تثير العمليات الإرهابية، التي تحدث في فرنسا، أصداءً أكثر حدة من المعتاد، فعلى الرغم من أنها ليست البلد الوحيد الذي يتعرّض لأعمال عنف مرتبطة بالتطرّف الإسلامي، إلا أنها تبدو ميداناً خصباً لطرح كل القضايا الأشكالية حول الإسلام السياسي: الغرب، العلمانية، التاريخ الاستعماري، الهجرة والتهميش.
هذه المجموعة من القضايا تُعالج عادةً من منظورين، الأول «أزمة الإسلام» في الدول الغربية، بوصفه ديناً يعاني مشاكل متعددة في التعامل مع المنظومات الديمقراطية العلمانية المعاصرة؛ والثاني أزمة الغرب مع الإسلام، على اعتبار أن الحكومات الغربية غير قادرة، أو غير راغبة بالتعامل مع تاريخها الاستعماري، والتصدي للإسلاموفوبيا والتمييز البنيوي ضد المسلمين. وعلى الرغم من أهمية هذين المنظورين إلا أنهما يحصران المشكلة دوماً في مواجهة مزمنة بين طرفين متناقضين، ويعزلانها عن سياق عالمي أكبر، قد تؤدي ملاحظته إلى طرح أسئلة أكثر فائدة عن المشكلة الإسلامية المعاصرة.
يمكن تعديل منظور «أزمة الإسلام» قليلاً بالتذكير أن كل نظرة شمولية للعالم، حتى لو كانت غير دينية بشكل مباشر، قادرة على إنتاج أنماط أيديولوجية شديدة التطرف. جماعة «الدرب المضيء» في البيرو مثال جيد على هذا، فقد ارتكبت هذه الجماعة الماركسية المسلّحة جرائم بحق المدنيين، لا يمكن مقارنتها إلا بممارسات تنظيم «داعش»، ومنها إعدام الناس رجماً بالحجارة، التدخّل في حياتهم الشخصية وسلوكهم الجنسي، التعذيب الوحشي والاختطاف. أما منظور أزمة الغرب مع الإسلام فيمكن نقده بالتذكير أن الغرب لم يستعمر الدول الإسلامية فقط، كما أن «مهمشي» الضواحي، ومن يعانون العنصرية والتمييز، ليسوا جميعاً مسلمين، رغم هذا لا يرتكب سكان الضواحي من أصول فيتنامية أو هاييتية أو توغوية، وهي كلها مستعمرات فرنسية سابقة، ذات أغلبية غير إسلامية، أعمالاً إرهابية، شبيهة بقطع رأس مدرس تاريخ، أو قتل رسامين في جريدة ساخرة.
بناءً على هذا فلا يمكن اعتبار الفعل الإرهابي ردة فعل ميكانيكية على ظروف معينة، مثل الاضطهاد الثقافي والتهميش الاقتصادي، بل هو دوماً فعل ذو أبعاد سياسية وأيديولوجية، تعمل لتقديم تفسير اجتماعي للمعاناة المفترضة لمرتكب الفعل، وإسباغ معنى ما عليها، وتعطي للفعل العنيف طابعاً سياسياً هادفاً، فتحوله من مجرد جريمة إلى ممارسة أخلاقية. الأيديولوجيات الإسلامية المعاصرة قادرة على تأمين هذا النوع من الغطاء السياسي والأيديولوجي، إلا أنها لا تعمل فقط بناء على تراث متأصل، بل ضمن ظرف عالمي معقد، يعطيها دوماً أبعاداً جديدة.
ما يفتقر إليه التحليل التاريخي أو الثقافي عن أزمة لدى كيانات متعالية، مثل الغرب أو الإسلام، محاولة استكشاف البعد السياسي للأعمال الإرهابية، فضمن أي شرط سياسي تعمل الراديكالية الإسلامية المعاصرة؟ وما القول السياسي لقاطعي الرؤوس، الذي يُغفل سماعه كثيرون؟
يسار نزع الأهلية
يأتي المتطرفون من بيئات متعددة، لا تنطبق عليها بالضرورة صفه التهميش، أياً كان تعريف هذا المفهوم، المتسم بكثير من الميوعة. ولكن إذا اعتبرنا أن «المهمشين» هم سكان الضواحي الفرنسية والأوروبية عموماً، فنحن لا نتحدث هنا عن عشوائيات عالمثالثية، بل عن مناطق كانت تاريخياً أحياء الطبقة العاملة، البيضاء منها والمهاجرة. المسلمون، مثل غيرهم من سكان هذه الضواحي، اعتُبروا دوماً خزّاناً انتخابياً لأحزاب اليسار. ولم تبدأ أسلمة قضية المهاجرين والعمال الضيوف، إلا منذ تسعينيات القرن الماضي، بعد أن التقى «المنعطف الثقافي» في الأيديولوجيا الغربية اليسارية بتقدم «الصحوة الإسلامية» عالمياً.
