها قراءات خاطئة ومنيت بنتائج كارثية عمليا بسبب حجمها الشعبي الضعيف جدا، بينما من المنتظر أن يستطيع حزب المؤتمر إثبات وجوده رغم حصوله على أربعة مقاعد فقط، وأن زعيمه الدكتور المرزوقي هو أهم المراهنين على الفوز فيها.

أي مستقبل؟

مثلما لم تُعبّر انتخابات 2011 بدقّة عن واقع الخريطة السياسية لطبيعة النظام الإنتخابي ولطبيعة المرحلة السابقة من تاريخ دولة الاستقلال، فإن انتخابات 26 تشرين الأول/أكتوبر 2014 كرست ذلك، وستختفي أحزاب أو حركات جديدة أو تتـــغير نمطيا وفكريا على غرار «المسار» و «وفاء» و«التحالف الديمقراطي»، بل وستتواصل الارتدادات بعد معرفة هـــوية الرئيـــس الجديد، وسيتعمّق الانشطار أكثر وسيتقلّص وجود بعض من تلك الأحزاب والتيارات وستبرز خريطة جديدة تتحكم فيها أقطاب كبرى مُتفاوتة نسبيّا من حيث الحجم والقوة والإشعاع.

علي عبد اللطيف اللافي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Hassan:

    لقد أثبت التاريخ أن المنهج البورقيبي هو الأنجع للمضي نحو التقدم ببلد خبر خفاياه ولقد استشرف بورقيبة مستقبله منذ خمسينات القرن الماضي. كما أسس لمستقبل، لم يكتمل، ببعث كل مقومات التغيير والرقي بحيث جعل من ضروريات الحياة مكسبا لكل فرد من أفراد المجموعة الوطنية التي استنفعت به كل جهة من جهات البلاد، فكانت المدارس والمعاهد والمستشفيات والجامعات. إن أي منهج مخالف لما رسمه بورقيبة لا يمكن أن ينجح والتجارب قد أظهرت ذلك. بورقيبة النموذج للقائد الذي أعطى ولم يأخذ، آثر ولم يستوحذ. ربما يقول أحدهم لقد ولى وانقضى زمن القائد الأوحد والحال أن من يقول ذلك إما أنه كذلك وليس كما جاء ذكره سابقا أو أنه من القواعد الحزبية التي بدون قائد لا يمكن لها أن تفعل شيئا. عاشت تونس حرة منيعة أبد الدهر

إشترك في قائمتنا البريدية