لم تُسئ ظاهرة في العالم منذ عقود إلى فلسفة الديمقراطية وقيمها ومؤسساتها السياسية وإلى مبدأ الانتخاب نفسه الذي تقوم عليه بقدر ما أساءت ظاهرة دونالد ترامب.
ولا يقتصر الأمر على النطاق الأمريكي بل ينسحب على العالم بأسره حيث عزّز انتخابه في الدولة الأكثر تأثيراً ونفوذاً موجة صعود ليمين متطرّف ولخطاب عنصرية وكراهية، يمتدّ من الهند إلى إسرائيل، ومن هنغاريا إلى البرازيل.
وإذا كان انتخاب ترامب في أحد جوانبه ردّة فعل من بعض الشرائح الاجتماعية الأمريكية البيضاء على سنوات حكم باراك أوباما وما مثّلته من تهديد لنهاية “التفوّق العرقي الأبيض”، بتسهيل من النظام الانتخابي من جهة ومن تراجع المشاركة في الاقتراع في أوساط التقدّميين البيض والملوّنين لصالح منافسته هيلاري كلينتون من جهة ثانية، فإن في التوقّف عند بعض سمات شخصية ترامب وخصائص خطابه وسلوك مناصريه السياسيَّين ما يشي بقضايا قيمية وثقافية أبعد من مدلولات فعل انتخابه وحده.
الكذب والخداع وانعدام الأهلية
ذلك أن انتخاب رجل الأعمال الأمريكي، واحتمال التجديد له بعد شهر لأربع سنوات إضافية، يعلن تقدّم نموذج يفاخر بازدرائه للمؤسسات وللنخب السياسية والأكاديمية والإعلامية، ويعدّ النجاح في الكسب المالي وحده ما يُعتدّ به ويجدر ترجمته إلى سطوة ونجاح في السياسة. وهو يتباهى في المقدرة على التهرّب من الضرائب بوصفها ذكاءً وتحايلاً على “الدولة” المركزية الواجب تقليص دورها، ولا يرى حرجاً في اكتشاف كذبه أو غشّه أو اعتماده أرقاماً ومعطيات اقتصادية مغلوطة. فالحقائق بالنسبة إليه على الدوام نسبية، وهذا لا ينطبق على تأويلاتها أو منهجيات الوصول إليها أو على تقديرات مرتبطة بها فحسب، بل حتى على مضمونها مهما كان علمياً أو مستنداً إلى رياضيات أو بحث طبّي أو إلى أرقام ومعادلات دقيقة. هكذا، يمكنه القول الدائم بنجاحات هنا وبإنجازات هناك، ويمكنه التشكيك بكل معطى يقدّمه خبير حول البطالة أو النمو أو العجز أو الدين، أو حول لقاح كورونا أو علاجه، أو حول التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي إن كان لا يتماشى مع دعايته. وهو فوق ذلك، ينحو لاعتبار الإعلام “الليبرالي” أو ذي تقليد الاستقصاء والنقد وإتاحة التنوّع والاختلاف معارضاً له لمناهضته النخب و”الاستابليشمانت”، ومزوّراً بالتالي للأخبار بهدف الاضرار به.
وهذا يفتح باباً عريضاً لنظريات التآمر ويُتيح مسلكاً لا يثق بأي خبر ويشكّك بكل ما يُقال، ولا يصدّق تحقيقاً مهما كانت دقّته إن لم يتماشَ مع أهوائه. وفي ذلك ما يجعله مفيداً للاستراتيجيا الروسية المتقدمة عالمياً، التي لا تهدف لغير زرع الشك في صدقية أي معطى أو مزعم أو أمر لا يناسب أهداف موسكو، عبر إغراقه في بحر من الأضاليل والمعلومات الموازية والمضادة له، بحيث لا يبقى لأي حقيقة مَعلمٌ، ولأي منطق قدرة على التأثير في الرأي العام المتلقّي لمجمل ما يُقال ويُنشر.
