رغم توظيفاتها الاقتصادية، فإن جوهر «عقيدة الصدمة» هو بالأساس سيكولوجي، وملخصه أن الإنسان الذي يتعرض لصدمات، أو يوضع في ظروف استثنائية يقبل ما لا يقبله عادة في الوضع الطبيعي. جوهر النظرية مبني على العبث بالوعي، عبر تعريض الإنسان لصدمة فعلية على طريقة الصعق الكهربائي، أو إلى درجات أخرى من التعذيب النفسي والجسدي، الذي يجعله لا يستطيع التمييز بين الثوابت والمتغيرات، أو الأشياء التي كانت تفصله عنها حدوده الأخلاقية، ليمكن بهذا إقناعه ببساطة، بما كان لا يستسيغه.
إذا كانت الصدمات الكهربائية قيد التجريب، منذ عقود خلت، على عدد من المرضى والمعتقلين لإثبات فعاليتها، فإن الصدمة الاقتصادية، التي آمن بها أستاذ الاقتصاد الأمريكي ميلتون فريدمان، كانت في ظنه أقرب إلى النجاح، وما يزال تلاميذه يؤمنون بنجاعتها، مستشهدين بما حدث من موافقة الشعب الأمريكي على سلب حريته، والسماح بالتجسس عليه وتقييد حركته عقب صدمة الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.
«رأسمالية الكوارث» هو المجال الذي يربط بين علم النفس وعلم الاقتصاد، ليفترض أنه، ومثلما كان المريض أو المعتقل مستعداً لقبول أي شيء حتى ينجو من التعذيب، فإن الشعوب كذلك، إذا تعرضت لقدر من الضغط، فإنها سوف تقبل بما يقدم إليها من دون أي قيود أو اعتراض. الصدمة الاقتصادية هي التعبير الأدق عن هذه المرحلة التي يعيشها السودان، فليس الأمر مجرد تدهور أو تراجع اقتصادي، ولكنه صدمة قاسية ومفاجئة. على سبيل المثال انتقل الناس خلال عامين فقط ما بين 2018 إلى 2020 من مرحلة توفر رغيف الخبز ووجوده في متناول اليد، لدرجة تحوله لوسيلة سهلة للتصدق بالنسبة للطبقات المتوسطة، بعد تفعيل مبدأ (إشتر لك ولغيرك) الذي كان يشتري الناس بموجبه أكياس خبز إضافية، يضعونها عند أصحاب المخابز أو على أبوابهم للمحتاجين، إلى مرحلة تضاعف سعر الرغيف لعشر مرات أو أكثر، مع عدم توفره إلا بشق الأنفس، وهو ما تكرر مع الوقود وغاز الطبخ والأدوية ومعظم السلع الأساسية الأخرى. بالتزامن مع تزايد التضخم، وتضاعف سعر الدولار مقابل الجنيه بشكل غير مسبوق، اكتملت الصدمة بكشف الحكومة عن عزمها رفع الدعم عن السلع الأساسية والخدمات. هذه الخلفية مهمة، وبدونها لا يمكن للمرء أن يستوعب الاستقبال الفاتر لمسارات التطبيع، أو لماذا مرت اللقاءات المتتالية والأجواء المفتوحة مع الكيان من دون ردود فعل لائقة؟ قد تكون النقطة الأخيرة مثار جدل ومغالطة، فهناك الكثيرون ممن يودون الاحتفاظ في أذهانهم بالخرطوم، عاصمة لللاءات الثلاثة، ومركزا للمقاومة، وقد يستشهد أولئك بالوقفات الاحتجاجية والخطب المسجدية وفتوى المجمع الفقهي.
بإمكان الشعب حين يصل إلى مرحلة لا يكاد يجد فيها قوت يومه، أن يقبل بكل شيء إذا ما تم إيهامه بأن فيه خلاصاً له
بالتأكيد فإن الأمر لم يمض من دون اعتراضات أقلقت السلطة، لدرجة مضيها نحو اعتقال عدد من المؤثرين، وملاحقة التظاهرات التي تم تهميشها إعلامياً، ووصفها بقليلة العدد وبأنها لا تضم سوى فوضويين مدفوعين من النظام السابق. على الرغم من ذلك فإني أزعم أن ردود الأفعال الشعبية منذ سريان نبأ اللقاء الثنائي المباشر الأول بين قيادات البلدين ظلت باهتة، والأغرب هو دخول بعض الشخصيات السياسية والدينية في نوبات من التبرير، والحديث عن المصالح العليا، وعن التطبيع كفرصة. لا شك في أن الحكومة الانتقالية ترددت في إعلان نيتها بدء علاقات مع ما كانت تعتبر منذ إنشائها كياناً غاصباً، وبلا شرعية، وربما لولا فضح الجانب الإسرائيلي للقاء، لاعتبارات خاصة به، لظل الأمر قيد الكتمان. ردة الفعل الشعبية الباهتة هذه كانت مفاجئة للقيادة السياسية، التي بادر مكونها المدني للتنصل عن المسؤولية، اتقاء للغضب الجماهيري المتوقع، قبل أن يؤكد رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان أن الخطوة كانت بعلم رئيس الوزراء.
