الأسانيد: هي ما يُعتَمَدُ عليه من وثائق في الغالب، وما يُعتَمَدُ عليه في التأكُّدِ من صحة الرِّواية كما هو شائع.
نحن هنا بصدد تناول المصطلح أو المفهوم في سياقٍ مختلف، وهو: كيف جرى صَوْغ المُبررات الدينية والتاريخية وحتَّى العِرقيَّة والجينيَّة كي تتخذ صفة الأسانيد التي تُستخدم في الدِّعاية للبرامج الإمبراطوريَّة أو القوميَّة ولبرامج الهيمنة والتَّوسع، وكيف جُنِّدَتْ في سبيلها طاقات عاطفية ومادية لمجتمعات كاملة، وكيف احتشدت من ورائِها أممٌ وجيوش ضاربة!!.
وقد أدَّى ذلك وفي مناسباتٍ عديدة إلى مزج اللَّاهوت بالسياسة وبالأحلام الإمبراطوريَّة، وإلى مزج الدبلوماسيَّة بالادِّعاءَات الدينيَّة والتاريخيَّة، وهو ما فعلته الإدارة الأمريكيَّة الرَّاهنة في تعاطيها الدبلوماسي مع حالة النزاع بين الفلسطينيين وإسرائيل على الأرض والجغرافيا – وهو ذات الأمر الذي حاولت الدبلوماسية الأمريكية تجنبه ما أمكن لعقود طويلة قبل الآن في سبيل إنجاح مجهودات وساطتِها بين أطراف النِّزاع – وضمن هذا المنطق من اجتراح الأسانيد سيقَت أيضاً المُبررات الأخلاقيَّة الانتقائيَّة المتصلة بحقوق الإنسان وبتطبيقات الديمقراطية كمبررات تُسوِّغُ نظام العقوبات الأمريكي المعمول به منذ عقود طويلة على سبيل المثال كأداة من أدوات فرض السيطرة وإدامة الهيمنة، وأَطْرِ العوالم وفق المشيئة الامبراطورية الأمريكيَّة.
وإذْ ذاك؛ فليست الأسانيد – وبكونها تتخذ صفة ما يُعتَمَدُ عليه ويُسْتَنَدُ إليه – مُطلَقة الموثوقيَّة أو الصِّحة؛ فقد تكون مجرَّد ادِّعاءَات ومجموعة من الأكاذيب المُختَرَعة أو المُلَفَّقة المُتَّفَقُ عليها وصياغات من الأدبيات الوجدانية المُتخيلة المرتبطة بكيف تنظر الأمم إلى ذاتِها وكيف تصوغ تجاربها في قالبٍ أدبيٍّ أو ديني، ويأتي في سبيل ذلك تلك الأسانيد التي استخدمتها الامبراطوريات عبر التاريخ والتي جرى توظيفها في خدمة السياسات الامبراطوريَّة أو القوميَّة المُتعصِّبة، بما فيها تلك التي استُخدِمت في مضمار تبرير السيطرة على شعوب وأمم أخرى خارج الجغرافيا القوميَّة من قبل القوى التي وجدت لديها فائض القوَّة وتوفرت لديها الرَّغبة في السيطرة والهيمنة على عوالم أخرى بدافع الطَّمع والرغبة في الاستحواذ على مزيدٍ من أسباب الثروة والقوة.
لقد جرى وفي مناسبات عديدة استدعاء المبررات الدينية واستثمار الروايات التاريخة كَمِخْيالٍ جَمْعيٍ مُهيمن، وكان يجري أيضاً اختراع النبوءَات التي يسعى الجميع إلى تحقيقها بدافع الامتثال لمؤدَياتِ منطقِها؛ وكأنَّ تلك النبوءَات والحال كذلك تسعى إلى تحقيق ذاتها دوماً عبر استثمار طاقات عاطفية ووجدانية وسلوكيَّة يُحرِّكُها الإيمان العقائدي، وقد جرى توضيب مبررات التوسع الإقليمي وحتى اختراع حدود لجغرافيا مُتخيَّلة وفق تلك الادِّعاءَات والنبوءَات والأفكار المسيانيَّة أو الخلاصيَّة في محطات كثيرة من تاريخ البشرية؛ وهذا ما تمثله الآن طائفة الإنجيليين البروتستانتيَّة في الولايات المتحدة مدفوعةً بنبوءَة الخلاص المسياني – مجيء المسيح المخلص – والتي لن تتحقق إلَّا بقيام وتكريس الدَّولة اليهوديَّة الخالصة في فلسطين.
القوى الأوروبيَّة لم تستَغنِ عن إيحاءَاتِ الأسانيد الدينيَّة والعرقيَّة والوظيفة التي تُؤدِّيها في خدمة أهدافِها الاستعمارية وتوسيع مروحة السيطرة في جغرافيا القارات البعيدة
وتحت تلك العناوين والأسانيد جرى اختراع واستنساخ مفهوم الشَّعب المُختار المنوط به إمضاء المشيئة الإلهيَّة لدى أكثر من أمَّة عبر التاريخ القديم والمُعاصر؛ حتى أنَّ ذلك السياق قد أسهم وإلى حد ما في محاولات اجتراح الإطار النظري لتعريفاتٍ فضفاضة لمفهوم الدولة القوميَّة ووظيفتها؛ فلم تنفصل محاولات تعريف مفهوم الدولة القوميَّة ومعاينة وظائفها الداخلية والخارجية عن ذلك السياق التاريخي المُفعَم بالأسانيد الزَّائفة، ولم تأتِ تلك المحاولات بمعزل عمَّا فرضته الوقائع المتصلة بذلك السياق من التجارب والمِحَن الإنسانية القاسية والدَّامية والتي فيها صور مأساوية من طغيان مفاعيل معادلات القوة، ومن صور الافتئات وتزييف الحقائق وإنتاج أشكالٍ من الظلم والطغيان عموماً!!.
ثمَّة مثال تاريخي لافت على محاولة الحفر في نفق التَّاريخ في سبيل دعم الرُّؤى والأهداف الامبراطوريَّة وتبرير السلوك الكولونيالي، وقد جاءَ ذلك في سياق الاجتياح الكولونيالي الإنكليزي للشرق ولمنطقتنا إبَّان العهد الفكتوري الممتد من عام 1837 وحتى عام 1901 فقد حكمت الملكة فكتوريا بريطانيا طيلة تلك المدة، وتحولت بريطانيا في عهدها تحولاتٍ جوهرية في كل المجالات، وكانت حُقبة تاريخية مُحرِّكة أتت في أعقاب عصر النهضة، وأثرت ليس في بريطانيا فحسب بل في عموم أوروبا؛ حيث بلغت الثورة الصناعية في بريطانيا ذروتها وامتدت إلى أوروبا ثم إلى أمريكا، ويرى جملة من المؤرخين أنَّ العصر الفكتوري هو عصر الثورة الصناعية الأولى في العالم، وقد مثَّلَ ذروة الإمبراطورية البريطانية؛ إذْ تحولت بريطانيا في نهاية ذلك العهد من قُطرٍ زراعيٍ إلى قُطرٍ صناعيٍ ضخم مُترابط الأطراف بشبكات السكك الحديد المُمتدة. وكان الاجتياح البريطاني قد بدأ بتصفية النفوذ البرتغالي والهولندي في الخليج العربي في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر؛ فمع مطلع القرن التاسع عشر كانت بريطانيا قد سيطرت على مجمل منطقة الخليج العربي بما في ذلك الساحل العُماني، ولم تتوقف محاولات بريطانيا لجهة إحكام سيطرتها على الشرق؛ فكانت حملة فريزر الفاشلة على مصرعام 1807 قبل ثم أفلحت بريطانيا في احتلال مصر عام 1882 مُنتهزةً فرصة أحداث الثورة العُرابية، حيث بقي احتلالها قائماً حتى عام 1923.
بدأت قصة الحفر في نفق التاريخ من قبل الكولونيالية البريطانية في فلسطين تحديداً وقد كان ذلك في عام 1865 مع تشكيل هيئة بريطانية أُطلق عليها اسم صندوق التنقيب في فلسطين، وتشكلت الهيئة برعاية الملكة فكتوريا وبرعاية أعلى مرجع ديني في المملكة وهو اُسقُف كانتربري وعضوية ثماني وسبعين من أبرز شخصيات المجتمع الدينية والاجتماعية في ذلك الوقت، وقد بلغ عدد المتبرعين الأوائل للصندوق 272 مُتبرِّعاً بينهم الملكة بطبيعة الحال، وقد كانت حصيلة تلك التبرعات 3045 جنيها.
