غالبية بلدان أوروبا القارية، تضم أحزابا لليمين المتطرف قوية النفوذ.. وأحيانا تملي هذه الأحزاب قواعد الممارسة السياسية على الأحزاب المعتدلة، وتحظى بتأييد الفئات المستبعدة اجتماعيا. ولكنّ مارين لوبان مثلا لا تجاري الخطاب الرسمي الذي تصدره إدارة ماكرون، لأنها تعلم أن إثارة قضايا ثقافوية من هذا النوع الذي استُهلك وظيفيا وأيديولوجيا على مدى عقود، والتحمس المجاني له، القصد منه الهروب من القضايا الحقيقية للمواطن الفرنسي، أقلها المأساة الصحية التي يسببها انتشار الوباء، بموجات متتالية، وكذلك حركة أصحاب السترات الصفراء، التي تعود من جديد إلى الشارع الفرنسي. وهي كمثلها من الحركات الاحتجاجية الغاضبة على السياسات الحكومية، خمدت بسبب فيروس كورونا، وليس لأن هناك حلولا عادلة قدمتها الحكومات اليمينية المنحازة إلى البورجوازية على حساب فئات اجتماعية واسعة.
وينبغي حل المشاكل الوطنية بدل الدخول في متاهات غير محسوبة العواقب. ومحاولة جذب قواعد انتخابية، من خلال تبني الخطاب المعادي للآخر المختلف، هي مجرد مراهقة سياسية، لن يجني أصحابها سوى الخيبات السياسية، والخروج من الأبواب الصغيرة والملعونة.
عتبة هذا القرن تأسر المخيلة، ليبرالية لامبالية اجتماعيا، والمشاكل القديمة ذات الطبيعة العالمية مازالت قائمة. عسر الحفاظ على السلام والطمأنينة الدولية، والفوارق في الاقتصاد العالمي بين دول الشمال والجنوب، وتهديد التوازن البيئي. والإنسانية عاجزة في الوقت الراهن عن معالجة أكثر مشكلاتها حيوية، انطلاقا من مشكلة بقائها نفسها، أمام ما تفعله بها الأوبئة. وهي عاجزة تقنيا على القضاء على المجاعة في العالم. وملايين البشر يعانون الجوع والعطش وانعدام أدنى شروط الحياة الطبيعية. وأهوال كثيرة تصدر عن «منظمة الفاو» التي تناشد المانحين رفع مستوى الاستجابة، ولا أحد يهتمّ. بما يحيل على أنها عاجزة عن ذلك سياسيا. ومن المستحيل في العالم الراهن تحقيق الممكن، والإنسانية توشك أن تهلك بفعل الهستيريا السياسية، وجنون الحكام، الذين يقفون حجر عثرة أمام انبثاق سياسة كبرى لخلاص أرضي، تُترجم إلى المجتمع المدني الكوني، وأممية المواطنة. وهو التناقض ذاته الذي عبّر عنه أدغار موران، من حاصل أن الفوضى التي يوشك أن يغرق فيها العالم، تحمل في داخلها فرصته الأخيرة. لأن قرب الخطر يتيح حالات الوعي التي يمكن أن تتعدد وأن تكبر. وليس أسهل من نعت ما هو مختلف بالخطير والمرعب، وجعله في الأخير عنوانا لأفكار مسبقة. وبأثر رجعي، ليس بالجديد النظر إلى العالم الاسلامي من منطلق الصورة النمطية المكررة، عنصرية وثقافية، كما سبق ورآها أدوارد سعيد. وكل ما يحدث يُفهم ضمن مسارات الهيمنة والرغبة في التطويع، بدل تحقيق التواصل والحوار وترسيخهما حضاريا، واحترام الشعوب والآخر المختلف دينا وثقافة. فالهيمنة الغربية أريد لها أن تكون شاملة، على قاعدة رقعة الشطرنج الكبرى، التي نظّر لها بريجنسكي، وتدعمت من خلال أطروحات مناصري صراع الحضارات. والساسة خذلوا مفهوم الحداثة، واستخدموا بشكل سيئ مفهوم العلمانية، الأمر الذي يتطلب البحث عن وعي جديد، يعيد للإنسان وجوده. فمستقبل النظام العالمي الذي يحتمل نشوب الصراعات والحروب، بين دول ما بعد العلمانية، يفترض أن تتجه مجتمعاتها نحو سلام دائم، وتتفق على مبدأ سلامة كوكب الأرض، وتجنيبه كوارث الحروب والتدمير، عندما تتبنى جميعها القيم الإنسانية التي ترسخ التعايش السلمي والتجاور الدولتي والتكامل الحضاري. ولا يكون تغيير الوعي متحققا إلا بخطوات جدية في التخلي عن الذهنية الاقصائية لدى المواطن العلماني، ونشر ثقافة التسامح، وعدم إقصاء الدين من الفضاءات العامة التي هي ملك للجميع. فدور العلمانية هو وضع حد للعداء الديني لا للعمل الديني، لأنها تخدم فقط فئة غير المؤمنين، عندما تتجاهل شريحة كبرى من المجتمع بشكل يقوض القواعد الأساسية للاعتراف المتبادل الذي تقتضيه المواطنة التشاركية.
