يبدو أن أزمة كورونا قد تعيد الدولة إلى سابق عهدها، الدولة التنين (القوية) التي توفر للناس الأمن مقابل التنازل عن بعض حقوقهم وحرياتهم، حتى لا تسود شريعة الغاب، التي عبّر عنها توماس هوبز بالقول: «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان» أو «حرب الجميع ضد الجميع»؛ الدولة التي تحتكر القوة وتستخدمها، لكي «توسع تفوقها، ومصادرها، ورقعة نشاطاتها، ومعرفتها، وسيطرتها على ما يحدث فوق أراضيها».
إن مفهوم الدولة، في واقع الأمر، يحيل إلى العناصر التالية: الرقعة الجغرافية ذات الحدود المعروفة، الشعب، السلطة، والسيادة، إلا أن التطورات التاريخية، التي حدثت بعد نهاية الحرب الباردة (1989) واتجاه العالم إلى القطبية الأحادية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، ومحاولة هذه الأخيرة عولمة نظامها السياسي والاقتصادي، ونموذجها الثقافي في العالم كله، إذ اعتبر آنذاك بأنه نهاية للتاريخ حسب فرانسيس فوكوياما، حيث يصبح العالم قرية صغيرة لا حدود لها، بدأت عناصر الدولة تتآكل، إذ أدى إلى انهيار «نموذج سيادة الدول» ومحو الحدود بين الدول، وإلى ضعف الهويات الوطنية، وتناقص القوة الاقتصادية للدول، نتيجة التوسع الكبير للأسواق العالمية، وبذلك انتقل ميزان القوة من الدولة إلى الشركة (العالمية/المتعددة الجنسيات) بالإضافة إلى ما سبق، انتقصت العولمة من سلطة الدولة أو أزاحتها، في كثير من الأحيان، عن طريق التدخلات الخارجية من طرف القوى الكبرى، تحت مبررات منها، حقوق الإنسان وحرية التعبير والرأي والمعتقد.
كما يتجلى ضعف الدولة أيضاً في تراجع دورها عندما غدت لا تستطيع الوفاء بتعهداتها، والقيام بالتزاماتها، وفق العقد المبرم بين الدولة والأفراد، فقد رفعت يدها، بصورة كبيرة، عن دعم الرعاية الصحية، ودعم السلع الضرورية للفئات الهشة، وقوضت العمل بمجانية التعليم.. وغيرها، في ما اعتبر ارتداداً كبيراً على دولة الرعاية والحماية، نتيجة عدم احتكارها للقوة، خصوصاً الاقتصادية منها، كما أشرنا من قبل، حتى صارت مجرد ظاهرة صوتية «تنزعج، تجادل، وتعلق، لكنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً». في هذا الصدد يقول باسكال بونيفاس المفكر الفرنسي: «لقد كان للدولة دائماً منافسون على الساحة الدولية، ولكن العولمة جعلت من هؤلاء اليوم، أكثر عدداً، وأكثر تنوعاً، وأكثر نشاطاً، وأكثر بروزاً» لأن الهدف الأساسي من وراء ذلك، حسب رأيه، هو «التحرر من سيادة الدول» لتصبح الشركات متعددة الجنسيات في ما بعد هي صاحبة الأمر، تضع ميزاناً جديداً «لعلاقات القوة» يكون، بطبيعة الحال، لصالحها، ويخدم تطلعاتها ومصالحها، بما في ذلك علاقتها مع الدولة النامية والفقيرة.
أثبتت أزمة كورونا أن كل دولة في أوقات الأزمات تنكفئ على ذاتها، منادية «نفسي، نفسي..»
هذه التحولات العالمية جعلت بعض الدارسين يقررون بأن الدولة القومية تعيش في حالة أزمة، كما ذهب إلى ذلك زيجمونت باومان، أو بتعبير أكثر دقة، أنها في حالة انحدار نهائي، ما حدا بالبعض إلى الافتراض بـ«أن المفهوم الفيبري (نسبة إلى ماكس فيبر) عن الدول كوحدات مناطقية أصبح الآن من الماضي».
