رغم أنني أحترم ماركسية الكسندرا كولنتاي، ولكنني لا أومن بشيوعيتها التي أدلجت (الحب) في سياق اشتراكي، وكأن الحب ميثاق لـ«الزواج الشيوعي». وبعد استحالة تعريف المرأة، نرجّح ما ذهبت إليه مابعد البنوية من رؤية عدمية احتمالية، حيث «ربما المرأة عديمة الهوية، عديمة الشكل، وصورة غير واقعية» أي أن المرأة «خيال» وينبغي أن نتجه «نحو تفكيك هذا الخيال» (ويندي كيه كولمار- فرانسيس بارتكوفسكي/ النظرية النسوية / ترجمة عماد ابراهيم).
وفي كتابها «أليس لا تفعل» ( Alice Doeesnt) تصورت تيريزا دو لوريتيز «المرأة كذات؛ وتمت صياغة هذه المشكلة على أنها تنشأ عن الصراع بين المرأة والمعنى الخيالي» (ويندي كيه كولمار- فرانسيس بارتكوفسكي/ النظرية النسوية). لهذا لا يمكن أن أتخيل وجود عالم بلا جنوسة، ولا جنوسة بلا متعة، فالمرأة بالنسبة لي لا تمثل الجنس الآخر أو كما عبّر عنه ميشال لودوف بـ«واحدية البُعد الجنسي»
(Michele le Doeuf : /, etude et rouet Paris, seuil. 1989 p. 104 ) .
ويمكن توسيع تمثلات مفهومي للأنوثة والذكورة، من خلال ملاحظة ومعاينة المفاهيم المتصارعة حول مستعمرات الجسد الكولونيالية، وما تتضمن من سرديات وسرديات مضادة لها. ولعل أهم أنموذج تداولي في مستعمرات الجسد، رواية «موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، حيث تقوم الرواية بـ(جنسنة) علاقة الصراع بين فحولة الشرق وأنوثة الغرب، أي تقوم باستثمار معكوس الإحالة من خلال استعمار العربي للجسد الغربي، بوعي مضاد لسرد ما بعد الكولونيالية: «جئتكم غازياً» (موسم الهجرة إلى الشمال). وإذ يطأ مصطفى سعيد نساء الغرب بفحولته العربية، فإنه يستعيد رجولته المخصيّة من الاستعمار، ولكنه أمام (جين مورس) يصطدم بهيمنة الغرب، فيتحوّل من صياد إلى فريسة: «أنا الغازي الذي جاء من الجنوب، وهذا هو ميدان المعركة الجليدي الذي لن أعود منه ناجياً. أنا القرصان جين وجين مورس هو ساحل الهلاك» (موسم الهجرة إلى الشمال). وحتى زواجه من جين مورس، جاء ليزيد من حدّة الصراع بينهما، لدرجة تحوّل الزواج إلى إذلال رهيب لرجولته. لهذا لم أكن أخشى المرأة المُفرِطة الأنوثة، ولكنني كنت أخشى سطوة المرأة السادية، لأن «السادي» في داخلها هو الجني المألوف الناشئ عن هيمنة السلطة. ولم أكن أتمنى أن تقودني الصداقة مع (نون) إلى الجنس كتعويض عن الحب: «نهضت روز بجسد مخذول، اتجهت نحو الباب نصف المفتوح، أغلقته بهدوء، ثم جلست إلى جنبي، اقتربت مني أكثر، شعرت بأصابعها حارة، خلّصت أصابعي منها بهدوء، وبقايا رذاذ أنفاسها لم تزل تلامس وجهي:
أرجو ألاّ تفهمني خطأ.
قالت ذلك هامسة، وقد همتُ بها حقاً، لم أستطع أن أخفي رغبتي، تذكّرت رائحة العطب، ولعطب الجسد رائحة متبوعة بالدخان، حتى اختلط الدخان مع صراخها المكتوم في مخيلتي، أتراني حرمت نفسي من لذة الإصغاء إلى جسدها المعطوب الضاج بالصراخ؟ كنت أنظر إليها من علٍ، وأنا على وشك السقوط إلى القاع، شعرت بفداحة الظلام من حولها، وهي تشعل عود ثقاب في حجرتها، تذكرت بأنني سألتها في أول لقاء: هل الصداقة ممكنة بين الرجل والمرأة؟
ـ نعم
كانت محقّة عندما أجابت:
الصداقة بين الرجل والمرأة عندنا إما أن تقود إلى الجنس أو إلى الزواج؟ ولا خيار لنا سوى ذلك» (عباس عبد جاسم / أجنحة البركوار/ رواية).