كان الهدف، المُعلن من إحداث هذا الصندوق هو السعي وراء معلومات أركيولوجية متزامنة مع سجلات الكتاب المقدس. وعلى حد تعبير بيان تأسيس الصندوق فإن أهدافه تتركز في: التحرِّي الدقيق والمنهجي لآثار وطوبوغرافية وجيولوجية وعادات وتقاليد الأرض المقدسة من أجل توضيح مسائل الكتاب المقدس.
ولعل ما زاد في حماسة الجهات التي نادت لتشكيل الهيئة، هو النجاحات التي حققتها الأركولوجيا البريطانية في العراق، عندما اكتشف المنقب اللامع هنري لايارد أهم مواقع الحضارة الأشورية في نمرود ونينوى، وجلب إلى المتحف البريطاني عدداً من روائع النحت الأشوري، ومن بينها المسلَّة المعروفة باسم المسلَّة السوداء، وهي نصب نقش عليه الملك الأشوري شلمنصر الثالث (859-824 ق.م) كتاباً وصوراً تمجد انتصاراته في بلاد الشام، وبينها صورة تمثل رجلا ً في حلة كنعانية ساجدا ً عند قدمي الملك الأشوري، وتحت الصورة كتابةٌ تقول: جِزيَةُ ياهو بن عمري.. وكانت هذه الجملة بمثابة أول نص خارجي مكتشف يتقاطع مع أي حدث من أحداث الرواية التوراتية. وذلك أن ياهو المذكور هنا هو الملك العاشر في سلسلة ملوك إسرائيل الذين حكموا في مدينة السامرة، على ما ورد في سفر الملوك الثاني من الكتاب.
بعد عامين من المسح التمهيدي ورسم الخرائط لقسم كبير من أراضي فلسطين، وصلت الحملة التنقيبية الأولى برئاسة الكابتن – وارن – الضابط في الجيش البريطاني، وكان هدفها القدس. كانت القدس في ذلك الوقت محصورة ضمن سورها القديم الذي رممه وأعاد بناءه السلطان العثماني سليمان القانوني في القرن السادس عشر الميلادي، مستفيداً من خطط أساسات السور الروماني الذي بُني في مطلع القرن الثاني الميلادي، عندما شيد الإمبراطور هادريان مدينة إيليا كابتولينا فوق أنقاض مدينة أورشليم التي سواها بالتراب.
وقد استخدم المنقب وارن الخريطة التي أعدها المسح التمهيدي لمدينة القدس من أجل تحديد مواقع التنقيب داخل السور، كما اعتمد على كتاب التوراة، وعلى كتابي المؤرخ اليهودي يوسيفوس من القرن الأول الميلادي وهما: تاريخ اليهود والحروب اليهودية، اللذين يحتويان على وصف لمعالم المدينة في القرن الأول، ولكن مشكلة هذه المراجع، أن التوراة تفتقد إلى الدقة في تحديد الملامح الطبوغرافية، أما مؤلَّفا يوسيفوس فلا يصلحان إلا لتحديد بعض المعالم المعاصرة له؛ لأنه اعتمد فيما يتعلق بالفترات الأقدم على القصص والروايات المتداولة أكثر من اعتماده على التحقيق التاريخي.
واصلت حملة وارن التنقيب دون نتيجة، ووصلت حملة أخرى في نهاية القرن الثَّامن عشر، ولم تنتهِ حملة التنقيبات الأثرية الإنكليزيَّة إلَّا في عام 1967 حيث كانت آخر تلك الحملات بقيادة عالمة الآثار الإنكليزيَّة كاثلين كينيون والتي امتدت من عام 1962 وحتى عام 1967 وذلك مع احتلال القدس الشرقية من قبل إسرائيل، وبدورها لم تعثر حملة كينيون على نتائج إضافية مهمة لما كانت حملة وارن قد وصلت إليه؛ وبعد ذلك واصلت إسرائيل ذلك المجهود وحتى الآن.
