بات من الواضح أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خسر الانتخابات الرئاسية لعام 2020 وتأكيدات رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي على أن نائب الرئيس السابق جوزيف بايدن ونائبته كامالا هاريس أصبحا الحكومة الانتقالية تؤكد الطريق إلى النهاية.
لكن الرئيس الخاسر وبعض أعضاء الحزب الجمهوري يرفضون الاستسلام للحقيقة المرة. ولجأ ترامب ومعسكره الذي يريد القتال حتى الرصاصة الأخيرة إلى لعبة التشكيك في الانتخابات. ولهذا السبب شن حملة تضليل صدقها أتباعه الذين قالت معلقة في مجلة “نيويوركر” (4/11/2020) إنه لو أخذهم معه إلى الهاوية لراحوا معه. وأشارت صحيفة “نيويورك تايمز” (5/11/2020) إلى حملة التضليل التي ظهرت من البيت الأبيض وشارك فيها اليمين المتطرف وأتباع نظريات المؤامرة مثل كيوأنون الذين طالما تحدثوا عن مؤامرة عالمية شيطانية تهدف للإطاحة بالرئيس الحالي. والغريب كما لاحظ معظم المعلقين في الصحافة الليبرالية الأمريكية أن التشكيك بنجاعة الديمقراطية الأمريكية وحملات التضليل لم تأت هذه المرة من روسيا، إيران أو الصين بل جاءت من ساكن البيت الأبيض. وكانت القيادة المركزية الأمريكية للحروب الإلكترونية قد حضرت عمليات هجومية في الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا لإحباط أي تدخل في يوم الانتخابات الأمريكية. وأكدت تصريحات القائم بأعمال وزير الأمن الوطني تشاد كالف على أن يوم الانتخابات كان هادئا من ناحية عدم وجود أي تحرك من قراصنة الإنترنت والمخربين لإحباط العملية الانتخابية.
لم تكن حاسمة
والمشكلة التي نجمت عنها نتائج عملية الثلاثاء أنها لم تكن حاسمة كما توقع منظمو الاستطلاعات الذين أعطوا بايدن تقدما كبيرا على ترامب، ولم يظهر الجدار الأزرق الذي يمثل الديمقراطيين أو ينهار الجدار الأحمر الذي يمثل الجمهوريين. ومن هنا وجهت انتقادات لمنظمات الاستطلاع، مع أن نتائجها تقديرية وتوقعات ولكنها اتهمت بالتقليل من حجم الضرر الذي تسبب به ترامب على أمريكا، في ضوء 68 مليون ناخب أمريكي صوتوا له. ولو نظرنا للصورة من بابها الأوسع، لرأينا أن بايدن حقق الكثير من ناحية كسر المناطق التي خسرها الحزب الديمقراطي، فقد استعاد ويسكنسن التي خسرتها هيلاري كلينتون وكذا ميتشغان، وجورجيا بعد الفرز والتي لم يفز بها أي مرشح ديمقراطي منذ حملة بيل كلينتون عام 1992 وكذا بنسلفانيا. وحصلت بطاقة بايدن- هاريس على أعلى الأصوات الشعبية في تاريخ الانتخابات الأمريكية الحديثة. لكن عدم قدرة الحزب الديمقراطي السيطرة على مجلس الشيوخ وخسارته مقاعد في مجلس النواب، تعني أن ترامب وتأثيراته على السياسة الأمريكية لم تنته. فلم تمت الترامبية لأن الحزب الجمهوري تحول إلى حزب متطرف اختطفه ترامب وأتباعه الذين لا يزالون يدافعون عنه مثل ليندزي غراهام، السناتور عن ساوث كارولينا، والذي فهم ان الولاء لترامب لا لقيم الحزب التقليدية هي طريقه للتمسك بمقعده، وكذا زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل الذي خرق الأعراف وعجل بالمصادقة على قاضية جديدة في المحكمة العليا قبل الانتخابات، ليزيد ثالثة على تعيينات ترامب في المحكمة الرئيسية في البلاد. ومن هنا فسيواصل الحزب الجمهوري وضع العقبات أمام الرئيس الجديد، إلا في حالة استعاد الغالبية في عمليات إعادة انتخابات.
