يزداد واحدنا إيغالاً في الشيخوخة كلّما تكاثرت الأشياء التي يتعذّر تكرارها أو يصبح غير محتمل في ما نفترض أنه قد تبقى لنا من العمر.
قبل سنة من اليوم، كنت أتمشّى مصحوباً ببعض الأهل على ضفّة بحيرة ميشيغان في مدينة شيكاغو. كان كلّ شيء يبدو رائعاً حين خطرت لي خاطرة متّصلة بي وبالمكان. فطنت إلى أنني زرت شيكاغو مرّتين في ما مضى من عمري وجئت في كلّ منهما إلى هذا المكان نفسه أو إلى موضع قريب منه. تدلّ على ذلك ناطحاتُ سحابٍ ومعالم أخرى كانت لا تزال أخيلتها ماثلةً في ذاكرتي. كانت الزيارة الأولى في سنة 1965 والثانية في سنة 1988. ولما كنت أستعيد صوراً من تينك الزيارتين وأنا أتنزّه على الضفّة نفسها في سنة 2013، فقد كان سهلاً أن أنتبه إلى أن ربع قرنٍ تقريباً قد فصل بين كلّ من زياراتي لهذه المدينة وتاليتها. هو إذن ربع قرن! فمن أين لي، وقد بلغت السبعين في سنة 2013 الميمونة، أن أتدبّر ربع قرن مقبلاً يغدو محتملاً بعده أن أعيد نزهتي هذه؟ وهل يبدو محتملاً إذا طال بقائي حتى سنّ الخامسة والتسعين (وهذا أمرٌ تستبعده نُذُرٌ مختلفة) أن أجعل همّي في ما يفترض أن تكون عليه حالي وأنا في تلك السنّ المتقدّمة أن أُحْمَل إلى ذلك الموقع لأدبّ فيه على العصا أو يجري بي على رصيفه كرسيّ درّاج؟ لا الهمّة ستسعف إذّاك، على الأرجح، ولا الرغبة ستتجه بي نحو هذه القبلة ولا الوسائل ستكون متاحةً إذا أسعفت الهمّة وواتت الرغبة.
الشيخوخة، في واحدٍ من وجوهها، هي هذا: أن يصبح الزمن فجأةً غير كافٍ لأشياءٍ كثيرة: لأشياءٍ تروح تتكاثر سنةً بعد سنة.
أدهى ما في الأمر أن هذا الشعور باستبعاد التكرار تتسرّب منه نكهة حزينة إلى حوادث ووقائع تعتبر «فريدة» في بابها فلا يفترض تكرارها أصلاً. في صيف السنة الجارية، كنت في سياحةٍ (عائلية أيضاً) في البرتغال. وكان للبهجة مصادر كثيرة: جَمْعُ الشمل وجمال الطبيعة وثراءُ التاريخ وجودة الطعام والشراب ولطف الأهلين… ولم أكن قد افترضت أو افترض أحد من صحبتي أن علينا أن نعود إلى هذه البلاد مرّةً أخرى. كانت هذه الزيارة، بطبيعتها، فريضةً تؤدّى مرّةً واحدة. فإذا رغبنا في السياحة، في عامٍ مقبل، فلن يصعب علينا أن نجد بلاداً أخرى، رائعةً أيضاً، يقترحها بعضنا على بعضٍ ونكتشف أننا نجترّ الرغبة في زيارتها من أعوامٍ كثيرة. على الرغم من حالة «الفرادة» هذه التي اتّشَحت بها، من تلقاء نفسها، زيارة البرتغال، تَسرّبَ إلى شعوري بوقائعها حزنٌ هادئ غريب: حزنٌ لم يعترض المُتْعة ولكنه خالَطَها بـأُلْفةٍ غير منتظرة. كان منظر الأمكنة وحوادث الرحلة من القصر الملكي في سِنْترا إلى العشاء في مطعمٍ لشبونيّ قريب من الفندق، مصدراً لشعورٍ بالوداع… مصدراً لإدراكٍ مباغتٍ لماهية الزمن بما هو محلّ لتعذّر التكرار. لن يحصُل هذا نفسه مرّةً أخرى. حين نتقدّم في العمر، يصبح الوداع الذي هو مستحقّ لكلّ حدثٍ أمراً مقترناً بغيابٍ آخر هو غيابنا نحن. صورة الغياب هذه، إذ تصبح خلفيةً للحوادث، بما فيها، على التخصيص، تلك التي لا نرجو استعادتها أصلاً، هي منفذ من المنافذ التي يغزونا منها الشعور بالشيخوخة.
