الاقتصاد السوري… بين “ليرة السوق السوداء” وتفاحة الطفل الغائبة وكرة القدم الثمينة

حجم الخط
0

نقف أمام “قربة مثقوبة”، هكذا تذمر مدير فريق كرة القدم في مدينة حمص. لم يقصد الكارثة الاقتصادية التي تحل بسوريا منذ تسع سنوات أو أسعار السلع الأساسية التي قفزت بمئات النسب المئوية في السنتين الأخيرتين.
إياد السباعي، مدير نادي الوثبة في مدينة حمص، يشتكي من طلب نجوم كرة القدم أسعاراً عالية جداً قبل افتتاح الدوري وموسم انتقال اللاعبين. “في الماضي وقّعنا على اتفاقات أجور معقولة مع اللاعبين، والآن يطالبون بثلاثين ألف دولار على الأقل للموسم”، قال في المقابلة. وحسب قوله، فإن كلفة بيع لاعب من النخبة لمجموعة أخرى كانت 70 – 80 ألف دولار للموسم، في حين تصل تكلفة الشراء الآن إلى مبالغ خيالية، تبلغ مليون دولار للموسم. الفرق الممتازة في سوريا هي بملكية الحكومة، لكن جزءاً كبيراً من ميزانياتها يأتي من متبرعين ومشجعين هم أنفسهم تلقوا ضربات اقتصادية بسبب التخفيض الدراماتيكي في سعر الليرة السورية.
ويعترف لاعبو كرة قدم كبار بأن أجرهم أعلى بكثير من الأجر المتوسط في الاقتصاد – 25 دولاراً في الشهر – لكنهم يفسرون ذلك بأنهم يطالبون الآن بمبالغ أعلى لأن عليهم الاهتمام بمستقبلهم، سواء بسبب الزمن المهني القصير نسبياً أو بسبب الحاجة إلى التوفير لـ”اليوم الأسود”. ولكن السبب الرئيسي أنهم يستطيعون المطالبة بمبالغ عالية ويحصلون عليها.
الفقاعة الاقتصادية التي تغلف فرق كرة القدم لا تختلف عن التي تحمي مقربي النظام والموظفين الكبار وتحديداً الوسطاء الذين تكمن مهمتهم في توفير المنتجات الاستهلاكية التي لا تستطيع الدولة استيرادها بسبب العقوبات التي فرضت عليها. كل واحد منهم يقتطع نصيبه حسب قدراته. الماهرون والمقربون من هؤلاء الوسطاء يخضعون في كل مرة إلى اختبار جديد يجبرهم على العثور على شروخ في العقوبات أو الاتصال مع شركات ورجال أعمال خارج سوريا. منذ حزيران، الذي بدأ فيه تطبيق “قانون قيصر” الأمريكي – الذي يفرض عقوبات على كل شركة أو رجال أعمال يعقدون صفقات مع النظام السوري – فإن هؤلاء الوسطاء يقفون أمام تحديات جديدة. وكالعادة، بقدر حجم الصعوبة يكون مستوى العمولة التي يحصل عليها مقابل الخدمة. هذا نظام من الأوامر المستطرقة التي كلما كسب فيها الوسطاء أكثر فإن الجمهور يشتري أقل ويدفع أكثر مقابل هذه السلع، ويبدو أن العقوبات التي استهدفت المس بالنظام توقع ضرباتها المؤلمة على المواطن العادي بالتحديد.
 تظهر النتيجة في البيانات التي تنشرها منظمات المساعدة ومؤسسات الأمم المتحدة. في التقرير الذي نشرته مؤخراً منظمة الإغاثة “أنقذوا الأطفال” كتب أن 700 ألف طفل سوري على خط الفقر؛ 4.6 مليون طفل يعانون من عدم الأمن الغذائي ولم يأكلوا تفاحة أو برتقالة منذ ثلاثة أشهر تقريباً؛ في حين أن الوضع في شمال شرق سوريا أكثر خطورة؛ فربع الأطفال لم يأكلوا الفواكه طوال تسعة أشهر. أما الدجاج واللحوم فهي سلع نادرة ويحل مكانها الأرز والفاصولياء، في حين أن إجمالي المساعدة الغذائية التي تقدم للعائلات السورية المحتاجة يبلغ فقط 11 في المئة من الاحتياجات.
في جنوب سوريا أعيد فتح المعبر بين سوريا والأردن، وللمرة الأولى منذ سنوات، سمحت السعودية لـ 200 شاحنة سورية بالمرور إلى أراضيها لتصدير البضائع. ولكن التسهيلات في المعبر التي تساعد المزارعين والمنتجين تجبي مبالغ من المواطنين، حيث يفضل المزارعون تصدير بضائعهم بدلاً من بيعها في السوق المحلية، والنتيجة هي نقص آخر في المنتوجات الزراعية الذي يرفع سعرها للمواطنين.
حكومة سوريا التي تقوم في هذه الأثناء بإعداد ميزانية العام 2021 تعرض بيانات متفائلة، التي –بحسبها- سيرتفع معدل الدعم للمحتاجين في السنة المقبلة، وستكون الميزانية الإجمالية هي الأعلى في تاريخ سوريا، وتشمل شريحة مناسبة لتطوير البنى التحتية والصناعة. ولكن مثل باقي البيانات التي تنشرها الحكومة، فإن الخدعة ظاهرة للعيان. بالليرة السورية، هذه حقاً ميزانية ضخمة تبلغ تقريباً 9 مليارات دولار، لكنها محسوبة حسب سعر 434 ليرة للدولار.
فعلياً، بعد أن هبطت الليرة إلى سعر 1.260 ليرة للدولار والسعر الحقيقي في السوق السوداء هو أكثر من 2260 ليرة للدولار، ستكون الميزانية الحقيقية 3.5 مليار دولار، ثلثها مخصص لسداد الديون. وتتحدث ميزانية التطوير عن خلق 70 ألف مكان عمل جديد، لكن تجربة السنة الماضية تدل على أنه لا يمكن الاعتماد على هذه التوقعات. من بين 188 مشروعاً حكومياً تم الوعد بها والتي كان يمكن أن توفر 8600 مكان عمل، تم تنفيذ 16 مشروعاً منها فقط، التي خلقت 680 مكان عمل تقريباً.
تواصل سوريا الاستفادة من خطوط اعتماد وضعتها إيران تحت تصرفها بأحجام غير معروفة. القمح تشتريه بالأساس من روسيا مقابل عقود مستقبلية، وأساس مدخولات الدولة يأتي من جباية العمولات والضرائب التي تغطي نصف نفقاتها تقريباً.
هنا تكمن “الأعجوبة” التي ليس لها أي تفسير. كيف يمكن لدولة في وضع سوريا أن تواصل البقاء من ناحية اقتصادية، وتدفع رواتب جيدة للاعبي كرة القدم؟ هذا هو السؤال نفسه الذي سئل قبل عقدين عندما فهمت الولايات المتحدة أن العقوبات الشديدة التي فرضتها على العراق لا تنجح في إزاحة صدام حسين وقررت شن حرب ضده. وهذا السؤال يجب أن يقف أمام من يؤيدون العقوبات على إيران، وهي دولة قدرتها الاقتصادية أيضاً في ظل العقوبات أكبر بكثير من العقوبات التي تم فرضت على العراق وسوريا.

بقلم: تسفي برئيل
هآرتس/ ذي ماركر 8/10/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية