نشر د. شيك فرايلبيخ النائب السابق لرئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، والمحاضر في جامعتي كولومبيا وتل أبيب، مقالًا (هآرتس يوم 4/10) عرض فيه سيناريو انهيار «الديمقراطية الإسرائيلية» والتحوّل نحو الديكتاتورية، مستعرضًا سلسلة من المشاهد، يجري خلالها استغلال جائحة كورونا لفرض إغلاق تام، بما فيه على المحاكم، واعتقال المعارضين، وتعيين أعوان نتنياهو في المناصب المهمّة والحساسّة في مجالات القضاء والأمن، والاستيلاء على وسائل الإعلام، وإسكات أي صوت يحتج أو يعارض. وينهي مقاله بأنّه حتّى لو كانت مبالغة في العرض، إلّا أنّ الخطر داهم، ودعا إلى التظاهر بكل قوّة لمنع ذلك.
ليس فرايلبيخ وحيدًا في هذا التخوف، فقد كثر في الآونة الأخيرة التباكي على مصير «الديمقراطية الإسرائيلية» في ظل الهجمة غير المسبوقة، التي يشنّها نتنياهو واليمين عمومًا على الجهاز القضائي الإسرائيلي، وعلى الإعلام وعلى كبار الموظفين الدولة، وفي ظل التقييدات التي فرضت على حرية التظاهر، في إطار محاربة جائحة كورونا.
ويرى الكثير من المحللين أنّ نتنياهو يفرض عمليّا نظام حكم الزعيم الأوحد
ويقوم بتهميش الكنيست والحكومة، ومؤسسات الدولة عند اتخاذه القرار. هم يذكرون في هذا السياق الاتفاق مع الإمارات، الذي لم يعلم به مسبقًا أحد من المسؤولين في إسرائيل، سوى رئيس الموساد يوسي كوهين، المقرّب من نتنياهو والمرشح لوراثته. ويذكرون كذلك مراسيم التوقيع على التطبيع في واشنطن، حيث جاء بوفد حكومي من شخص واحد هو (هو). ويشير محاضرون ومختصون في الشأن القضائي إلى امتناع النيابة العامة عن التحقيق مع نتنياهو في فضيحة الفساد في صفقة الغواصات مع ألمانيا، التي تورّط فيها أقرب الناس إليه، وفي فضيحة شراء الأسهم، التي ربح فيها ملايين الدولارات، بالاشتراك مع ابن عمّه، وتفوح منه رائحة الرشوة. ويشيرون أيضًا إلى سماح المحكمة العليا لنتنياهو بتشكيل حكومة، رغم توجيه لائحة اتهام ضده، وإلى فتح المجال أمامه لعدم إجراء التعيينات اللازمة في الجهاز القضائي. ويرى هؤلاء أن الجهاز القضائي يشعر بالحصار والخوف في ظل حملة الترهيب الجارفة، التي يقودها نتنياهو، في سبيل إنقاذ نفسه من الإدانة والسجن. يعود هذا الخوف على مصير الديمقراطية الإسرائيلية إلى اليأس والإحباط لدى أوساط اليسار والمركز في إسرائيل من عدم القدرة على إسقاط نتنياهو، فهم يرون فيه مصدر الخطر، وفي إزاحته الخلاص والإنقاذ للديمقراطية الإسرائيلية.
الديمقراطية تعني أن الشعب يغيّر الحكام، لكنّ الصهيونية فسرتها، أن الحكّام يغيّرون الشعب
سياق هذا التباكي والخوف هو، الاعتقاد أن كل شيء كان على ما يرام إلى أن جاء نتنياهو «اللعين» وبدأ بتدمير النظام الديمقراطي. هنا لا بدّ من السؤال عن أي ديمقراطية يتحدثون؟ كيف أنشئت؟ وما هي طبيعتها؟ وهل هي ديمقراطية مثل كل الديمقراطيات؟ هل فعلًا تغيّرت؟ هي تواجه خطرًا داهمًا كما يقولون؟ أسئلة كثيرة حول هذا الكائن العجيب والخطير المسمى «الديمقراطية الإسرائيلية» سأحاول الإجابة على بعضها..