رفض المكون المدني، ذو الغالبية اليسارية، بدا أقرب للتمنع، ومحاولة تسجيل موقف من كونه رفضاً صارماً، في حين أكد مقربون من السلطة أن اعتراضهم يتركز على نقطة أخذ العسكريين لزمام المبادرة، التي يجب ان تكون بيد المدنيين. على مستوى «الحاضنة الشعبية» للحكومة اتفق كثير من الناشطين على أن التناول العقدي للقضية الفلسطينية هو من ميراث النظام القديم، الذي تجب القطيعة معه، في حين اختار آخرون مبررات من قبيل الحديث عن خيانة الفلسطينيين، وبيعهم أراضيهم، أو الزعم بأن الإسرائيليين بعيدون عنا، ولم يضرونا بشيء، أو الاستشهاد الغريب بصلح الحديبية، أو بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) مات ودرعه مرهونة عند يهودي، وهي الأمثلة التي ضجت بها وسائل التواصل الاجتماعي. حقيقة أخرى وهي أن رفض التطبيع ليس جزءاً من شعارات التظاهرة الكبرى المزمع خروجها يوم، الأربعاء، رغم الخبر المستفز الذي تم تداوله الأسبوع الماضي عما يشبه «أمراً» أمريكياً للحكومة السودانية، بضرورة الإفادة بموقفها النهائي خلال مهلة أربع وعشرين ساعة.
الذي حدث هو سريان فكرة مفادها أن التطبيع هو الطريق الأسرع للبيت الأبيض، وعبره سوف يتحرر السودان من قيود قائمة الإرهاب، ومن العقوبات، وربما يتم إعفاؤه من الديون أيضاً، وهي الفكرة التي بدأت في اكتساب الشعبية، على مستويات مختلفة، حتى قبل سقوط البشير. الشعب الذي كان واقعاً فعلاً تحت تأثير الأزمة، ثم الصدمة الاقتصادية، لم يكن يستطيع أن ينتبه إلى أن هذه المبررات كانت بلا دليل.
كانت زيارة تل أبيب من أولى زيارات الرئيس سلفاكير الخارجية بعد انفصال جنوب السودان. بالمنطق ذاته كان الجنوبيون يظنون، أن ما كان يعيق تقدمهم وارتباطهم بالعالم قد زال بعد نشوء دولتهم التي ساهم الإسرائيليون بولادتها. مصير جنوب السودان في ظل تلك «العلاقة الاستراتيجية» معروف، وهو مشابه لمصير غيره من الدول الافريقية التي اتخذت التطبيع زلفى للاقتصاد. يشبه ذلك الفكرة الأخرى التي كانت شائعة إبان الاحتجاجات الشعبية على النظام السابق، فكان مما يثير حماس الناس، وينسيهم الأسئلة العقلانية عما بعد التغيير، تبشيرهم بأن أوضاعهم سوف تتغير إلى الأفضل بمجرد إزاحة البشير. اليوم وبعد عام ونصف العام تفاجأ الجميع، وعلى رأسهم رئيس الوزراء نفسه، الذي عبّر في تصريحات لـ»الفايننشال تايم» عن إحباطه من التعامل الأمريكي، بأن لا شيء تغير فعلياً، وأن السودان ما يزال مكبلاً اقتصادياً. الخطورة تكمن في أن الأمر لا يتوقف عند مسألة التطبيع. «عقيدة الصدمة» تخبرنا أن بإمكان الشعب حين يصل إلى مرحلة لا يكاد يجد فيها قوت يومه، أن يقبل بكل شيء إذا ما تم إيهامه بأن فيه خلاصاً له. هذا يفسر كيف أصبحت قضايا مثل بيع الموانئ, ومنح الأجانب حق استغلال الموارد، ورهن القرار الوطني، وطرح خيار انفصال الأقاليم، كيف أصبحت كلها أموراً قابلة للمساومة. أكبر دليل على أن هناك مشوشون لا يعون ما يقومون به، هو دفاع كثير من أبناء الطبقات المسحوقة عن سياسة رفع الدعم، أملاً في أن تكون مخرجاً لهم وتصديقاً للدعاية الحكومية التي تعد بتقديم التعويض لثمانين في المئة من الأسر السودانية.
صحيح أن التطبيع لم يكتمل بعد، لكن في المقابل تصعب الثقة بأن النظام الحالي سينتظر الحكومة المنتخبة حتى تقرر، كما صرح قادته، ولعلنا نكون، ما لم يستجد طارئ، في طور العروس التي وافقت مبدئياً لكنها تنتظر مهراً أكبر، كما قال الباحث وضابط الاستخبارات الأمريكي السابق، المتابع للشأن السوداني كاميرون هدسون.
كاتب سوداني