ولكن لا بد من تجاوز فكرة المرأة كجنس للتعويض عن الخيبة العاطفية، كما هو الحال في جنسانية قصص عبد الستار ناصر، «فوق الجسد البارد» و«الرغبة في وقت متأخر» و«رائحة البيوت» وتجاوز فكرة الجنس كتعويض عن الإحباط السياسي، كما هو الحال في قصص عبد الرحمن مجيد الربيعي، «المواسم الأخرى» و«وجوه في الحلم» و«سر الماء» وتجاوز فكرة الجنس كتعويض عن التصوف والندب الذاتي، في قصص جمعة اللامي، «من قتل حكمة الشامي؟» و«إليشن». وإن كان ليس للأنثى سوى معنى واحد/ فما سبب نزوع المرأة نحو الانهمام بأنوثتها؟
لا أستطيع أن أخفي أنحيازي إلى الكاتبة (ن) التي قالت لي في مهاد صريح: «إنني أحب أنوثتي أو ما يمثل أنوثتي أكثر من أي شيء آخر». ولما سألتها : لماذا ترتدين الكعب العالي دائما؟ أجابت: «عندما أرتدي الكعب العالي ـ أشعر بالقوة والنفوذ الأنثوي»؟ ورغم ان الكعب العالي ينتهي بطرف مدبب من الصلب، وكأنه يرمز إلى السلطة والتحدي، فإنه يحد من حركة المرأة، ما يجعلها تسير بهدوء وبطء. إذن لمن صنع الكعب العالي: لترويض المرأة أم لتمرّد الأنثى؟ فقد أشارت دوروثي سميت إلى أن «المرأة، التي تبدو كأنها تستعرض أنوثتها ـ يمكن اعتبارها فاعلاً في أيديولوجيات القهر، لا مجرّد ضحية سلبية لها» (سارة ميلز/ الخطاب/ ترجمة عبد الوهاب علوب).
لا شك في أن المرأة تمتلك شيفرات مثيرة، تقترن بدلالات مضمرة، غير أن الأنثى تريد مَنْ يفكّك تلك الشيفرات بوصفها نتاج بنى دالة على نزعة متمرِّدة على النظام الأبوي:
– تقول «لينا» التي تكره الأب في « أنا أحيا « لليلى بعلبكي 1964: «كَبرتْ في حذائي شهوة طاغية لمرمغة أنفه وسحقه» الرواية. وتقول «ميرا» في «الآلهة الممسوخة» لليلى بعلبكي 1960: «شكراً عندي تخمة من الآباء، لو لم يكن ميتاً لتمنيت له أن يموت». ولكن لا يمكن اختزال المرأة إلى «بُعدٍ واحد» وإن كان «البعد الواحد» يمثل هوية الأنثى في الأصل. ولكنني أرى بأن للمرأة قيمة ليس لها علاقة بـ«عضوها الجنسي» كأنثى، فقد أخطأ يوسف إدريس عندما اختزل «سناء» بطلة روايته «العيب» إلى «عضو أنوثة» ما قوّض كينونة الأنثى كامرأة .
وعلى نحو مفارق لـ«عضو الأنوثة «، فقد اختارت إحدى الكاتبات «عضو الذكورة» بطلاً لروايتها، ما قوّض كينونة الرجل، أي اختزلت الرجل إلى «عضو ذكورة» وتلك مغالطة جندرية لا تخلو من أخطاء الجندر الأخرى. إذن يندرج في متن المرأة تاريخ المجتمع الأبوي، أي تاريخ المكبوت القهري للأنثى، وما ينطوي عليه من رواسب تحتانية مسكوت عنها.
٭ ناقد وكاتب من العراق