منفذٌ آخرٌ لهذا الشعور نفسه أختَبِرُ وقْعَ ما ينبثق منه من سنين كثيرة هو أن تدرك أنك أصبحت أكبر سنّاً من أهل السلطة كلّهم تقريباً على اختلاف المواقع. حين تكون موظّفاً وتبلغ سنّ التقاعد يفرض الأمر نفسه: أنت مذّاك فصاعداً أسنُّ من كلّ من يتوجّه إليك بمطلبٍ أو أمرٍ باسم السلطة العامّة. هذه واقعةٌ لها أهمّيتها في مجتمع لم ينبذ الاقتران بين التقدّم في السنّ والهيبة ووجوب الطاعة. وما هو أدهى من تقدّمك في السنّ على الموظّفين أن تجد نفسك وقد أصبحت أسنَّ من الكثرة الكاثرة من الوزراء والنوّاب وحتى من رئيس الجمهورية… إذا وُجِد! فبِقَطْع النظر عن أخْذِك بصدور السلطة العامّة، وما تتّخذه من أنظمة وقوانين، عن الإرادة الشعبية، ستشعر، عند التأمّل، بغبنٍ عميق الغور في موروثنا الجماعي وأنت تلاحظ أن من عليك طاعتهم إنما هم أناسٌ في سنّ أولادك أو هم، في أحسن الأحوال، في سنّ إخوتك الصغار.
فإن كانت هذه حال المسنّ مع الدولة وأركانها فما بالك بحاله مع مولجين بتنفيذ النظام والقانون شبابهم بيّن إلى حدٍّ يبدو لك مبالغاً فيه: شرطة السير مثلاً أو العسكريين الذين يدقّقون في الهويّات عند الحواجز؟ وما بالك أن يكون المدقّق وحاجزه مجرّدين من كلّ سند من نظام أو قانون؟.. أن يكون عنصراً في ميليشيا غير موافقةٍ لمزاجك قطعاً. لا يستبعد إذّاك أن تشعر بالشيخوخة تجتاحك اجتياحاً وبتقاعدك يتضاعف إذ تدرك أن الأمور قد أفلتت من يدك: كلّها دفعةً واحدة.
الجسم أيضاً – بل أوّلاً – مصدر شعورٍ بالشيخوخة. تدنّي الثِقْلِ الذي يسَعُك حَمْلُه والصعودُ به إلى بيتك وقد شَلَّ المصعدً بسبب انقطاع التيار، قدرتك على الجري أو على مجرّد السير مقارنةً بما كانت عليه، هي نفسها، قبْلَ عشرين سنة، حُسْنُ بلائك في الفراش، إلخ.، إلخ. ولكن هذا المصدر يكون مخاتلاً أحياناً فيجعل الكثير قليلاً والقليل كثيراً تبعاً لموازين تدخل فيها الإرادة والطبع والعادة والمحيط، إلخ. ولا أرجو الإتيان بجديد من طرق هذا الباب. فأكتفي بالقول، مستوحياً ما سبق بيانه، أن ذكر السياحة والسلطة في معرض التأمل في انكشاف الشيخوخة لم يكن أمراً عارضاً. فإذا كانت الشيخوخة لا تستبين بهذا الجلاء في محلّ إقامتنا ومسرح حياتنا المعتادة وإذا كان انكشافها تسهّله السلطة أو الغربة أي ما هو متفوّق على أشخاصنا أو مُخِلٌّ بنظام حياتنا فمردّ ذلك إلى كون الشيخوخة، وإن تكوّنت عواملها على مهل، إنما هي، لجهة الشعور بها واستبطانها، قطيعةٌ واقتلاع وليست حالاً يستبقي لنا سويّتنا التي نعهدها لأنفسنا.