في سياق كل ما تقدم؛ كتبَ المفكر الفرنسي روجيه غارودي في « نحو حرب الدِّيانات « منشورات ديسكليه بروفيه 1995: « لقد كان بولُس – بإعادَتِهِ تهويد المسيحيَّة – هو الجد الأكبر لكل عقائد السيطرة، التي بدأتْ في القسطنطينيَّة بربط الكنيسة بالسلطة منذ القرن الرَّابع، ثم الحروب الصليبيَّة، ومحاكم التفتيش، ثم الاستعمار الذي انقلب إلى تبشير ديني «.
وفي نهاية المطاف لم يقتصر الأمر على أمَّة دون أُمَّة فيما يتصل باستخدام الأسانيد الدينيَّة والتاريخيَّة والعرقيَّة ومحاولة استنساخ مفهوم شعب اللَّه المُختار، وكذلك المُبررات المستندة إلى مفاهيم قداسة ما احتوته الحدود الجغرافيَّة كمشيئة إلهيَّة أو طبيعيَّة مُتخيَّلَة؛ فقد رفعت فرنسا فيما مضى شعاراً يقول: إنَّ اللَّهَ يُحققُ مُرادَهُ بواسطة الفرنسيين. ورفع الألمان شعاراً يقول: إنَّ اللَّهَ مع الألمان. وغرقت أوروبا لعقودٍ من الزَّمن في حروبٍ دينيَّة من وحي تلك الشِّعارات؛ قبل أنْ تبلُغ سِنَّ الرُّشد، لكنَّ القوى الأوروبيَّة بعد ذلك لم تستَغنِ عن إيحاءَاتِ الأسانيد الدينيَّة والعرقيَّة والوظيفة التي تُؤدِّيها في خدمة أهدافِها الاستعمارية وتوسيع مروحة السيطرة في جغرافيا القارات البعيدة.
كاتب فلسطيني
أولاً: أظن عنوان (سانيدٌ امبراطوريَّة… السياسة والسيطرة والنبوءَة) ينقصه حرف (أ)،
ثانياً: (الفلسفة) أو الأحلام أو الفكر أو الثقافة أو الرأي شيء،
ثالثاً: (الحكمة) أو الخبرة المهنيّة في أي مجال إنتاجي، أو العلم على أرض الواقع شيء آخر،
رابعاً: الوظيفة والموظف في أي نظام بيروقراطي، مناهج تعليمه أساسه مفهوم القولبة والقالب في الإنتاج من أي آلة (روبوت)،
خامساً: سقوط حائط برلين عام 1989 في ألمانيا مثل موت ماو تسي تونغ في الصين، عمل على تأسيس دولة بنظامين (رأسمالي وشيوعي) في ألمانيا بقيادة رأسمالية، بينما في الصين بقيادة شيوعية،
سادساً: ما حصل في هونغ كونغ في مجلس النواب يوم 1/7/2019، وما تبعه من فشل منظمة الصحة العالمية، من منع تفشي كورونا في عام 2020، دليل عملي على فشل (موظف) النظام البيروقراطي،
بعد إعلان إصابة الثنائي (بوريس جونسون) بريطانيا و (دونالد ترامب) أمريكا، لا مكان لتسويق (نظرية المؤامرة)، التي أساسها فلسفة التشكيك لأجل التشكيك، بلا منطق ولا موضوعية ولا حتى أسس وأسانيد علمية، بعد الآن،
فلذلك نحن بحاجة إلى نظام تعليمي/مهني/وظيفي جديد،
مهمته إنتاج جيل يتجاوز عقلية (الآلة/العالة) في الجودة والكفاءة والإيرادات، خصوصاً بعد تعيين أول رجل أمن (روبوت) وأول طبيب (روبوت) في الإمارات، والسعودية في منافستها قامت بتجنيس أول (روبوت) كمواطن،
لرفع مستوى الإنتاج في دول مجلس التعاون في الخليج العربي، والسبب، أن الآلة (الروبوت) عالة لا تدفع ضرائب ورسوم وجمارك، لتمويل ميزانية أي دولة على أرض الواقع،
والدليل مصر (عبدالفتاح السيسي) إن لم يكن الكيان الصهيوني، منذ إصدار شهادة ولادته زوراً وظلماً وعدواناً، وحتى الآن ميزانيته عالة لم تصل إلى الاكتفاء الذاتي.??
??????