الخيارات الاقتصادية للناخب وللحكومة الأردنية الجديدة مليئة بالتحديات؛ فالأردن هو أكثر الدول العربية انكشافا على الحقائق الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط، حتى بالمقارنة مع لبنان الذي يعتبره المحللون مرآة سياسية للتوازنات الإقليمية. ويترك هذا الانكشاف آثارا عميقة على الحالة الاقتصادية للأردن، فهو يزدهر في فترات الاستقرار، ويتعرض لأضرار في أوقات التوتر والتقلبات. وبسبب التطورات الراهنة، التي تنطوي على إعادة رسم خريطة التوازنات الإقليمية، فإنه يواجه تحديات اقتصادية وسياسية كبيرة، تحتاج مواجهتها إلى الإنطلاق على أساس رؤية إقليمية واضحة، جنبا إلى جنب مع رؤية محلية تسترشد بمؤشرات حقيقية لضمان تحفيز النمو الاقتصادي، وزيادة فرص العمل، وتحقيق العدالة والقضاء على التفاوت المناطقي والاجتماعي.
ويزيد من خطورة الوضع الاقتصادي الراهن أن العالم كله يمر بفترة خانقة شديدة الصعوبة، بسبب تداعيات جائحة كورونا وما صاحبها حتى الآن من انكماش معدلات النمو والتجارة والاستثمار، وتعثر خطط تحفيز الاقتصاد في الكثير من دول العالم. ومهما كانت محاولات تحقيق الاستقرار السياسي، فإن الأمر سيتوقف على مدى النجاح في حل معضلة النمو، وتوفير الفرص الكافية للعمل، خصوصا للشباب، الذي يعاني من معدل بطالة يرتفع إلى أكثر من ضعف المعدل العام البطالة في البلاد.
ومثل غيره من اقتصادات العالم، كان لابد أن تلعب الحكومة دورا ماليا محوريا في مواجهة تداعيات انتشار وباء كورونا، وهو ما ساعد على تخفيض معدلات الإصابة والوفيات. لكن تكلفة التمويل، وعدم اليقين بشأن إمكانات تعافي الاقتصاد خلال النصف الثاني من العام الحالي، واحتمال ظهور موجة ثانية من الإصابات، يسبب حالة من الغموض بشأن الوضع الاقتصادي، ويتوقف حسم معضلة النمو على محاصرة تهديد فيروس كورونا، وتقليل تعرض السكان لتداعيات الإصابة به. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش الاقتصاد الأردني هذا العام بنسبة 3.4 في المئة. لكن البنك الدولي يقدر أن معدل الانكماش من المرجح أن يقترب من 6 في المئة، وهو ما يعني أن الحكومة قد تصبح مضطرة إلى تعزيز موارد التمويل لتوفير احتياجات صندوق المصروفات الطبية الطارئة، وتمديد العمل بالإجراءات الاحترازية الاقتصادية والمالية مثل تأجيل سداد المديونيات والضرائب والاستمرار في تقديم الحماية الاجتماعية لغير القادرين، ومساندة قطاعات الأعمال المختلفة تجنبا لمخاطر الإفلاس.
وقد تكلفت خطة الإنقاذ الاقتصادي التي بدأ العمل بها في الربع الثاني من العام الحالي ما يقرب من 700 مليون دولار، تم ضخها في الاقتصاد من خلال البنك المركزي والأجهزة الحكومية والصناديق المعنية. ونجحت الحكومة خلال النصف الأول من العام في تخفيف أثر الصدمة الاقتصادية الناتجة عن الوباء، مستعينة بتمويل خارجي ضخم بقيمة 3.5 مليار دولار تقريبا من صندوق النقد وسوق السندات الدولية.
وسوف تحتاج الحكومة المقبلة إلى تمويل إضافي للمساعدة على مواصلة تحفيز النمو الاقتصادي، خصوصا في مجالات الإنفاق الرأسمالي ومشروعات البنية الأساسية، وكذلك تمويل احتياجات الوقاية الاجتماعية. وقد تضمنت الميزانية الحالية عجزا يقدر بنسبة 2.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، على أساس توقعات بزيادة إيرادات ضرائب الدخل والمبيعات بنسبة 10 في المئة، وهي توقعات بعيدة المنال، بسبب انخفاض الإيرادات عن التوقعات الواردة في الميزانية. ونظرا لضآلة معدل الادخار المحلي (0.9 في المئة من الناتج المحلي) فإن صانعي السياسة المالية ليس أمامهم إلا زيادة الاقتراض المحلي والخارجي.