وإن عطفنا كل هذا على أن نجاح ترامب الانتخابي ضرب تقليداً في الديمقراطية المؤسساتية وتراثها الغربي وفيه عادةً أن الخبرة والتدرّج في التجارب وبناء فرق العمل المختصة هي أبرز شروط ارتقاء المناصب العليا، وأن الظهور بمظهر جدّي منصت إلى المستشارين والخبراء يعزّز الثقة بالمرشّح على اعتبار خياراته مبنيّة راهناً ومستقبلاً على اعتبارات ذات صدقية ودقّة وبحث عن الأنسب، يتبيّن عمق التحوّل في مزاج شعبي عبّر عنه اختيار ترامب بمعزل عن انعدام خبرته وثقافته السياسية وقربه إلى شخصيات “تلفزيون الواقع” الكاريكاتورية. فكيف وأن الرجل ذا عمر “لغوي” لا يتجاوز الثانية عشرة بحسب علماء اللغة الذين يُذهلهم ضيق قاموسه وفقره ومحدودية الكلمات والعبارات والمصطلحات والاشتقاقات وبُنى الجُمل التي يستخدمها؟ وكيف وأنه بحسب علماء النفس نموذج فاقع للنرجسية ولاحتقار الناس وقَصر الثقة على أقرب المقرّبين المعبّرين عن إعجاب وولاء دائمّين…
القاعدة والتحالفات
يُحيلنا ما تقدّم إلى القواعد الاجتماعية التي انتخبت دونالد ترامب والتي لا يبدو قسم كبير منها بصدد التراجع عن خياره. فهذه، وهي تجميع لأكثر ما في أمريكا من كتل رجعية وعنصرية، من قوى أصولية دينية مسيحية وجماعات “تفوّق أبيض” (كان بعضها لا يُصوّت في السابق)، أُضيفت إلى شرائح بيضاء دنيا معادية للسياسيين وللنخب المتّهمة بالفوقية وباحتكار السلطة طويلاً وتجاهل الناس “غير المرئيين” في أمريكا العميقة، الريفية والمدينية الصغرى، البعيدة عن الساحلين الشرقي الشمالي والغربي وعن العاصمة واشنطن. وانضمّت إليها مجموعاتُ كتل ضغط ذي صلة بصناعات الأسلحة الفردية وتجّارها، وبكارتيلات النفط والصناعات الثقيلة الرافضة للمعاهدات المناخية والقيود البيئية، وبالمؤسسات الكبرى ورجال المال المعادين للضرائب وللانفاق الاجتماعي، لتشكّل جميعها، مع المحافظين وبيئاتهم التقليدية، جمهوراً واسعاً ذا مشارب وخلفيات ومصالح مختلفة. والجمهور المذكور، إلى ردّه على سنوات أوباما وسياساته لأسباب تتباين بحسب الحسابات والانتماءات، يجتمع بمعظمه على احتقار قيم العدالة والمساواة بين الأعراق وحقوق الإنسان في أمريكا نفسها وفي العالم. ويهجس بعضه خوفاً من التحوّل الديمغرافي الحتمي الذي سيُنهي بعد عقدين من الزمن أكثرية البيض في البلاد بالترافق مع بروز المتعلمّين والنافذين بين السود واللاتينو والآسيويين الذين بات حضورهم “نوعياً” في الكثير من المواقع الإعلامية والأكاديمية والسياسية (بعد الرياضية والفنية) في أمريكا.