لطالما اعتبر اليسار، بتنويعاته المختلفة، نفسه ممثلاً عن فئات مُستغَلّة أو مظلومة، وحاول أن يبثّ الوعي بين هذه الفئات، إلا أنه اعتبر جمهوره دوماً كامل الأهلية: أفراد منتجون قادرون على اتخاذ موقف سياسي واعٍ، وبإمكانهم تغيير التركيبة الاجتماعية بأكملها، نظراً لموقعهم المركزي فيها. الأهم أنهم يستطيعون فهم وضعهم الاجتماعي بشكل مطابق، بعيداً عن «الوعي الزائف»، الذي تنشره الأيديولوجيا السلطوية، ما يجعلهم مؤسسين لتنظيمات سياسية وثقافات مضادة قادرة على التغيير.
قد تكون إحدى أهم أزمات المشروع السياسي للإسلاموية المعاصرة عدم قدرته على الاندراج، بشكل مرضٍ، ضمن النسخة الحالية من الليبرالية- اليسارية، رغم اعتماده عليها سياسياً، وهنا لا تعود مشكلته مع علمانية الجمهورية الفرنسية وحدها، بل حتى مع أكثر مجتمعات التنوّع احتفاءً بالتسامح.
يتسم منظور ما يسمى يساراً اليوم بسمات معاكسة: المنتجون يصبحون مهمشين وضحايا، وبعد أن كان التعويل على تحويل المضطهدين إلى ذوات سياسية فاعلة، تُثوّر الحيّز العام، صار يجب إنقاذهم من «الاعتداءت» التي يحفل بها هذا الحيّز. ومن هنا صار التجديف، ونقد الدين المنظّم، اعتداء على مجموعات مهمشة بأكملها، بعدما كان ركناً أساسياً من أي ثقاقة يسارية منذ عصر التنوير. الأكثر إثارة للانتباه، اعتبار الفعل السياسي للمهمشين، وهم في حالتنا منفذو الاعتداءات الإرهابية، رد فعل وليس عملاً واعياً مستنداً إلى أيديولوجية ذات تماسك واتساق معين. وكأن القتلة كائنات لا تمتلك وعياً، بل تعمل على أساس غرائز لا يمكن كبتها أو تنظيمها. يمكن اعتبار هذا أكثر من «طفلنة» الضحايا، التي يُتهم بها اليسار عادة، فهو أشبه بـ»حَيوَنة» لأبناء الضواحي، يصعب جداً عدم اتهامها بالعنصرية.
لو اعتبرنا أن المسلمين يعانون اضطهاداً هيكلياً، تمارسه الدولة الفرنسية، فالمفترض أن أيديولوجيا تستهدف معلمي المدارس ورسامي الكاريكاتير، وليس مسؤولي الحكومة وضباط الشرطة مثلاً، مضرّة بشدة بقضيتهم، ويجب أن تكون مواجهتها على رأس اهتمامات أي منظور يساري متعاطف. يبدو أنه لا توجد قضايا سياسية لأي فئة، من منظور ما يسمى يساراً اليوم، فالأهم هو إثبات القدرة على التفهّم، أي تعزيز النرجسية الأخلاقية، من خلال إظهار إمكانية المنتمي لأيديولوجيا «التنوع» على إبداء نوع من التعاطف، المتعالي والمُبطّن، مع أي فعل تقوم به «الضحية»، مهما كان وحشياً أو رجعياً، أو يعكس غباءً سياسياً. تغييب قدرة «الضحايا» على الممارسة السياسية، وطمس قولهم السياسي، جانبٌ من تفكيك شامل للحيز العام، ونزع السياسة من المجتمع، يساهم فيهما ما يسمى يساراً اليوم، بعد أن صارت أيديولوجيته، لأسباب بنيوية شديدة التعقيد، التيار السائد سلطوياً، عبر سلسلة طويلة من المؤسسات غير الحكومية، والشبكات الإعلامية والثقافية الكبرى.
