في ظل التحديات الصعبة التي تواجهها العاصمة الفلسطينية القدس إزاء محاولات التطبيع والهرولة من جانب بعض الدول، تحتل السينما العربية المقاتلة مكانها كأداة تأثير قوية لقطع الطريق على الكيان الصهيوني الذي يستهدف الهوية والتاريخ ويسعى لتهويد القدس الشريف للقضاء على مسيرة القضية الفلسطينية العادلة وتعويق حركتها للانحراف بها عن الاتجاه الصحيح.
تبدأ الدورة الأولى من مهرجان القدس للسينما والإعلام الرقمي نشاطها الأسبوع المقبل وتستمر لنحو عشرة أيام تقريباً في عرض الأفلام الطويلة والقصيرة والوثائقية والتسجيلية، المتصلة فقط بمدينة القدس كملمح تاريخي وحضاري وإنساني يعكس عمق العلاقة بينها وبين الشعب الفلسطيني وبقية الشعوب العربية المؤمنة بعدالة القضية والرافضة للهيمنة الإسرائيلية.
ولدت فكرة المهرجان من رحم المعاناة اليومية للشعب المناضل القابض على جمر البطولة والتضحية والفداء، وقد تفتق ذهن السينمائيين المؤسسين في مدينة غزة التي تنطلق منها الفعاليات عن حيلة هي الأذكى لإشعال روح المقاومة السلمية وإيقاظ الشعور الوطني لدى الشباب العربي عن طريق التفعيل الثقافي للسينما عبر وسائل التواصل الاجتماعي باختيار مجموعة من الأفلام والمواد الدرامية ذات الخصوصية السياسية والوطنية والتاريخية وعرضها في إطار مسابقة رسمية يشارك فيها عدد كبير من السينمائيين العرب، كأعضاء لجنة تحكيم وعلى رأسهم رئيس اللجنة المخرج الكبير علي بدرخان بوصفه من أبرز المهتمين بقضية الصراع العربي الإسرائيلي والرافضين لعمليات الاستيطان والتهويد والهيمنة.
وقد وقع الاختيار على المخرج المصري بعد تفاوض استمر عدة أيام بين المخرج الفلسطيني سعود مهنا رئيس المُلتقى الفلسطيني والهيئة التأسيسية للمهرجان التي تضم شخصيات ثقافية وسينمائية بارزة.
ومع بداية الإعلان عن فعاليات الدورة الأولى رفع المهرجان شعار “القدس عاصمة أبدية لدولة فلسطين” وعزز شعاره بوضع برنامج سينمائي ثقافي شامل يتضمن كافة الإبداعات المتصلة بقضية القدس وعروبتها وانتمائها الحضاري وتاريخها العربي، وهي المرة الأولى التي يجري خلالها دمج النشاطات الفنية مُجتمعة في إطار واحد متجانس وهي بالقطع عملية مقصودة لتأكيد أن جميع الإبداعات تصب في مرمى القضية الفلسطينية وتدعم وجودها كحق مُكتسب لا يقبل المراهنة أو المساومة أو التفريط.
وعملاً بهذه القاعدة اتجهت إدارة المهرجان الدولي المهم إلى التركيز على الأعمال الفنية التي تطرح هذه المفاهيم بوضوح من غير لبس أو تمييع أو مواربة لتحديد الأطر والاتفاق على الثوابت الوطنية التي لا تقبل الشك وهي أن القدس عربية.
ولذلك لم تشأ لجنة المشاهدة المُختصة باختيار الأفلام قبول كل ما يصلها من نماذج إبداعية سينمائية إلا إذا كان متوافراً فيها كل المُعطيات المطلوبة منعاً للخلط بين الرؤية السينمائية العادية والرؤية المُعبرة عن القدس كحجر زاوية في بناء المهرجان ودلالته الثقافية بشكل أساسي، الأمر الذي أدى إلى رفض بعض الأفلام والمواد الدرامية الوافدة من عدة دول عربية لعدم ملائمتها وخروجها عن شروط القبول المُحددة سلفاً والمنصوص عليها في اللوائح والاستقرار فقط على ما هو مطابق للمواصفات الفنية والموضوعية والذي وصلت منه حتى كتابة هذه السطور مجموعة أفلام متباينة في مستوياتها وطرحها تتصل اتصالاً مباشراً بقضية القدس كتاريخ ومعنى ومرجعية فكرية.
من بين الأفلام المتميزة التي تم إدراجها في جدول العروض فيلم القدس “أبناء آدم” للمخرج مصطفى الشيعي وهو يمثل رؤية رمزية للصراع الدائر بين الطرفين الفلسطيني والصهيوني ويُعمل فيه المخرج أدواته الفنية التأثيرية بشكل جيد يجلي الحقيقة ويرد على المغالطات التي تتاجر بها إسرائيل لإقناع العالم بأن القدس يهودية!
وكذلك يأتي الفيلم الثاني “القدس من في القدس إلا أنت” متجاوباً مع طبيعة الإرث التاريخي للمدينة العتيقة وحاملاً عبقها وملامحها عبر بانوراما واسعة يعرضها الفيلم على إيقاع الموسيقى الداخلية لقصيدة الشاعر تميم البرغوتي المعنونة بنفس الاسم والمُكملة للمعنى الشكلي والضمني للصورة السينمائية الحية.
ويشارك المخرج بيتر فؤاد بفيلم “الغرفة 23” الذي يعد من الانجازات الإبداعية المُعتبرة الحاوية للكثير من الدلالات والإسقاطات السياسية المُتعلقة بخطط الهيمنة والاستبداد الصهيوأمريكي والتي بدأت بضرب العراق في بداية التسعينيات ولم تنته عند حدود الاعتداء اليومي على الشعب الفلسطيني وعمليات السلب والنهب للأرض والشجر والحجر، ولكنها لا تزال مستمرة في تهديد الدول والشعوب الآمنة والتآمر عليها.
وهناك أيضاً أفلام أخرى تقترب من التميز كفيلم “الطوق الأبيض” وفيلم “ستين عاماً” للمخرجة سري عباس، و”الوصية” و”ميلاد مر” و”عتبة الدار” و”اعتقال” وغيرها الكثير.
بيد أن المهرجان كما ذكرنا ينفرد بخاصية توسيع رقعة المشاركة والتسابق بين مبدعي الأفلام بأنواعها الروائي الطويل والقصير والتسجيلي والوثائقي، وبين المواد الفنية الأخرى كالدراما والموسيقى والكاريكاتير والفن التشكيلي، ولكن برغم هذا التنوع مثلت السينما بثقلها وتنوعها الثري الغالبية العظمى من الإسهامات وهو ما يحيل الفعالية الثقافية الشاملة إلى كرنفال سينمائي بامتياز يتفوق في عناصره وتكوينه على بقية الجوانب التي بدت ضعيفة ومتراجعة أمام سطوة السينما وحضورها القوي، وهو أمر يدفع إلى تساؤل منطقي يفرض نفسه .. لماذا هذا التزاحم؟ وما هي جدواه طالما أن المتوفر من الفنون والإبداعات الموازية ضعيف وغير كافي للمنافسة في مهرجان يبدأ خطواته الأولى بداية حثيثة نحو التمكن وإثبات الوجود؟
الإجابة متروكة لأصحاب الفكرة علهم يملكون الحُجة والمبرر وتُثبت التجربة العملية صحة نظريتهم وإن كانت المعطيات توحي بعكس النظرية المبتكرة أو المُبتسرة.