تُلزمنا الحياة بقواعد لا يلزمنا بها الفن، فإن كان إكرام الميت دفنه في الحياة، فإن إكرامه فنيا منحه حياة ثانية. يحدث ذلك كلما غادرنا نجم من نجوم الدراما، سواء على المستوى العالمي أو العربي.
منذ الرابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري تاريخ وفاة محمود ياسين، عاد إلى الشاشات بقوة، ليعيدنا لا إلى أيام تألّقه ونجوميته، بل إلى أيام صبانا ومراهقتنا، حين كان يمثل فارس أحلام فئة شاسعة من بنات العرب، كما كان نموذجا يحتذى به في التمثيل والأداء الصعب، لأدوار تنوعت بين الرومانسي والديني والسياسي.
عاد محمود ياسين الفتى الأسمر ذو الشفتين الرفيعتين، والعينين الذابلتين المعبأتين بالحزن والسحر، الشاب الذي لا ندري إن كان وسيما أم لا، لكنه كان جذابا وصوته قمّةً في الفخامة، بإمكانه أن ينقلنا بسهولة من واقعنا الثقيل لعالم آخر أقرب لعوالم الشعر والحكايات الجميلة. أكثر من فيلم عُرض مؤخرا شدني لأسباب لم تخرج من دائرة الحنين. إنّها أفلام أعجبتني في زمانها العتيد، حين كنت صبية، وحين كان النجوم نجوما، رغم اكتشافي اليوم كم كانت مليئة بالأخطاء، التي لم تلفت نظري آنذاك. طبعا للتجربة تأثيرها المباشر على مستوى تلقينا، لكن أيضا لأن مصر كانت شمسا مشرقة على الشعوب العربية قاطبة، وتأثيراتها بتأثير الضوء في الكائنات الحية، وقد حفرت مكانتها في أعماقنا تاركة بصمتها الثقافية على المشهد العربي ككل. كانت مصر أم الدنيا بالفعل، وكانت لا تتوقف عن تشكيل أذواقنا، ووعينا، وأحلامنا، وطموحاتنا وانكساراتنا أيضا. الذي حدث أني شاهدت بالصدفة فيلم «امرأة من زجاج» الذي لعب فيه محمود ياسين دور وكيل نيابة، وقد شاركته سهير رمزي بطولته، وتأملتُ في القصّة ومراحل تطور أحداثها، وكيف قُدّمت للمشاهد آنذاك. قصّة حب آثمة، تنتهي نهاية مأساوية بحيث ينتصر فيها الشر على الخير.
يموت الحق، ويُسجَن القانون، وتُســاق المرأة إلى قفصها الزوجي المخملي، بدون أدنى رحمة، مع ملاحظة أن الحدث الرئيسي من جريمة وشهادات زور وغياب لصوت الحقيقة، بني منذ البداية على طمع وشجع الحسناء، خريجة كلية الحقوق التي اختارت رجلا ثريا ذا سلطة زوجا لها، ولم تستوعب درس الحقوق إلا متأخرة.
تذكّرت أن ذلك النوع من القصص كان رائجا في تلك الفترة، بعد أن أصبحت النهايات السعيدة «دقّة قديمة» ذهبت مع أفلام بالأبيض والأسود. وانحسرت إلى النصوص الموجهة للأطفال، قبل أن تتعاظم عليها الشروط القاسية إلى درجة إخماد القصة الموجهة للطفل، فيتساوى وجودها وعدمها. لا أدري من قال إن «الكتاب مكان آمن للأطفال» لكن هل هو كذلك بالنسبة للبالغين؟ وإن كانت الكتب وما تحويه من قصص أماكن آمنة لنا، فهل يجب أن نعدّل من نهاياتها لتتناسب مع استقرار مشاعرنا مهما اهتزّت خلال سرد الأحداث؟ أم أن هذه التّسويات تتعارض مع معطيات الواقع؟
في القصّة التي بُنِي عليها الفيلم، وأثارت عندي كل هذه الأسئلة، يضعنا مؤلفها وهو المخرج نادر جلال نفسه، في مواجهة الحقيقة، فالحلال بيّن والحرام بيّن، ومع هذا يرسل رسالة مرعبة بموت بطله، إلى الأجيال المتيّمة بمحمود ياسين ملخّصها «هذه هي النهاية التي تنتظركم إن رغبتم في مواجهة الفساد».
يعرف القارئ أن ما يدور في القصّة ليس حقيقيا، ويعرف أنه بعيد عمّا يحدث في القصة، كون المسافة التي تفصله بين المتخيل مسافة آمنة، لكنه أيضا يدرك أنها تساعده على ترويض ردود أفعاله في المواقف المماثلة.