ولا يمكن أن تنجح فكرة تجريد المجتمع العلماني من العناصر الإيمانية. وقد أظهرت المجتمعات العربية خلال موجة الربيع العربي، أنها ترفض العلمانية المتصلبة، وأنها متمسكة بدينها، والحكام الذين فرضوا العلمانية أكثر من نصف قرن بتوصيات غربية، لم ينجحوا في تغيير وجهة هذه المجتمعات، التي تنكر إقصاء الدين من الفضاء العام.
محاولة جذب قواعد انتخابية، من خلال تبني الخطاب المعادي للآخر المختلف، مراهقة سياسية، لن يجني أصحابها سوى الخيبات السياسية
السياسة المتبعة في مجال حقوق الانسان ماتزال انتقائية، وأدنى استفزاز لن يكون من قبيل الصدفة. ونتيجته الصدام المتفاقم بين مشاعر الاستياء، لأنهم يدفعون إلى ظهورها بالقوة، ومن ثمّ يعودون لتبرير المصطلح. والتجاذب الحاصل بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية ليس جديدا، خصوصا في حال شحنه دينيا، والهامش المتاح للتعاطف مع الإسلام ضد حملات التشويه المتنامية في الأوساط الغربية هو هامش محدود جدّا، والمجال يضيق بالحديث أو حتّى مجرّد التفكير في عرض أي شأن إسلامي عرضا متعاطفا. وبات واضحا في العالم الغربي المعاصر أنّ كلّ ما يمتّ إلى دراسة الإسلام بصلة مشبع بالتوظيف السياسي، ويتمّ تناول الإسلام في الأوساط الغربية الأكاديمية وغير الأكاديمية بشكل أبعد ما يكون عن الموضوعية، عن طريق اعتماد مقاربات مبالغة في التعميم، تكشف حجم الكراهية الثقافية والتعمية الأيديولوجية. والعقلانية تفترض وجود معايير إنسانية وأخلاقية مطلقة، بعيدا عن الرغبات الاستهلاكية والرؤية الإمبريالية، التي تقود الغرب بحثا عن المصالح التي لا تنتهي. والحلّ يكمن في الاحترام المتبادل، الذي يفضي إلى الحوار الإيجابي. لأنّ في الاحترام ندّية ومساواة، واعترافا بخصوصية الآخر الدينية والثقافية. وكلّ حوار بين الحضارات أو الأديان، يجب أن ينطلق من الاعتراف بالاختلاف، ويتجنب الخطاب الثاوي للأصولية والتدجين، وطمس الهويات. والمهمّ في ذلك كلّه أنّ الأغلبية تتّفق على قيم التّسامح والتعايش الإنساني. ولديها تطلّعات ثقافية وأخلاقية واجتماعية وسياسية، ترنو بها نحو الأفضل، بعيدا عن التاريخ المعقّم، الذي تمّ بناؤه خدمة للأيديولوجيا والعنصرية ضد قوميات أو أجناس بعينها. وينبغي الإيمان بأن الثقافة الإنسانية هي التي ينبغي أن تسود وتكون لها الغلبة في النهاية.
كاتب تونسي
مقال مميز جدا. لغة أنيقة وثاقبة كالعادة . من الواجب تعرية ما يحدث ومرجعياته الايديولوجية. فعلا الاسلاموفوبيا خطاب مستهلك وماكرون يتاجر بما تبقى ويواصل مشروع المحافظين الجدد في امريكا الذين اعلنوا الحرب على الاسلام بعد احداث 11 سبتمبر تحت غطاء محاربة الارهاب. فليتحمل نتائج كلماته غير المحسوبة .
“وينبغي الإيمان بأن الثقافة الإنسانية هي التي ينبغي أن تسود وتكون لها الغلبة في النهاية” . صدقت دكتور لطفي وهذا هو المهم وما يجب التمسك به.
ماكرون لم تتحدث إلا عن المسلمين، وقد امتلأ خطابه بالهجوم على الإسلام. وعلى مدى عقود طويلة، ظل هاجس الإسلام والمسلمين في فرنسا حاضرا في خطابات العديد من الرؤساء الفرنسيين. ورغم أن قانون 1905 ينص على التساوي بين الأديان أمام القانون، ظلت الجالية المسلمة في فرنسا دون غيرها عرضة للتدخل في شؤونها الدينية والتعليمية. لماذا لا تشمل حرية التعبير سوى المقدسات الاسلامية . ويتم تجريم مجرد التعليق على الهولوكست او التشكيك فيها. مفارقة مفضوحة ومتاجرة مكشوفة لاغراض سياسوية رخيصة.