مع ذلك، يبقى سبيل العناد سالكاً لمن ارتضاه إلى أن يقطعه الموت.
كاتب لبناني
احمد بيضون
ومنكم من يرد الى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا
صدق الله العظيم
الدوام لله
ولا حول ولا قوة الا بالله
ماهو محزن في الشيخوخة ( وبخاصة من تجاوز السبعين) لإنسان من بلاد العرب هو أننا عشنا في بلادنا في زمن جميل كان فيه أبناء البلد الواحد متحابين يتعاطفون مع بعضهم مهما كان دينهم او قوميتهم او ارتباطهم السياسي ويجمعهم اسم بلدهم
أما الآن فقد رددنا الى ارذل العمر في بلاد العرب التي اصبح المواطن فيها ليس له قيمة إنسانية بسبب الأخاديد التي تفصل ابناء الوطن الواحد بحجج دينية او مذهبية او عرقية او قومية
صارت المحطات الإعلامية تتكلم عن عدد القتلى والجرحى في بلاد العرب كحديث عادي بل صار العدد تقريبيا ( مابين قتيل وجريح) وصارت برامج الترفيه مثل معبود العرب (( آراب أيدول) و( الشيف حسن) والمسلسلات التركية هي الطاغية وفقدت الحرية والحياة الطيبة في معظم بلاد العرب
نعم أشارك الكاتب متعة السير على ضفاف بحيرة ميشيغان ولكن اين منها السير على كورنيش البحر عند الروشة او السير على ضفة النيل او على كورنيش الإسكندرية ولكن اذا كان الهواء ملوثا بالاستبداد وبذل الإنسان في بلده فمرحبا ببحيرة ميشيغان التي تعبق في ضفافها الحرية والعدالة للجميع
الزمن يحملنا في دروب الحياه و نحن نحمله فينا في شعرنا الأبيض و في تجاعيد وجوهنا و هو الحقيقه الثابته في الحياه و التي تسير دائما في خط إلى الأمام لا رجوع فيه إلا بالذكريات التي تشغل قسما كبيرا من الدماغ البشري و تربطنا بالأشخاص و الأمكنه بطابع خاص (خلافا عن الذاكره التي تحتوي كل ما دخل إلينا عن طريق الحواسّ و أهمها الرؤيه و السمع) و التفاعل العاطفي و الفكري معها و ما أجمل ما عبّر أحمد شوقي عن ذلك في قصيدة جبل التوباد بأكملها (و غناء عبد الوهاب الخالد) و منها ” لم تزل ليلى بعيني طفلة .. لم تزد عن أمس إلا إصبعا… قد يطول العمر إلا ساعة .. و تهون الأرض إلا موضعا” أو موّال وديع الصافي ” كبروا يا إبني و نحنا كبرنا.. و ما عاد عنّا مين ينطرنا.. و شو عليّ لو قعدنا تذكرنا.. ذكر الصبا زوّادة المشوار” ! و نكبر ويكبر معنا أيضا رفقاء الدرب فلا نشعر بالوحده حتى يفرقنا القدر المحتوم و من ذهب منهم يعيش فينا بالذكرى و الذكريات كما نعيش فيمن بعدنا.. بالذكرى الطيبه بإذن الله !
عزيزي ألأستاذ أحمد بيضون المحترم
في حديث عن الشيخوخة سمعت من الموسيقار طيب الذكر محمد عبد الوهاب على التلفزيون يقول. عندما يشاهدني الناس الذين ألتقيهم من صحفيين أو فنانين أو معجبين فأن أول كلام يوجهوه لي (الله يعطيك يا أستاذ طول العمر) وهو كلام أفهم منه ما معناه (هو أنت لسه عايش ؟)