الآخر هو امتداد لنا، وإلغاؤه إلغاء لذواتنا، الآخر المختلف شكل آخر من أشكال الحياة والفكر، إنه نموذج حي واقعي لوجود إمكانات أخرى للفهم والتجربة والمعاش ليس بالضرورة أن تتطابق مع فهمنا وسلوكنا وتجاربنا، وإلغاء الآخر المختلف ظلم لذواتنا.
في الأدبيات الدينية «المؤمن مرآة لأخيه» ما معنى ذلك؟ إنه مرآة يرى فيها المرء ذاته بشيء من الموضوعية، فيرى أخطاءه وقصور رؤيته فيعدل من فكره أو من سلوكه، لأن ذاتية المرء تحول بينه وبين الرؤية الصحيحة والموضوعية والواضحة، فهناك الضبابية نتيجة الهواجس الذاتية والرغبات والمخاوف والأحلام والشهوات السلطوية والحسية، وهي حجب تحول دون الرؤية الواضحة والصحيحة.
في السياسة يشكل الآخر المختلف في شكل المعارضة، صورة رائعة للاختلاف الباني للوطن، إنه ينقذ من جحيم الغطرسة والنرجسية والتعالي والسلطوية والتأله:»ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» لم تعد المعارضة إلا شريكا في الحكم وشريكا في البناء، إنها منتجة للفكر وللمواقف، وعلى أساس الاختلاف بين الحاكم والمعارض تبنى الأوطان، والنقابات العمالية خير مثال، إنها معارضة للسلطة، ففي حين تدافع السلطة عن الأغنياء ولوبيات المال والاقتصاد، تدافع النقابة عن حقوق العمال والكادحين، وجميع مكاسب العمال، هي من نضالات النقابات العمالية (وهي شكل من أشكال الآخر المختلف أي المعارض) والرأسمالية ذاتها استفادت من الآخر المختلف، فالنقابة هي فكر يساري، فإن همش اليمين الليبرالي الحاكم اليسار، فإنه اغتنى بتجربته ومقولاته، لذا لا يقبل الغربيون بمعارضة تسجن ولا آخر مختلف يقصى. عندنا الآخر المختلف شطبه مسألة سهلة، اللامبالاة بما يقول، تهميشه، وعند الحكام سجنه في سجن أو في سرداب، أو في إقامة جبرية أو منعه من حقه في نقل المعلومة وتبادلها فالحاكم لا يريد الآخر المختلف، يريد الآخر المؤتلف، إنه يبحث عن المطابق، إنه يبحث عن الحاشية لمتنه السياسي، وبقدر دفاع المثقفين والمجتمع عن معارضته يكون مستوى الفكر والأداء والفاعلية الثقافية والفكرية والسياسية.
الأمة الحرة لا تزهد في معارضيها ولا تسكت عن سجنهم أو تكميم أفواههم أو إقصائهم، لأن ذلك يشكل جريمة ضدها. إقصاء الآخر المختلف يعني إقصاء الأنا، إلغاء الذات، فالآخر هو امتداد لنا لذواتنا، إنه صورة أخرى لنا مختلفة عنا، لكنها جزء منا، إنها الكينونة البشرية في تعددها وتناغمها، وهي مثل الضوء تراه أبيض لكنه في الحقيقة ألوان كثيرة. ومن يفرح بتهميش الآخر وإقصائه وحجبه وحرمانه من حق الكلام، أجد ترجمة لذلك في المثل العربي القديم الذي يقول: «أراد أن يغيظ زوجته فخصى نفسه» إن السياسي الذي يسجن المعارض يحرم الوطن من فكر، ومن قدرة على العطاء، إنه يحول بين الوطن والتطور. لذا فالأمة التي تزهد في معارضيها وسياسييها، وتسكت عنهم، تعدم نفسها وتقضي على ذاتها، لأنها ببساطة حرمت نفسها من حق الكلام، ومن حق التفكير، ومن حق العمل، ومن حق التمثيل. بقدر دفاع الأمة عن معارضيها ومساجينها، يكون مستواها الحضاري والفكري.
إن تخوين المعارض والاعتداء على كرامته، وحقه في التعبير والكلام والاعتقاد، ليس إلا تخوينا للأمة، ونسفا لمبدأ الحق العام في الكلام بصوت مرتفع، وكثيرا ما أتأمل المثل العربي الذي يقرأه الناس عادة ولا ينتبهون إلى دلالته الرمزية السياسية والاجتماعية، ذلك أن الأمثال تتوسل بالحكاية والأسطورة والرمز والتماهي والقناع، للتعبير عن قضايا سياسية ودينية واجتماعية، هربا من القمع والعسف، يقول المثل «أبصر من الزرقاء» زرقاء اليمامة التي قال فيها الشاعر القديم:
إذا قالت حذام فصدقوها ** فإن القول ما قالت حذام
إن النهاية الرمزية المأساوية لهذه المرأة التي كانت ترى الجيش من مسيرة أميال سمل العينين، أي سمل البصيرة والرؤيا والبصر فكأن المثل يقول إن الإلغاء والإقصاء تدفع الأمة ثمنهما فادحا تخلفا واستبدادا وعماء ولا أدل على ذلك من سمل عين الزرقاء.
ويمكن عد أشكال العنف الرمزي وممارسة السلطوية والوصاية بالكلام: أنت امرأة ماذا تعرفين، أين المرأة التي صامت شهرها كاملا حتى تتكلم؟ العنف الرمزي يتمثل خاصة في هذه الكلمات وهي مقاصل تعدم، وشفرات تذبح «بقرة إبليس» «حبائل الشيطان» وليست النكت الجنسية عن أعضاء المرأة والعادة الشهرية إلا شكلا من أشكال القمع والإدانة والحرمان من الحق في الكلام، فمن تسخر من أعضائها ومن أنوثتها وعادتها الشهرية كيف تستمع إليها أو تعطيها الحق في الاختلاف والتميز؟ إن النكت الجنسية شكل من أشكال التسلط والإلغاء والحجب، أو ماذا يقول هذا الولد؟ متى كان الصغار يتكلمون؟ الصغار سفهاء، الشباب طيش وسفه وجهالة، لا حق لهم في الكلام وماذا عندهم غير الصبوات والشهوات؟ هل نحن بحاجة أن نذكر الناس، أن رسالة الإسلام حين بدأت كانت حجة المكيين، كيف نقبل بدين يمثله شباب وكيف نسمح لشاب في الأربعين أن يعلمنا ويحدثنا عن المصير والحياة والعالم الآخر؟ أشباب مكة يقودون شيوخها؟ هذه أمثلة للعنف الرمزي وممارسة الإقصاء والإلغاء، وهي نماذج بإمكان كل واحد أن يجد لها الكثير من الشواهد. والإلغاء يتخذ أشكالا مختلفة فمن السخرية إلى الصمت، وكأن شيئا لم يحدث، إلى التوسل بالسلطات الرمزية والسياسية وانتهاء بالقمع.
المتدين الذي يرى نفسه يمتلك حق التأويل، وحق الكلام في الدين ووحده المالك لمفاتيح الفهم والتفسير، لا يختلف كذلك عن السياسي المستبد، إن ذلك أخطر إنه يمارس الوصاية على الأمة، وإذا أخطأ في الفهم أو استبد دفعت الأمة ثمنا فادحا لاستبداده وإقصائه لغير.
والمثقف الذي يمارس حق الوصاية على الأمة، ويعتبر نفسه المسؤول عن مستقبلها والحامل لبنيتها الثقافية والفكرية والناطق الرسمي باسمها، بمنطق الشمولية والوصاية والتأله، هو مثقف مسخف، إنه صورة لتردي الأمة، إنه لا يختلف عن السياسي المستبد، فكما في السياسة مستبدون، ففي الثقافة مستبدون، يستطيعون أن يرسلوا بمعارضيهم إلى السجون، أو إلى المنافي، أو إلى صحراء النسيان والإهمال، بسبب علاقتهم بعصب الحكم ووسائل الإعلام، إن هذا المثقف المسخف، وما أكثره في مجتمعنا العربي، هو أخطر من السياسي المستبد، الذي يمارس سياسة السجن والإقصاء. تردد الحداثة الغربية مقولة لفولتير: «لا أؤمن بما تقول، لكنني سأدافع عن حقك في أن تقول» وتعمل بمقتضاها عندها على الأقل وعندنا كثير من المثقفين يترنمون صباح مساء بهذه المقولة، لكنهم في صميم ذواتهم مستبدون كلانيون طغاة، يمارسون الإقصاء والوصاية، ينتقدون السلطة وهم جزء منها، أو يسعون إلى توسيع دائرتها، لهذا كم من الأفكار الخلاقة غائبة عن ساحتنا العربية، بسبب سياسة الإقصاء، وبلاغة الإلغاء، كما يسميها أدونيس.