فرص عمل للشباب
تشير استطلاعات الرأي العام بين الشباب إلى أن ما يقرب من ثلثي الطلاب يتطلعون إلى فرص عمل في الأجهزة الحكومية، وليس في قطاعات الأعمال، ولذلك فإن الأردن يحتاج بلا شك إلى جهود كبيرة لضخ استثمارات عامة واسعة النطاق، وتوفير ظروف إيجابية لنمو قطاع الأعمال الصغير والمتوسط، في مجالات الصناعة والتجارة والسياحة وغيرها، مع العمل على تغيير تفضيلات الطلاب، بحيث تنتقل ثقافتهم من التطلع للعمل لدى الحكومة إلى العمل في القطاع الخاص.
وتعتبر البطالة من أصعب التحديات التي تواجه الاقتصاد الأردني في الظروف الحالية، وقد وصل معدلها إلى 23 في المئة من قوة العمل في نهاية الربع الثاني من العام الحالي، مقابل 19.2 في المئة في الفترة المناظرة من العام الماضي، وهو أعلى معدل للبطالة منذ عام 2005 طبقا لأرقام دائرة الإحصاءات الأردنية. لكن معدل البطالة بين الشباب يرتفع إلى ما يقرب من 50 في المئة في الشريحة العمرية من 15 إلى 19 سنة، وإلى حوالي 40 في المئة في الشريحة بين 20 إلى 24 عاما. وكان البنك الدولي قد قدر معدل البطالة بين الشباب (15 – 24 عاما) بحوالي 35 في المئة في نهاية العام الماضي.
وعلى الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة، فإن الأردن يتمتع بفرص كبيرة في تحقيق النمو المستدام، من خلال عدد من النماذج التي خضعت للاختبار منذ أواخر القرن الماضي، ومنها نموذج (المعابر والمناطق التجارية واللوجيستية المشتركة) على الحدود مع الدول المجاورة، ونموذج (المناطق الصناعية المؤهلة) “كويز” مع إسرائيل والضفة الغربية، ونموذج مشروعات (التكامل في ميادين الطاقة) مع كل من العراق ومصر وإسرائيل، ومنها كذلك نموذج (التسويق السياحي المشترك) بين الأردن والضفة الغربية وإسرائيل.
ورغم كل عوامل التوتر وعدم الاستقرار؛ فإن الاعتماد على مدخل تنموي إقليمي ساعد الأردن على زيادة الناتج المحلي الإجمالي، مدفوعا بزيادة الصادرات والاستثمارات الأجنبية المباشرة منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي حتى الآن. وقد بلغ الناتج الإجمالي في نهاية العام الماضي حوالي 44 مليار دولار مقابل ما يقرب من 4.2 مليار دولار فقط في العام 1990. وبفضل اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة “كويز” ارتفعت صادرات الأردن إلى الولايات المتحدة في العام الماضي إلى أكثر من 1.7 مليار دولار مقابل 8 ملايين دولار فقط في العام 1997.
ويمكن أن تتيح المناطق اللوجيستية والتجارية بين الأردن والضفة الغربية، وبين الأردن وسوريا، توسيع نطاق السوق لكل منها، وزيادة القدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة. بينما يتيح التعاون الإقليمي مع كل من مصر والعراق فرصا أفضل للتغلب على قيود إمدادات الطاقة، وزيادة الترابط بين شبكات البنية الأساسية المحلية والإقليمية. وما تزال هناك مساحة واسعة لتعزيز النمو الاقتصادي في الأردن مع الدول المجاورة، إنطلاقا من منظور إقليمي يسترشد برؤية ناضجة، تميز بين المصالح الاقتصادية الدائمة، وبين الشعارات السياسية المتغيرة.