بلد منقسم
وما أكدته نتائج الانتخابات الأمريكية هي أن أمريكا منقسمة على نفسها، وهي الخاسرة كما لاحظ توماس فريدمان في “نيويورك تايمز” (5/11/2020) ذلك أنها عانت أربع سنوات قبيحة مارس فيها ترامب الحرب على أهم عمودين للديمقراطية فيها وهما الثقة والحقيقة. وطوال هذه السنوات لم يحاول ترامب أن يحكم نيابة عن “كل” الأمريكيين وبل وقدم نفسه ممثلا للطبقة البيضاء العاملة التي تشعر بخيانة النخبة الليبرالية المتعلمة من أبناء المدن. مع أن ترامب لم ينفع هذه الطبقة غير المتعلمة في الجامعات إلا أنها تمسكت بالحلم الذي باعه لها وهي أنهم عادوا للسيطرة على أمريكا ولم تعد تلك المتنوعة التي يعيش فيها السود واللاتينو والآسياويون. كل هذا رغم ما تقوله الإحصائيات أن البيض في عام 2040 سيصبحون أقلية في أمريكا. لكن ترامب لم يحاول أبدا أو يتظاهر بأنه يمثل جميع الأمريكيين الذين انتخبوه، بل صمم سياساته لخدمة أتباع اليمين والإنجيليين وأبناء الضواحي والأرياف الحانقين على العولمة التي يعتقدون أنها خانتهم. ومن هنا فسيظل ترامب حاكما على أمريكا الحمراء. والغريب أن الحزب الديمقراطي كان يمثل الطبقة العاملة وآمالها. وحاول بايدن استعادة ثقة هذه الطبقة والتأكيد في خطاباته على أنها هي التي بنت أمريكا مع الطبقة المتوسطة وليس وول ستريت. ولم تكن رسالته كافية لإقناعهم في ظل حملة التضليل التي شنها ترامب ومعسكره على الحزب الديمقراطي حيث قالوا عنه المعسكر التقدمي/الشيوعي قد اختطفه.
الشعبوية باقية
وحديث المعلقين عن أمريكا المنقسمة هو صورة عما يحدث اليوم من أثر للشعبوية التي جلبت ترامب إلى الحكم وبوريس جونسون في بريطانيا والفلبين والهند والبرازيل. وتستخدم هذه جملة من الموضوعات التي تمس مصالح الناس المحرومين مثل الهجرة وعداء الإسلام والهجوم على المؤسسات الدولية كما فعل ترامب مع منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ. ومع محاولة بايدن جعل انتخابات 2020 استفتاء على ترامب وحكمه الشعبوي الفاشل، إلا أن التصحيح السياسي الذي أراده لم يحدث. وأثبت الأمريكيون مرة أخرى أن بلدهم منقسم بشدة، حيث تظل الشعبوية – رغم كل إخفاقاتها ووعودها الكاذبة – قوة جذابة ودائمة كما تقول ياسمين سرحان في “ذي اتلانتك”(5/11/2020) مضيفة أن الشعبوية الأمريكية حاضرة لتبقى. ومن بعض النواحي، فإن الانتخابات الرئاسية لعام 2020 ليست مجرد استفتاء على الترامبية، ولكنها اختبار لقابلية الشعبوية للحياة في جميع أنحاء العالم. ففي النهاية تجري هذه المنافسة وسط أزمة عالمية للصحة العامة – كابوس للشعبوية عزز الدعم لقادة المؤسسة، وعزز أهمية الخبرة، وطرح جانبا قضايا مفضلة للشعبوية مثل الهجرة. وعلى الرغم من هذه التحديات، كان ترامب قادرا إلى حد كبير على شن حملة مماثلة للحملة التي خاضها في عام 2016: الانتقادات ضد “الدولة العميقة” وتوبيخ الخبراء، والتهديد بتقويض