والمتدين الذي يرى نفسه يمتلك حق التأويل، وحق الكلام في الدين ووحده المالك لمفاتيح الفهم والتفسير، لا يختلف كذلك عن السياسي المستبد، إن ذلك أخطر إنه يمارس الوصاية على الأمة، وإذا أخطأ في الفهم أو استبد دفعت الأمة ثمنا فادحا لاستبداده وإقصائه لغيره، ممن يملك رؤية وفهما أكثر فاعلية ومرونة واستجابة لحاجات العصر، ومتطلبات الحياة، ويمكن أن نجد هذه الأشكال اليوم في دفاع بعضهم عن الحكام وطاعة ولي الأمر، أكثر من دفاع الحكام أنفسهم عن مشروعيتهم السياسية، وسكوتهم أو هروبهم من مشاكل حقيقية، وربما نفاقهم وانتهازيتهم أمام قضايا مثل: الصراع العربي الإسرائيلي، مفاهيم الديمقراطية، الحريات، حقوق الطفل، المرأة، السجناء، الطفولة المسعفة، المشاكل الجنسية، العلاقة مع الغرب..
والأكاديمي الذي يصول ويجول في الكلية، ممارسا سلطة اللقب وهي جزء من الرأسمال الرمزي الذي يمتلكه (المعرفة وأدواتها) ويمارس سلطة الإلغاء وبلاغة الإقصاء لغيره، باعتـــباره الوحيد الذي يفهم ويعرف والآخــــرون ليسوا سوى الظلال الشاحبة لصورته، والانعكــــاس لذاته العظيمة العلية، هو مستبد مثله مثل السياسي، وإن عجبت فاعجب له يتحدث عن ظلم الحكام واستبداد الغرب وطغيان الحاكم، ثم هو ذاته طغيان وظلم وما احتكاره حق الكلام وحق التمثيل وسلطة الإلغاء إلا صورة أخرى للاستبداد والإقصاء. كم في المجتمع وفي الجامعة ذاتها من أفكار ورؤى ومفاهيم وتصورات وتجارب، تغني واقعنا وتنير ذواتنا، لكن سياسة الإقصاء منعتنا من مفاتيح تفسير وأدوات عمل.
وينسحب الإلغاء إلى البيت العربي ذاته، إن السلطة الأبوية ووصاية الوالدين، تلغي فكر ومنطق الأولاد، مع أن الأدبيات الدينية المأثورة تنص على تربية الأولاد تربية مختلفة عن تربيتنا، لأنهم مخلوقون لعصر غير عصرنا، ولذا فالبيت العربي صورة أخرى للقصر وللحكومة، إنه الاســـتبداد والوصاية والإلغاء، تحت ذريعة المصلحة التي يعرفها الوالدان والتجربة الحياتية. والعالم الغربي المتطور هو ذاته قائم الإلغاء والإقصاء، إن الأمريكي مثلا يرى حضارته كل شيء، ولذا فالحضـــارات الأخـــرى لا حق لها في الكلام ولا في الوجــود، إن إبادتها وشطبها من القائمة هو السبيل لإلغاء صراع الحضارات، والدخول في الدين الجديد والعولمة الشاملة، وما هذا القمع للحضارات الأخرى والتعالي عليها، بل تدميرها بآلات الحرب ووسائل الدمار، إلا صورة ناطقة لبلاغة الإقصاء والإلغاء، مع أن العلم الحديث يقر بأن الحضارات أنظمة مغلقة لا يجوز التفاضل بينها، لأنها خصوصيات إثنية ومكانية وتاريخية، من حقها الوجود ويجب عدم المفاضلة بين الشعوب، إلا في العلم والأداء السياسي، أما الدين وألوان اللباس والعادات وأشكال الغناء والفنون، فلكل خصوصياته، وهي في النهاية تغني التجربة الإنسانية وترسخ مبدأ التعدد والتمايز والاختلاف.
بقدر دفاعنا عن الآخر المختلف عنا، ندافع عن وجودنا وهويتنا المتعددة وعن إنسانيتنا، وبقدر دفاعنا عن معارضينا وعن نسائنا وأطفالنا وعن المهمشين في مجتمعنا، وعن حق الكلام والاعتراض، نبني أوطاننا ونحافظ عليها ونفتح صفحة مشرقة في الارتقاء بالجنس البشري إلى حياة أفضل وعالم أكثر سعادة وسلام وتعاون مع الاختلاف والتباين.
٭ كاتب جزائري