بالعودة إلى الماضي البعيد وللتذكير بأهم الإنجازات التأسيسية للمالية العالمية والاقتصاد العالمي ككل ننطلق بوضع النقاط على الحروف. ففي هذا السياق برزت مؤسسات البريتن وودز بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945 تحت إشراف وقيادة الدول المنتصرة في الحرب، وفقا لأجندات اقتصادية، سياسية وإستراتيجية بعيدة الأمد. ومن أبرز تلك المؤسسات نذكر صندوق النقد الدولي الذي أوكلت له مهام الحفاظ على الاستقرار المالي العالمي، والبنك الدولي الذي يدعم التنمية المستدامة في مختلف دول العالم. إذا انتهت الحماية العسكرية في البلدان المستعمرة، فكان البديل بعد ذلك الوصاية “الاستعمارية الاقتصادية” على بقية دول العالم من البوابة التجارية والمالية. فقد مثل آنذاك مؤتمر البريتن وودز الغنيمة الكبرى للدول العظمى من أجل اقتسام الكعكة وتوزيع أسواق المستعمرات الاستهلاكية قصد ترويج وبيع منتجاتها الصناعية والاستفادة من المواد الطبيعية الخام خاصة منها توزيع الثروات الباطنية والتنقيب عنها مثل الغاز والنفط وغيرها من المواد الأولية كالفوسفات والفولاذ والألومنيوم. ففي هذا الإطار سارعت أغلب الدول العربية في أواخر الثمانينيات لتطبيق الإملاءات الأجنبية بتعلة الاندماج في العولمة الاقتصادية العالمية وسياسات التحرر التجاري والمالي وفقا لأجندات صندوق النقد الدولي المعروفة ببرنامج التأهيل الشامل والإصلاحات الهيكلية والإدارية. في المقابل تفرض تلك السياسات الرأسمالية المنتهجة من قبل الدول المانحة والجهات المقرضة على الدول المستفيدة إجراءات اقتصادية ومالية صارمة تتماشى مع أجنداتها الخاصة المستقبلية. والاقتصاد الوطني الأردني لم يكن بعيدا عن تلك الأحداث والإملاءات والتدخلات من قبل تلك المؤسسات بتلعة “التأهيل الشامل والإصلاحات الهيكلية وتقوية القطاع الخاص” إذ كان في مجمله رهينة تلك الإملاءات الأجنبية المجحفة التي فرضت عليه الإسراع في تنفيذ إجراءات الإصلاحات الهيكلية التي تشمل جميع القطاعات لكن في باطنها كانت لا تتماشى مع رغبات الفئات الاجتماعية الأردنية. إذ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في أواخر الثمانينيات وانكماش النظام الشيوعي الصيني مع غياب القومية والاشتراكية في جامعة الدول العربية، تحول العالم كله إلى قطب اقتصادي واحد تديره بالأساس سياسة الرأسمالية العالمية التي تروج دائما لخصخصة القطاع العام والمؤسسات الحكومية والتدرج نحو تحرير الأسواق والأسعار والاندماج في فضاء التبادل التجاري الحر. فهذا الارتهان لمثل تلك السياسات الاقتصادية التحررية كانت له انعكاسات سلبية تراكمية على الأوضاع الاجتماعية لأغلب طبقات الشعب الأردني على مدار السنين الماضية إلى غاية الآن. ولعل الأحداث التي شهدها الأردن خلال 2018 كان لها الجزء الأكبر والأهم كنتيجة لتلك التوجهات التحريرية والمنحازة للنظام الرأسمالي العالمي والتي فرضت بدورها قيودا إضافية على الاقتصاد الوطني الأردني. فخرجت الجماهير الشعبية غاضبة على أوضاعها المعيشية، وكانت المطالب تتمثل في تحسين ظروف العيش نظرا لتردي الرواتب الشهرية والمطالبة بالتشغيل العادل وتكافؤ الفرص، بحيث أصبح الأردن يعاني من نسبة بطالة بلغت 13 في المئة سنة 2015 وهي في تصاعد، أيضا المطالبة بخفض الضرائب الجبائية على الدخل والمحروقات وتخفيض الأسعار قصد تحقيق التوازن بين العرض والطلب والقدرة الشرائية وزيادة الدعم في المواد الأساسية. كل تلك العوامل ساهمت في تعميق الجرح الاجتماعي بحيث تسببت في سخط شعبي لدى أغلب طبقات المجتمع الأردني نتيجة لتلك السياسات الليبرالية التي لا تراعي ظروف غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار. بالنتيجة تسبب ذلك الإرتهان خلال شهر نيسان/أبريل 2019 في سقوط حكومة هاني الملقي لتحل مكانها سياسة مماثلة تحت قيادة عمر الرزاز. لكن في المقابل الاحتقان ما زال متواصلا في ظل غياب كلي لمراجعة تلك السياسات المنتهجة مع صندوق النقد الدولي التي تسببت في أغلب الأزمات المالية العالمية والكوارث الاجتماعية وأحيانا إفلاس بعض الدول ووقع إغراقها في الديون على غرار دول أمريكا اللاتينية، التي كانت في مجملها ضحية إملاءات صندوق النقد والبنك الدولي.
وفقا لتقرير صندوق النقد الدولي الذي صدر سنة 2019 يصنف الأردن ضمن الدول التي تعاني من تباطؤ الإصلاحات الهيكلية الخاصة، بحيث كان تنفيذ الإجراءات في خصخصة قطاع التعليم والصحة لا يتماشى مع أجندة الصندوق. فتبين بالتالي الدور الذي تلعبه تلك المؤسسات المالية العالمية ليس فقط في الاقتصاد الأردني بل يتجاوزه ليقضي على التحركات الشعبية المطالبة بالزيادة في الأجور وحقوق الطبقات العمالية الكادحة التي تتحصل على أجر زهيد مقابل غياب أدنى حقوق التغطية الاجتماعية أو ضمان التقاعد والانتداب في الوظيفة مع تراكم مشكلة التشغيل بالتعاقد المؤقت. فذلك النهج الاقتصادي أضحى يولد نقمة بين مختلف الطبقات الاجتماعية كنتيجة لسياسة التهميش والمحسوبية والتفقير للطبقات الكادحة. كما أن تلك السياسات التي تدعم القطاع الخاص وتطالب بتقويته وتدعو للانفتاح والتحرر المالي والتجاري الكلي وبتحرير الأسواق والأسعار لا تساهم بإرساء العدالة الاجتماعية والسلم الإجتماعي والاقتصادي، بل تحد من دور القطاع العام وتساهم في الغياب الكلي لتلبية الحاجيات الأساسية أو التوزيع العادل للثورة الوطنية والاستقرار الاقتصادي. بالتالي كانت الإنجازات المقدمة من قبل الحكومة الأردنية قليلة جدا تجاه طبقة المثقفين والمعلمين وتجاه الطبقات الاجتماعية الكادحة والمحرومة من أبسط الحقوق وكان أيضا الاقتصاد الوطني ككل يعاني من إصلاحات ضئيلة جدا خلال العشرية الماضية خاصة وأن بعض تقارير تلك المؤسسات تشير إلى تباطؤ في التنفيذ وتسلط الضوء على هشاشة المنظومة المالية والمصرفية المحلية وتوجه إنتقادات لاذعة إلى السياسات الاقتصادية الأردنية المنتهجة من قبل الحكومة. فأبرز دليل على ذلك نذكر أهم المؤشرات الاقتصادية التي تقيم الصحة الكلية للاقتصاد الوطني الأردني بحيث سجل ميزان المدفوعات بالحساب الجاري، السلع والخدمات، صافي دولار أمريكي ارتفاعا كبيرا بين سنة 2012 و 2018 ليبلغ بذلك العجز أقصاه سنة 2014 سلبي بـ 9.460.14 دولار أمريكي. كذلك في مؤشر النشاط الاقتصادي، الإنتاج الصناعي لم يكن مرضيا كليا بحيث شهد انخفاضا أواخر العشرية الماضية ليبلغ سنة 2018 95.40 نقطة. أما أسعار صرف العملة المحلية مقابل اليورو فكان متذبذبا ومقابل الدولار ضعيفا ومستقرا بحوالي 0.71 دينار أردني. أما بخصوص البطالة فكانت بدورها ذات تأثير سلبي بحيث واصلت الارتفاع وتسببت في انفجار الاحتجاجات الشعبية خاصة بين سنة 2018 و 2019. أما بخصوص التضخم فلم يكن كارثيا بل كان معتدلا وسجل ارتفاعا طفيفا سنة 2018 بنسبة 4.46 في المئة. والأهم بين تلك المؤشرات الاقتصادية الأردنية خلال العشرية الماضية نذكر خدمة الدين على الدين الخارجي، الإجمالي من الضرائب المستحقة للدفع، بالقيمة الحالية للدولار الأمريكي بحيث كانت مرتفعة وفي صعود متواصل إذ بلغت العام الماضي 3.365.559.404.4 دولار أمريكي. أما صافي الاستثمار الأجنبي المباشر من ميزان المدفوعات بالقيمة الحالية للدولار الأمريكي فكان سلبيا تصاعديا وهذا يؤكد على أن الإنجازات الاستثمارية الجديدة قليلة والعوائد المالية للميزانية هزيلة جدا. أما الناتج المحلي الإجمالي فكان ضعيفا كما تؤكده المؤشرات الاقتصادية العالمية والنمو كان ضئيلا جدا بنسبة 2 في المئة سنة 2019 وأحيانا أقل وهذا يؤكد على ضعف الاقتصاد الوطني الأردني وأن الإصلاحات الهيكلية كانت ضئيلة على مدار تلك السنين الماضية. إجمالا يعاني ميزان الحساب الجاري الأردني بالدولار الأمريكي من عجز حاد وهذا يعد شللا حقيقيا وعائقا رئيسيا من أجل تحقيق الإنجازات المنشودة والتي كانت قليلة جدا وتنفيذ الإصلاحات الموعودة والتي بدورها أيضا كانت ضئيلة جدا أو أحيانا مفقودة.