«العمّال» البريطاني: فزّاعة العداء للسامية وجثة «السبيل الثالث»

حجم الخط
1

عقد حزب العمال البريطاني مؤتمره الدوري مؤخراً، عبر الإنترنت وفي إطار مشاركة محدودة بسبب جائحة كوفيد – 19 وضرورات التباعد الاجتماعي؛ ولكن الأعضاء، والمهتمين من البريطانيين على نطاق أوسع، استمعوا إلى خطبة زعيم الحزب الجديد سير كير ستارمر، الذي تولى القيادة في نيسان (أبريل) الماضي. الخلفية الكبرى، المعلنة تارة أو المضمرة تارة أخرى، كانت هزيمة الحزب الساحقة في الانتخابات التشريعية أواخر العام الماضي، حيث خسر «العمّال» من المقاعد رقماً قياسياً فادحاً لا سابقة له منذ العام 1935؛ وهذا ما دفع ستارمر إلى ما اعتبره «نزاهة شرسة» مع حزب خسر أربعة انتخابات تشريعية على التوالي، كما فقد قواعد شعبية عريقة احتُسبت تاريخياً على «العمال» وحده. وضمن خطّ التفكير ذاته لم يتردد الزعيم الجديد في امتداح شعار الحزب الجديد «قيادة جديدة»، مضيفاً أنّ التحوّل إلى معارضة ذات كفاءة ومصداقية» لا يكفي لاسترداد ثقة أنصار الحزب والمجتمع البريطاني.
لا خلاف أنّ قضايا «بريكست» ومواقف الحزب المختلفة والمتقلبة إزاء البقاء داخل الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه، كانت في طليعة الأسباب الأبرز خلف هزيمة «العمّال»؛ خاصة في الأوساط العمالية تحديداً، وفي معاقل الحزب الصناعية والنقابية. لا خلاف، كذلك، حول شخصية زعيم الحزب السابق، جيريمي كوربن، الذي أفلح كثيراً في استرداد شعبية «العمال» داخل فئات الشباب على وجه خاصّ، فتضاعفت أعداد المنتسبين في عهده؛ لكنه أخفق في إقناع غالبية البريطانيين بصلاحيته لمنصب رئيس الوزراء، ليس عن ضعف جلي في الجدارة وإنما لأسباب معقدة متشابكة ذات صلة بالصورة والشخصية وما يُسمى بـ»الكاريزما»؛ فضلاً عن فزّاعة اتهام بعض قيادات الحزب، وكوربن على رأسهم، بالعداء للسامية أو السكوت عنها أو التواطؤ على تسهيل تفشيها.
ويميل مؤرخو «العمّال» إلى عدم التقليل من هذا العنصر الأخير، رغم أنه قد لا يبدو للوهلة الأولى في قلب هواجس الناخب البريطاني الذي عاقب «العمّال»؛ بل يذهب بعضهم إلى درجة المساجلة بأنّ أبرز ستراتيجيات تهميش كوربن، أو حتى تحطيم شخصيته منهجياً، كان اتهامه بالعداء للسامية. ولم يكن غريباً، والحال هذه، أن يسارع الزعيم الجديد إلى إقصاء عدد من أعضاء الحزب، وبينهم منافسته في انتخابات قيادة الحزب ربيكا لونغ بايلي التي حصلت على 135 ألف صوت وكانت تشغل حقيبة التعليم في حكومة الظل، وذلك لأنها أعادت تغريد تصريح للممثلة البريطانية ماكسين بيك تتهم فيه الاستخبارات الإسرائيلية بتدريب الشرطة الأمريكية على تكنيك الضغط بالركبة، الذي أدى إلى وفاة المواطن الأمريكي جورج فلويد. مكتب ستارمر، في التعليق على إقصاء بايلي، أعلن أنه عازم على «نزع سمّ» العداء للسامية، وكان «دائماً شديد الوضوح في أنّ استعادة ثقة الجالية اليهودية هي أولى أولوياته».

رهان ستارمر، ورغم جائحة كوفيد -19 التي تكشف تقصير حكوم بوريس جونسون المحافظة وتراجع شعبيتها، لن يجدي فتيلاً في استعادة الثقة بجثّة «السبيل الثالث» العتيقة، الهامدة أو تكاد

والحال أنّ حكاية «العمّال» مع العداء للسامية أشدّ تعقيداً بكثير من هذه الوجهة التبسيطية التي اعتنقها ستارمر، والتي تخلط عن سابق قصد بين الموقف من اليهود واليهودية، وبين انتقاد السياسات الإسرائيلية العنصرية والاستيطانية وانتهاكات حقوق الفلسطينيين والقانون الدولي. والمسألة بحاجة إلى وقفة مفصلة وموسعة، خاصة في ضوء التقرير المسهب الذي أعدّه الحزب عن المسألة، وغطى الفترة بين 2014 و2019، ووقع في 851 صفحة، وتسرّب إلى الصحافة بعد أن كان سرّياً. كذلك فإنّ موقف ستارمر، الرخو تماماً إزاء قرارات دولة الاحتلال بضمّ أراض فلسطينية محتلة ومستوطنات في الضفة الغربية والغور، يشير إلى «عقدة» رضوخ من نوع ما أمام مجموعات الضغط اليهودية؛ سواء داخل الحزب ذاته، أو على نطاق أوسع في المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية البريطانية.
الأهمّ، في المقابل، أنّ ستارمر ينوي ترجيح كفّة الجناح اليميني داخل «العمال»، أو بالأحرى إعادة تأهيل المجموعة البليرية، نسبة إلى زعيم الحزب ورئيس الوزراء الأسبق توني بلير، ونفخ الحياة في صيغة «العمال الجديد» العتيقة تحت غطاء شعار «القيادة الجديدة» الذي تبناه ستارمر وأعاد التشديد عليه في خطبته خلال المؤتمر الأخير. واضح أنه يؤمن بوجود أغلبية في الشارع البريطاني ما تزال تنظر بعين الرضا إلى تلك الحزمة الاقتصادية والاجتماعية والعقائدية والسياسية التي تآلفت تحت مسمّى «حزب العمال الجديد»، خصوصاً وقد ضربت تلك «التوليفة» رقماً قياسياً حين أتاحت للعمّال أن يحكموا 12 سنة، لأوّل مرّة منذ مائة عام. ومن الثابت، في جانب آخر من المعادلة، أنّ هذه الأغلبية ليست عمّالية خالصة، وفيها شرائح من أنصار المحافظين وأخرى من أنصار الليبراليين الديمقراطيين، حتى إذا كان بلير سنة 2005 ليس بلير سنة 2001، ولا بلير1997، فكيف به مبشراً بـ»عمّال جديد» في 2020!
وذات يوم، في تمحيص أحد مؤتمرات «العمّال»، سرد المعلّق البريطاني بول فوت جملة أسباب عميقة للشكّ في أنّ هذا الـ»توني بلير» هو نفسه ذاك الـ»توني بلير»، الذي صعد من صفوف الحزب إلى هرم القيادة على أساس مناهضة سياسات مارغريت ثاتشر الاجتماعية – الاقتصادية، ومن منبر دفاعه ــ الحارّ والبليغ والصارم ــ عن حقوق الضمان الصحي، والنقابات، واقتصاد السوق. أهذا، تساءل فوت على سبيل المثال، هو بلير الذي وعد ــ في مؤتمر حزب العمال سنة 1996 ــ بخطوط حديد يملكها القطاع العام وتخضع لمساءلة القطاع العام، وهو اليوم المسؤول الأوّل عن عدم بقاء الخطوط الحديدية ملكاً للقطاع العام، وعدم خضوعها لرقابة القطاع العام؟ أهو الذي وعد بإعادة صناعة الكهرباء إلى الدولة، بعد أن خصخصها المحافظون؟ وأيضاً، أهذا هو بلير نفسه الذي جرّ البرلمان والبلاد إلى حرب وحشية على أساس مزاعم امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، وأصرّ بالحماس ذاته أنه كان وما يزال ويظلّ على صواب في قرار الذهاب إلى الحرب؟
ليس تماماً، بالطبع، وثمة أكثر من بلير كما للمرء أن يستخلص بسهولة؛ الأمر الذي لا يعني أنّ جوهر الظاهرة ينكشف اليوم فقط، في أعقاب هزيمة «العمّال» الساحقة وانتعاش الخطّ البليري. بعد أسابيع قليلة تلت انتصار العمّال الثاني، سرّبت صحيفة الـ»إندبندنت» البريطانية محتوى تقرير داخلي سرّي رُفع إلى بلير، يقول في عنوانه العريض إنّ حكومة العمال أخذت تبدو «متغطرسة» في نظر الناخبين، وأنّ هؤلاء يبدون المزيد من القلق حول مسائل الصحة والتعليم والنقل. وأوضح التقرير أنّ تقدّم «العمّال» في استطلاعات الرأي ليس سوى قناع كاذب يحجب انقلاب الناس على حكومة بلير لأنها تفشل في تنفيذ ما وعدت به أثناء حملة انتخابات 1997. كان ذلك قبل دفع بريطانيا إلى المستنقع العراقي، وقبل تظاهرة المليون في شوارع لندن، وقبل انتحار جون كيللي وتعاقب فصول الفضائح في مسلسل التمهيد لغزو العراق.
ليست أقلّ وضوحاً ما تشي به انحيازات ستارمر نحو «السبيل الثالث»، أو خطّ الوسط القديم/ الجديد دون سواه: الوقوف عند نقطة متساوية بين أقصَيَين، والتوسّط بين اليسار واليمين في عبارة أوضح. ومنذ أن دعا البابا بيوس الثاني عشر إلى سبيل ثالث بين الاشتراكية والرأسمالية في نهاية القرن التاسع عشر، كان المصطلح يصعد هنا وهناك في الثقافة السياسية الغربية، وكلما اقتضى الأمر هذا أو ذاك من أشكال التصالح أو التحالف أو المساومة. ومن هنا فإنّ رهان ستارمر، ورغم جائحة كوفيد -19 التي تكشف تقصير حكوم بوريس جونسون المحافظة وتراجع شعبيتها، لن يجدي فتيلاً في استعادة الثقة بجثّة «السبيل الثالث» العتيقة، الهامدة أو تكاد!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول آصال أبسال:

    /كذلك فإنّ موقف ستارمر، الرخو تماماً إزاء قرارات دولة الاحتلال بضمّ أراض فلسطينية محتلة ومستوطنات في الضفة الغربية والغور، يشير إلى «عقدة» رضوخ من نوع ما أمام مجموعات الضغط اليهودية/..
    وهل هناك، في حقيقة الأمر، أيُّ «كدع»، أو أيُّ «قبضاي»، من أولئك الذين تولوا قيادة «حزب العمال» البريطاني بالذات قد كان صلبا تماما، على النقيض من ذلك الرُّخُوِّ، إزاء تلك القرارات.. ؟؟ بصريح الكلام، انحياز ستارمر نحو ما يُسمى بـ«السبيل الثالث» إنما هو انحيازٌ نحو التذبذب واللامبدئية في اتخاذ القرار، وإنما هو انحيازٌ بالتالي نحو محط السخرية والاستهزاء والضحك من جانب اليسار الحقيقي، وخاصة من جانب الطبقة العاملة.. الموقف الحازم في السياسة الملتزمة، هنا، ليس عنده «لحية مسرَّحة»، كما يُقال: يا إما «أسود»، ويا إما «أبيض»، وليس غير.. اللون «الرمادي» بينهما إنما هو التذبذب بالعين في أحسن الأحوال.. !!
    /للكلام بقية/..

إشترك في قائمتنا البريدية