في إحدى المرات ندمت على أنني لست رساماً كاريكاتورياً. كان هذا بعد فيلم رعب لبيني غانتس، رئيس حزب “حصانة لإسرائيل” حينئذ. في هذا الفيلم القصير ثمة أرقام تتقافز على شاشة سوداء، وهذا هو عداد الجثث لسكان غزة (مخربون، باللهجة الإسرائيلية) الذين كان غانتس مسؤولاً عن موتهم في عملية الجرف الصامد. يتقافز العداد كالمجنون للحاق بمعدل وتيرة حصاد الجثث، وعند الرقم 1.364 يتوقف. كان الفم جافاً.
أردت حينئذ رسم جبل من الجماجم يقف إلى جانبه رجل عسكري ضخم، يشير إلى الغنيمة التي أحضرها معه إلى سوق الانتخابات الإسرائيلية. في نظري كان هذا هو الترجمة الحقيقية للفيلم المريض لغانتس: مجد على جبل من الجماجم.
كعادتي، فكرت بالأسئلة التي من شأنها أن تطرح بعد نشر رسم كاريكاتوري كهذا، من أجل تقديم علاج مسبق للضربة. فكرت، على سبيل المثال، بأنه سيكون هنالك من يهاجمون الرسم الكاريكاتيوري ويدعون بأن الأمر يتعلق بمنشور لاسامي؛ آخذين بالاعتبار حقيقة أن العسكري البطل سيكون لابساً الزي العسكري للجيش الإسرائيلي. لدفاعي، خططت للقول: “هذا غانتس وليس أنا الذي يتفاخر بالجثث التي جمّعها”.
فكرت أيضاً أنهم سيقولون: “بالإجمال، يدور الحديث عن مخربين”، وهي صفة تمنح شرعية لقتل دون ندم. ولكنني قدمت علاجاً مسبقاً للضربة، وخططت للإجابة: لنفترض أن القتلى هم كما تقولون… ولكن لو كان الأمر يتعلق بـ 1.364 ذئباً متعطشاً للدماء، فإن شخصاً عاقلاً لم يكن ليتفاخر حتى بقتل أحد منها.
لو فكرنا باللحظات الأخيرة لواحد أو واحدة من الـ 1.364 من هؤلاء القتلى، لغمرك ظلام دامس. إن تخيل الجدار الذي انهار على الجمجمة التي سحقت، والعظام التي تكسرت، والدم الذي اختلط بالرمال وبالرأس المقطوعة والذراع المقطوعة، بعيداً عن الجسد، والإصبع الذي اختفى في رمال غزة، والدم الذي سال، بداية بتدفق قوي وبعدها أخذ يضعف، رعب الموت في العيون.
“هذه هي عجلة العالم، توحد الفرحة الكبيرة والألم الكبير في نفس المكان، الرائحة اللطيفة للسوائل الصحية والقذارة المتعفنة للجرح الذي سرت فيه الغرغرينة. ولكي تخترع الجنة وجهنم يجب أن تعرف جسم الإنسان”، كتب خوزيه سراماغو. عين غانتس مسؤولاً عن جهنم في هذه المعادلة بما في ذلك امتياز واحد: شوهدت جهنم من خلال شاشات البلازما في مقر قيادته. إن الذهول والخوف هما من صرخات الألم والموت الذي يقترب تركها لسكان غزة. بعيداً عن العين بعيداً عن القلب.
أكتب هذه الأقوال إزاء ما يحدث في هذه الأيام في الضفة الغربية المحتلة، حيث غانتس هو المسؤول الأعلى هناك. أفكر بمرؤوسيه الذين يمنعون الفلسطينيين من قطف الزيتون بعد أن سوروا أراضيهم وأبقوا لهم عدة فتحات يغلقونها طوال أيام العام تقريباً. هؤلاء هم مرؤوسوه الذين يحمون مستوطنين ويحرقون أشجار الزيتون ويسرقون المحاصيل… مرؤوسوه الذين يحمون مستوطنين ينكلون بالرعاة في غور الأردن ويطلقون الكلاب على القطعان وعلى الرعاة. وكأنه لا يكفيهم هذا… فإن مرؤوسي غانتس يدمرون المساكن في الغور والسكان الذين ليس لديهم شيء يبقونه لرحمة السماء. من الجيد أن هنالك سماء.
لم تعد هناك أي علاقة اليوم لبطل الجثث، حتى في مكانته الرفيعة كوزير دفاع. نتنياهو يبعده عن ضجيج الاتفاقات مع الدول العربية، وما تبقى له هو التسريب، لأنه لم يعرف عن صفقة طائرات “إف 35” للإمارات. هذا مثل أن نخفي عن الشيف الرئيسي في قاعة الأفراح نوع الوجبة الرئيسية المطلوب منه إعدادها. هو خرقة بالية تماماً. بقي لي فقط أن أتساءل كيف أفترض أنا والعديد من أمثالي أن هذا الشخص بهذا التشويه الأخلاقي المغروس عميقاً في روحه يمكنه أن يحدث تغييراً. بقي فقط العودة إلى سراماغو وإلى عجلة عالمه: ها هو أحد الأشخاص تحول من وعد إلى خيبة أمل، وفي هذه اللحظة أصبح مسخرة.
بقلم: عودة بشارات
هآرتس 26/10/2020