في رؤية مغايرة لما أراه، قد يقول أحدهم إن المقصود حقبة معينة، أو إن هذا يحدث في الواقع فلماذا يلجأ الفن والأدب لبيع الأحلام مستحيلة التحقق للأجيال الصاعدة؟ أليس من الأجدى والمفيد تدجينها منذ البداية بأدوات الترهيب المتنوعة، للحفاظ على سلامة الجميع؟ لكن هل هذه هي أطروحة الفن؟
الاعترافات المحرجة، البوح بالحقائق الصغيرة التي نفضّل إخفاءها، تمرير خطابات خجولة تنتقد وضعا سياسيا بعينه، هل يمكن أن تخدم الفن، إن لم يكن قبل كل شيء المرآة التي نرى فيها المشهد كاملا، بكل عيوبه، ونقاط ضعفه، ومواضع كسره؟ هل يمكن للفن أن يحيد عن أهدافه السّامية من أجل أهداف أخرى؟ نعم يحدث ذلك، فالفنان ليس ملاكا، لكن هذا ليس موضوعنا اليوم، فيجب أن لا يحشر الفن في المفاهيم الضيقة التي تقدّسه، ويجب عدم تحريره من قواعده الأساسية حتى يصبح فضفاضا لدرجة فقدان كل معانيه.
يعرف القارئ أن ما يدور في القصّة ليس حقيقيا، ويعرف أنه بعيد عمّا يحدث في القصة، كون المسافة التي تفصله بين المتخيل مسافة آمنة، لكنه أيضا يدرك أنها تساعده على ترويض ردود أفعاله في المواقف المماثلة. على هذا الأساس فهو آمن مادام أبطال قصته لا وجود لأشباه لهم في الواقع. مثل الأحصنة التي تطير، والحيوانات التي تتكلّم، والكائنات القادمة من الفضاء، إلى غيرها من الشخصيات المبتكرة من طرف الكُتَّاب. لكن الأمر يختلف تماما إن صادف وتطابقت شخصيات القصّة مع شخصيات في الواقع. في كل قصة من هذا النوع جرس إنذار يرنٌّ في الوقت المناسب. القارئ هنا ـ أو مشاهد الدراما ـ يقوم بتأويلاته، واسقاطاته الخاصة، إذ في لحظة ما يتراءى له أنه هو الواقع في تلك الورطة المحبوكة بإتقان، وأن عليه أن يسلك طريقا مغايرا تماما لبطلها لتفادي تكرار غلطته.
لقد أعطيت تفسيرات عدّة لهذه النهايات المأساوية، كنوع من التجديد، لمنح أي عمل أدبي أو فني صدقية عالية قريبة من الواقع، لكنَّ آخرين يرون أنها امتداد للنحيب والعويل والحزن، الذي تبع هزيمة 67، وخيبات مشاريع التغيير التي طُرِحت من طرف الحالمين بالثورة، وذهب آخرون بعيدا في قراءاتهم، حين اعتبروا صنّاع الدراما والمؤلفين والأدباء والشعراء مجرد أدوات ومواد، يتم تدويرها حسب الطلب، لأنها تفتقر لأهم عنصر لتحافظ على استقلاليتها، ألا وهو المال.
محتمل أن نعتبر كل هذه القراءات ممكنة، لكن هل يمكن السيطرة على الواقع بواسطة نتاج المخيلة؟ إذا كانت القطاعات الثقافية كلها تُصنّف ضمن الهامش الأضعف لاهتمامات كل سلطة، فهل يمكن الاعتماد عليها لتحريف مسارات الشعوب أو التأثير فيها سلبا أو إيجابا مثلا؟
الإجابات على تنوعها أو تضاربها، أعرف سلفا أنها ستصب في نقطة واحدة، للفاشلين قصصهم، وللناجحين قصصهم أيضا. يبقى الفاشل فاشلا لأنّه متشبث بمروياته، ويتسابق الناجحون في ما بينهم من أجل نجاحات أكبر للسبب نفسه. تلك المرويات التي هي في الغالب قصص هي سرّ انتكاسة الأول وانتصارات الفئة الثانية. حين ينتهي المرء لا يبقى منه سوى الحكاية. وهو لا يدري متى تفاجئه خاتمته، فقد تكون نهايته جيدة، وقد تكون بائسة، فالأمر كله متعلّق بمدى اجتهاده لجعل نهايته جيدة. لا يمكن إهمال النهايات. إنّها الزّاد الذي تتغذّى به الحكاية كلها، وإن كانت بداية كل قصة مهمة لفتح شهية متابعة اي عمل، فإنّ النهاية أكثر أهمية، كون تأثيراتها طويلة الأمد على المتلقي وعلى طريقة تفكيره.
أي نعم بدأت كلامي عن الراحل محمود ياسين، وعن فيلم ذكرني بموجة أفلام وروايات وقصص وأشعار انتشرت في سبعينيات القرن الماضي وأعتقد أنّها قدمت مقاييس جمالية مختلفة، كانت السبب المباشر في صنع نجوم يشبهون عامة الشعب، أقلّ وسامة، وأكثر حزنا، وانكسارا، وأكثر قدرة على تجسيد الوجع الشعبي بكل أشكاله جرّاء الأحداث التي تجاوزته. غير ذلك لا يمكننا الحديث عن محمود ياسين بدون الحديث عن نجومية تفرّد بها بسبب فخامة صوته، وجدية ملامحه التي تنضح بهدوء ورومانسية، جعلته رمزا لحقبة كاملة عاشها العالم العربي، وبموته اليوم نسجل دخولنا في حقبة جديدة، لا ملامح لها سوى الفوضى التي تمتد من أعماقنا إلى أبعد نقطة في العالم تنقلها لنا هواتفنا الذكية.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
دليمن