في عام 1948، خلال الحرب، وقبل الإعلان عن إقامة اسرائيل، التقى الكاتب المعروف أرثر كوستلر زعيم الييشوف اليهودي حينها، دافيد بن غوريون وسأله عمّا إذا ستكون الدولة، التي ينوي الإعلان عنها ديمقراطية، فأجاب بن غوريون «ديمقراطية يهودية. الغربية غير كافية». من الواضح اليوم ان تعبير «ديمقراطية يهودية» في بلاد تقطنها أغلبية عربية فلسطينية، كان مؤشّرًا لنوايا ومخططات التهجير، فبدونه كان من المستحيل بناء كيان «يهودي وديمقراطي». لقد كان بن غوريون واعيًا أن كلمة «يهودي» تثير تعاطفًا كبيرًا بعد الحرب العالمية الثانية، وكلمة ديمقراطية لها فعل السحر، ويمكن ارتكاب الجرائم اللازمة لتأسيس الدولة في إطارها وتحت يافطتها. الديمقراطية تعني أن الشعب يغيّر الحكام، لكنّ الصهيونية فسرتها، أن الحكّام يغيّرون الشعب! فمن أجل إنشاء هذه الديمقراطية «المجيدة» قامت القوّات الصهيونية بعملية تطهير عرقي، أدّت إلى تغيير الواقع الديمغرافي في فلسطين، وخلق أغلبية يهودية مصطنعة، ومكّنت من إقامة نظام «ديمقراطي». السر القذر للديمقراطية الإسرائيلية أنها قامت على الترانسفير والتطهير العرقي. والشعب الفلسطيني ليس ضحية المسعى لإقامة دولة يهودية في فلسطين فحسب، بل هو ضحية «الديمقراطية» ضحية التزام القيادة الصهيونية بالديمقراطية. لقد عقدت هذه القيادة جلسات خاصة، جرى فيها نقاش «ديمقراطي» وتصويت «ديمقراطي» واتخذ قرار «ديمقراطي» بتغيير «الشعب» بإبعاد الفلسطينيين وإبقاء اليهود، وبعد هذا جرى الإعلان عن تشييد الديمقراطية الإسرائيلية.
من الناحية النظرية، كان من الممكن ان تقوم دولة يهودية مع نظام فصل عنصري رسمي وفعلي، من دون القيام بالتطهير العرقي، لكن من المستحيل أن تكون الدولة اليهودية ديمقراطية، ويبقى أهل البلاد في وطنهم، لأنَهم شكَلوا أغلبية، فحتّى تكون إسرائيل اليهودية ديمقراطية، كان من اللازم إجراء فصل عنصري تام عبر التهجير. ومن يبحث عن مقارنة بين النظام الإسرائيلي، ونظام الأبرتهايد البائد في جنوب افريقيا، يجد أن الفصل العنصري تم عام 1948، عبر التطهير العرقي. مرّة أخرى السر القذر للديمقراطية الإسرائيلية، أنها قامت على أساس التطهير العرقي والفصل العنصري، والنظام الإسرائيلي ليس نسخة طبق الأصل لنظام الابرتهايد في جنوب افريقيا، لكنّه بالتأكيد من العائلة نفسها.
جرت الانتخابات الأولى بعد الإعلان عن إقامة إسرائيل في 25 يناير 1949، وكانت تلك انتخابات جمعية تأسيسية وظيفتها سن دستور وتحديد أركان النظام، لتجري بعدها انتخابات برلمانية عادية. وبما أنّ الجمعية التأسيسية تنتخب من الشعب، والشعب هنا هو مجموع الناس الذين يعيشون في رقعة الأرض المعنية، فقد قام الحكّام بانتخاب الشعب مسبقًا، عبر تهجير الفلسطينيين من جهة، واستقبال المهاجرين اليهودي من جهة أخرى. وقررت المؤسسة الصهيونية، وفي مقدمها بن غوريون، أن يكون حق الاقتراع لمن يتواجدون في المنطقة التي تحتلها القوات الإسرائيلية، ولا حق اقتراع لأحد خارج حدود تلك المنطقة. وطالب حزب مبام بالسماح لحوالي 11 ألف مهاجر يهودي، تواجدوا في قبرص في طريقهم للهجرة إلى فلسطين، وجرى رفض هذا الطلب بتبرير «إذا منحنا مهاجري قبرص حقًّا قانونيا بالتصويت، علينا ان نمنح الحقّ نفسه لمهاجرين عرب أيضًا».