اليوم، بعد أزمة كورونا، التي كشفت عن ضعف المنظومة الصحية في الدول المتقدمة، كما في الدول النامية، يعود النقاش من جديد حول إمكانية «عودة الدولة القومية» إلى سابق عهدها، لاسيما بعد النجاح الذي حققته التجربة الصينية في مجابهة الوباء، والاحتفاء العالمي بها، الذي اعتمد، في ما أعتمد عليه، على الرقابة والمقدرة على التحكم، وما كان لهذا النجاح أن يكون بهذا الشكل، لو لم تكن الدولة قوية. كما أثبتت الأزمة أن التعاون الدولي والمجتمع العالمي ما هما إلا معزوفة فقط، تُستدعى عند الضرورة لإخفاء القبح الموجود في العالم؛ فالحقيقة أن كل دولة في أوقات الأزمات تنكفئ على ذاتها، منادية «نفسي، نفسي..». على هذا الأساس يرى ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، أن العالم بعد أزمة كورونا سيتجه إلى أن يكون «أقل حريةً، وانفتاحاً، وازدهاراً» نتيجة استعادة الدول لوظيفتها وقوتها، حيث يقول: «وستصبح الدول أكثر سيطرة وقوة، وستتعزز الاتجاهات القومية». قد تغتنم الدولة هذه التحولات لصالحها، لكي تعيد بعض موازين القوة، وتسترجع بعض وظائفها، التي فقدتها بعد العواصف التي أحدثتها العولمة، ولعل من بين مظاهر عودة الدولة بعد ظهور جائحة كورونا، تدخلها في فرض حظر التجوال للحد من الوباء، وفرض غرامات على المخالفين لإجراءات العزل، ونزول الجيش وعناصر الشرطة في بعض الدول، بغرض التطبيق الصارم للحظر، كما أن الحكومات تدخلت في سياسة الشركات الصناعية الكبرى، من خلال إجبارها على توفير بعض الأدوات الصحية الضرورية (أجهزة التنفس الصناعي) كشركة جنرال موتورز العملاقة في أمريكا مثلا. فضلا عن ذلك، تحاول الحكومات الغربية، تمرير برامج اقتصادية ومالية إضافية، لإنقاذ اقتصادياتها من الكساد الحالي، حتى لا يتحول إلى كساد طويل الأمد.
غير أن اللافت للنظر أن فوكوياما المفكر الليبرالي، لم يجد غضاضة في امتداح عودة الدولة الفعالة من جديد هذه الأيام، إذ يرى بأنه لا سبيل للخروج من الأزمة الحالية، التي سيخلفها فيروس كورونا إلا بعودة الدولة، فهي، حسب رأيه، الوحيدة القادرة على فرض التعايش على كل من «اقتصاد السوق، والملكية الخاصة، ودولة فعالة» بهدف تقليم أظافر النيوليبرالية، والتقليل من الفوضى التي زرعتها، عن طريق سياستها المتطرفة.
ختاماً، قد تكون عودة الدولة دواء للأمراض التي استفحلت في جسد المجتمعات، وترياقاً من السموم المنتشرة في كيانها، لكن، في المقابل، قد تكون عودتها فرصة لعودة الديكتاتورية، ومن ثم، التضحية بالديمقراطية، والتنازل عن المزيد من الحريات.
كاتب جزائري
شكرا للكاتب علي هذا المقال المهم الذي يثير قضية خطيرة علي المجتمعات اليوم والتي تتعلق بالحريات و ابعاد إجراءات كورونا التي سلبت الناس الكثير من حقوقهم لاجل وباء اقل ما يقال عنه انه مبالغ فيه وليس بالقدر الذي يصور لنا اعلاميا ..
عودة الدولة الشمولية او دولة الحكم الجبري قد تكون محدودة المجال في دول بلغت اشواطا كبيرة من اجل الحرية ولكن ماذا عن حال الدول العربية تجاه الجائحة …
لكن من جهة اخري فان ابعاد جائحة كورونا لا تتعلق بالاجراءات المصاحبة لها فقط وكيف تستغل بعض الدول ذلك لاجل فرض قوانين واجراءات تحد من حريات الاشخاص او استغلال الجائحة لاغراض سياسية او تمرير مشاريع و اجندات معينة تطيل عمرها و تعيد انتاج نفس الانظمة السابقة … لكن الحقيقة انّ كل هذا سيصبح بلا معني لان كورونا كشف انّ هذا العالم لا يقف علي أرض صلبة وان عصر الاستشراف قد ذهب بدون رجعة وحل محله عصر اللايقين والشك وعدم الثقة والارتياح تجاه المستقبل وهذه هي الازمة الحقيقية التي كشفتها جائحة كورونا التي جعلت عالمنا وكانه يسير نحو الاحتضار ولنفترض ان دورة حياة عولمية جديدة ستبدأ بنهاية جائحة كورونا التي سيقضي عليه اللقاح المعولم ؟!
شكرا للكاتب. للاسف العديد من الكتاب العرب يرتكب مغالطة معروفة في علم الاقتصاد تسمى Nivana Fallacy وتحديدا في علم الاقتصاد المؤسسي المقارن. ملخص هذه المغالطة ان اتصاف الحلول الفردية اللامركزية بسوء التنسيق والانتهازية في اطار وباء كورونا، هذا بحد ذاته لا يثبت ان الخيار المركزي التسلطي اكثر كفاءة. فقد تحل الدولة جزءا من نقائص الفردية والاسواق الحرة وقد يزيد التدخل الحكومي الامر سوءا بسبب الفساد او غياب الحافزية البيروقراطية او نقص المعلومات. والادلة المتراكمة في الوطن العربي ترجح السيناريو الثاني، وبالتالي فان العودة الى الاخلاق الاجتماعية هي الحل.