ولعلّ الخلطة الهجينة والثابتة هذه، تفسّر في بعض جوانبها تمجيد عنف الشرطة ضد الملوّنين، وإلغاء الحماية الصحية الأوبامية، والتمنّع عن الالتزام بالإقفال أو وضع الكمّامات بسبب كورونا (تمسّكاً بأولوية الاقتصاد، واحتقاراً للانضباط لمعايير علمية تُساوي بين البشر)، وسواها من قضايا، قد تصل إلى حدّ التهديد برفض القبول بالخسارة الانتخابية إن حصلت. والأمر الأخير على قدرٍ عالٍ من الجدية والخطورة، إذ ألمح إليه ترامب نفسه محذّراً من التزوير وداعياً أنصاره (وبينهم ميليشيات مسلّحة) إلى التواجد في مراكز الاقتراع، وحصّن نفسه قبل أيام بأكثرية في المحكمة العليا حيث قد تُبتّ الأمور في حال التنازع والتشكيك بالنتائج…
ولا تقلّ ترجمة كلّ ما ذكر في السياسة الخارجية خطورةً على الديمقراطية وثقافتها. فرغم النزعة الانعزالية لترامب وجمهوره وإيثارهم التمنّع عن الانخراط في تفاهمات واتفاقات ومؤسسات (وصراعات) دولية لا ترتبط مباشرة بالتجارة الأمريكية (حيث تبدو الصين المنافس الأوحد) وببعض الديناميات الاقتصادية أو بمصالح الحليفة الأولى إسرائيل (رغم عداءٍ للسامية متفشٍ في أوساط ترامبية واسعة)، فإن المحصّلة بعد الانسحاب من الاتفاق المناخي ومن منظّمة الصحة وسواها من المنظمات الأممية والتلويح بخفض الدعم لحلف شمالي الأطلسي وتقليص الانتشار العسكري في دول حليفة، هو تأييد علني لأنظمة دكتاتورية ولقادة شعبويين وفاشيين. يسري الأمر، مع استثناءات قليلة، على العالم العربي وعلى أمريكا اللاتينية وآسيا، ويترافق مع تعبير فجّ عن عنصرية وكراهية للمسلمين وللمكسيكيين والصينيين. في المقابل يبدو الإعجاب ببوتين بوصفه خلاصة “البياض المسيحي” عنصر تقاطع مع قوى وتيارات سياسية يمينية (ويسارية) عالمية، لأسباب كثيرة، بما يُحيل إلى اعتماد سرديات روسية للعديد من المسائل، ويحوّل روسيا عنصراً مؤثراً في السياقات الانتخابية الداخلية أمريكياً (وأوروبياً) على نحو غير مسبوق.
وإذا كانت مواقف ترامب المعادية لإيران وعقوباته عليها تجذب إليه جمهوراً خليجياً وعراقياً وسورياً ولبنانياً محبطاً من العدوانية الإيرانية وسياسات طهران التوسّعية وفجور حلفائها، فإن في ذلك مزيج من السذاجة والتعويض عن العجز باستجداء تدخّلٍ أقوى. وهو استجداء متوهّم في أي حال، إذ قد لا يحسم عبر العقوبات معظم النزاعات الإقليمية، ولا يحكم أصلاً في إمكانيات تطوّره إلى ما هو أبعد من الحصار الاقتصادي سوى مجلس الأمن القومي الأمريكي والمؤسسة العسكرية بناءً على المعطيات الميدانية الخاصة بمقارباتها للأمن النفطي أو للملف النووي أو للطلبات الإسرائيلية…
بقاء دونالد ترامب أربع سنوات جديدة سيكون إذاً تمديداً للأزمة العميقة التي تعصف بالنموذج الديمقراطي وبمعايير حقوق الإنسان واحترام البيئة والصحة أمريكياً ودولياً وشرق أوسطياً. وتفضيله أنظمة مستبدة أو فاشية في العالم بأسره خطرٌ إضافي إن استمر خلال السنوات المقبلة لن يكون التصدّي لآثاره البعيدة المدى يسيراً…
* كاتب وأكاديمي لبناني
شكرًا أخي زياد ماجد. تحليل أو شرح جيد للحالة التي أوصل إليها العالم ترامب! بالنسبة لي لن أختار ترامب لو كنت مواطن أمربكي لكن كوني من سوريا لست متفائلًا بالبديل بايدن. ربما سيكون العالم أفصل مع بايدن لكن هذه تخمينات وتحليلات أيضًا فمن يعلم كيف ستتطور الأمور في الأربع سنوات القادمة. التجربة المريرة لنا العرب والسوريين مع أوباما علمتنا أن لاأمل ننتظره من بلاد الديمقراطية وحقوق الإنسان، فنحن دائمًا خارج الحسابات الدقيقة. هل بايدن سيكون مختلفًا بعد أن دق ناقوس الخطر بتجربة ترامب الخطيرة على أمريكا نفسها!