ومن أجل تحديد من هم أصحاب حق الاقتراع، أعلن حظر تجوّل من الخامسة مساءً حتى منتصف الليل يوم الثامن من نوفمبر 1948، وانتشرت وحدات من الجيش والحرس المدني الإسرائيلي، وقامت بتسجيل أصحاب حق الاقتراع وبلغ عددهم يومها 506567 شخصًا (من إجمالي 782 ألف مواطن) وكان حوالي 10% منهم عربا فلسطينيين، لم ينلهم التهجير من الوطن. لقد غاب عن هذا الإحصاء مئات آلاف الفلسطينيين، الذين جرى اقتلاعهم وتهجيرهم، ولولا ذلك لكانت هناك أغلبية فلسطينية، تمنع إقامة دولة يهودية بطرق ديمقراطية. ومن هنا كان المخرج الصهيوني الوحيد لإقامة الديمقراطية الإسرائيلية في الدولة اليهودية هو، التطهير العرقي وتغيير «الشعب».
جرت انتخابات الجميعة التأسيسية الإسرائيلية وانتخب من انتخب، ولكنّها لم تسن دستورًا، باعتبار ان «الشعب» غير مكتمل النصاب، فغالبية اليهود يعيشون خارج إسرائيل، ولا يحق للدولة اليهودية أن تقرر دستورها بمعزل عنهم وقبل قدومهم إليها. واعتمد في هذه الجمعية مبدأ سن قوانين أساس تكون لها صبغة ومكانة دستورية، ويسري هذا الأمر حتى اليوم. إن أهم أسس صياغة المبادئ الدستورية، وبنية نظام الحكم هي، أن يكون ذلك تعبيرًا عن إرادة الشعب، كل الشعب وليس فقط جزءا منه فقط، والشعب في هذا السياق هو كل الناس في البلد. هنا تنهار تمامًا شرعية الانتخابات الإسرائيلية الأولى وما تلاها من انتخابات، كخط متسلسل من اللاديمقراطية واللاشرعية، بسبب التطهير العرقي وتغيير «الشعب». وقد عقّبت في حينه على سن قانون «القومية اليهودية» بالتشديد على أنه لا يحق للكنيست أن تسن قوانين تقرر مصير البلاد، بعد استبعاد أهل البلاد، فالإجراء نفسه غير شرعي وغير ديمقراطي، وليس المضمون فقط.
ليس «السر القذر» هو الخطيئة الوحيدة للديمقراطية اليهودية، إذ أن الحكومة الإسرائيلية تتخذ بإجراء ديمقراطي قرارات احتلال واستيطان، وعدوان وحصار وقتل وتدمير وتهجير، واستيلاء على أراض وممتلكات وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية لا أوّل لها ولا آخر. أما الكنيست فتسن القوانين العنصرية والفاشية الواحد تلو الآخر، وتمنح «شرعية» برلمانية لكافة الجرائم. بعد كل هذا تدعي إسرائيل أنها دولة ديمقراطية وتسوّق نفسها عالميًا على أساس أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. ويمنحها هذا الادعاء شرعية دولية، ودعمًا معنويا وسياسيا واقتصاديا وحتى عسكريًا، على أساس أنها جزء مما يسمى «الأمم الديمقراطية». لقد آن الأوان لتفكيك أساطير الديمقراطية الإسرائيلية، وفضح سرها القذر، وخطاياها الإجرامية، وهذا المسعى مؤثّر جدًّا ويجعل إسرائيل تفقد صوابها، لعلمها ما معنى خسارة في الحرب على الرواية. بقي ان نعي نحن معنى الانتصار في الحرب على الرواية. أما دموع من يعتبرون أنفسهم حماة الديمقراطية في إسرائيل، التي تذرف هذه الأيام فهي ليس على انهيار المبادئ الكونية السامية للديمقراطية، بل على تصدع بعض اسس الديمقراطية الإسرائيلية، القائمة أصلًا على التطهير العرقي والفصل العنصري.
رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48
مشكلة “الديموقراطية الإسرائيلية” لا تقتصر على مطامع نتنياهو وفريقه، فحسب،بل تكمن في أن معارضي نتنياهو، يقومون بالتظاهر ضده، في الساحات،وفي نواصي الشوارع،في المدن الإسرائيلية،ويرفعون شعار ” إرحل”،لكنهم في حقيقة الأمر،لا يقلون عنه عنصرية وتطرفاً،لانهم يستثنون الصوت العربي،الذي يشكل قرابة عشرين بالماىة من مجموع الناخبين، ويبتعدون عنه، لا بل يعملون جاهدين على إقصائه، مما يدل على انهم يشكلون الوجه الآخر لبنيامين نتنياهو العنصري بامتياز.
كل الصهاينة عنصريين لا يستثني منهم أحد