ماذا يقول الراديكاليون؟
إذا اعتبرنا الراديكاليين الإسلاميين أفراداً واعين وكاملي الأهلية، أي رأيناهم أنداداً لنا، وتجاوزنا النظرة الاستعلائية تجاههم، فقد يظهر قولهم السياسي أكثر وضوحاً مما يظن كثيرون: إحداث تغيير سياسي وقانوني شامل، عن طريق الاعتراف بوجود طائفة، ذات مرجعية غير متسقة مع المرجعية الدستورية القائمة، تسعى لبلورة تمثيل سياسي ما لها. يمكن رصد استجابتين مهمتين لهذا المشروع: الأولى قانونية، نجدها في تصريحات سابقة لمسؤولين باكستانيين، طالبوا بتعميم قانون التجديف الباكستاني دولياً، وهو القانون الأقسى في العالم؛ وكذلك في تصريحات مشيخة الأزهر، التي دعت لسن قانون عالمي يمنع «الإساءة للأديان».
الاستجابة الثانية سياسية، ومثالها الأبرز الدور الذي يحاول الرئيس التركي أردوغان لعبه، بوصفه الوصي السياسي على مجتمعات المهاجرين المسلمين في أوروبا. زياراته الإشكالية السابقة لألمانيا ، وتصريحاته عقب الأحداث الفرنسية الأخيرة، تدّل على محاولة واعية لجني مكاسب سياسية من أفعال الراديكاليين الإسلاميين.
تعمل جهات إسلامية متعددة، بدون تنسيق كامل بالضرورة، على خزان بشري ممن يمكن تسميتهم، ببعض الاستعارة من بلاغة اليسار الهوياتي، «ذكوراً مسلمين غاضبين»، لكسب موطئ قدم سياسي، وهيمنة أيديولوجية في الدول الغربية، وهو مشروع طموح ، إلا أنه يعاني من إشكاليات أساسية.
أزمة إسلام «التنوع»
إذا كان الحديث عن أزمة الإسلام، بوصفه كياناً فوق تاريخي، لا معنى سياسياً له، يمكن التفكير بأزمة الأيديولوجيات الإسلامية في الغرب، ضمن سياقها المعاصر: مجتمعات «التعددية الثقافية». يبدو الإسلاميون المعاصرون، على اختلاف مشاربهم، مهتمين باستعارة عناصر كثيرة من خطاب اليسار الهوياتي، أو بالأصح إيجاد مكان سياسي- مؤسساتي لهم، مثل بقية مجموعات الهوية، التي تطالب بـ»التمكين» و»مراعاة الحساسيات». إلا أن الجماعات والمنظمات الإسلامية في الغرب ليست مجرد ممثل عن مجموعات هوية، بل تعمل أيضاً بوصفها مرجعية فوق دولتية، ولدى مقارنتها بحركات التظلّم المعاصرة، يندر أن نجد جماعة هوية أخرى تملك شرائع متكاملة، ومنظوراً ثقافياً كونياً منافساً لحاكمية الدول القائمة. ربما كان على الإسلاميين أن يحلّوا التناقض الأساسي في أيديولوجيتهم: كونية الدعوة الإسلامية وشموليتها، مقابل الخصوصية والنسبية الثقافية التي يفترضها طرحهم لذاتهم، بوصفهم ممثلي جماعة هوية في الغرب. هذا التناقض يضع الحلفاء المزمنين للإسلاميين أنفسهم، من يساريين هوياتيين ومعادين للإمبريالية في الغرب، في موقف محرج. فمن الصعب الدفاع عمن يدّعون تمثيل «أقلية مضطهدة»، وهم في الواقع يتصرفون بوصفهم أمناء على حقائق كونية، تمكّنهم من محاكمة الآخرين وأنماط حياتهم.
قد تكون إحدى أهم أزمات المشروع السياسي للإسلاموية المعاصرة عدم قدرته على الاندراج، بشكل مرضٍ، ضمن النسخة الحالية من الليبرالية- اليسارية، رغم اعتماده عليها سياسياً، وهنا لا تعود مشكلته مع علمانية الجمهورية الفرنسية وحدها، بل حتى مع أكثر مجتمعات التنوّع احتفاءً بالتسامح.
٭ كاتب من سوريا
انصح الكتاب والمفكرين بالترافع عن قياسات ومقارنات زئبقية، والاستفادة من التربية الصحيحة والحازمة،فلا تكرر وتنوه للخطأ لأنه قد يعلق في الأذهان ولا تعاتب الجلاد على فساد مكياله وكأنك تؤمن بأنه عادل،وعدم تكذيب جرائم حصلت للغير كالهولوكوست ما يجعل البشرية تكذب ما قد يحصل لنا من هولوكوستات محتملة.