الأعراف الديمقراطية التي تعتبر مقدسة مثل الانتقال السلمي للسلطة. تشير تنافسية السباق إلى أن هذه الاستراتيجية لم تكن فاشلة تماما وتتحدى المنطق التقليدي القائل بأن الشعبوية هي حالة عابرة ويمكن قلبها بسهولة، وأن عجزالشعبويين عن الحكم ينكشف، بمجرد وصولهم إلى السلطة. إذا كانت هذه الانتخابات تثبت شيئا ما فهي تثبت عكس ذلك: لا يزال بإمكان الشعبويين أن يطرحوا أنفسهم على أنهم غرباء سياسيون يمثلون “الشعب الحقيقي” ضد النخبة، حتى لو كانوا جزءا من تلك النخبة بلا منازع. وحتى لو فاز بايدن بأغلبية ساحقة فلم يكن هذا يعني نهاية الشعبوية في أمريكا أو مكان آخر، فهي ظاهرة سابقة لترامب، كما في هنغاريا والفلبين وفي أجزاء من المعارضة بفرنسا وإيطاليا وألمانيا. وعليه فإنجاز بايدن ليس كافيا لأن يدرج في كتاب مناهضة الشعبوية. وكما قال دارين أكيموغولو في “فورين أفيرز” (6/11/2020) فترامب لن يكون أول أو آخر زعيم شعبوي مالت فيه إدارته وعلى مدى أربعة أعوام رهيبة نحو الديكتاتورية، بل ونبعت من أمريكا المحطمة والمشاكل الكامنة فيها ويجب والحالة هذه فهمها ومعالجتها. فعدم المساواة في المجتمع الأمريكي وخلال العقود الأربعة جعلت أمريكا أرضا خصبة لولادة الحركة الشعبوية التي وصلت ذروتها بانتخاب ترامب في 2016. ولم يستطع الباحثون فهم السبب الذي أدى بالتطور التكنولوجي وظهور الكمبيوتر ومنصات التواصل الاجتماعي لينفع أصحاب الرأسمال وليس أبناء الطبقة العاملة. مما قاد لحالة خيبة أمل لدى هذه الطبقة وفقدان الثقة بالنخبة السياسية.
التشهير بالديمقراطية
وضمن هذا السياق كان ترامب قادرا على استغلال هذه المشاعر الغاضبة بتصنيع الغضب وزرع الكراهية داخل المجتمع الأمريكي، وهي مهمة سيواصل عملها حتى بعد خسارته للانتخابات. وكما قالت “واشنطن بوست” (6/11/2020) فقد اختار الرئيس التشهير بالديمقراطية الأمريكية وأخذ يروج لفكرة سرقة الانتخابات بدون دليل. وبدون تفكير التقطت شبكات التلفزة المؤيدة له الفكرة ونشرتها وجعلتها جزءا من الخطاب الرسمي العام وقال نيكولاس كريستوف في “نيويورك تايمز”(4/11/2020) إن ترامب يلبس لباس الوطني العظيم الحريص على الأمريكيين عندما يشكك بنزاهة الانتخابات ولكن هذه خيانة لبلدنا. وقال إن قيام القراصنة الروس في سانت بطرسبرغ بتخريب حكومتنا أمر سيء ولكن سيكون الأمر أكثر مأساوية عندما يفعل الرئيس الشيء نفسه من البيت الأبيض. وتساءل بول كروغمان في نفس الصحيفة بمقال نشره (5/11/2020) إن كانت أمريكا ستتحول إلى دولة فاشلة، مشيرا إلى العيوب في النظام الانتخابي الذي يمنح ولاية مثل وايومنغ التي لا يتعدى سكانها مئات الآلاف مقعدين في مجلس الشيوخ وعلى قدر المساواة مع ولاية كاليفورنيا التي يبلغ تعدادها 39 مليون نسمة. وأشار إلى أن المشكلة في مجلس الشيوخ الذي سيفرض شروطه على بايدن ويعرقل كما فعل في عهد أوباما الميزانية والقرارات المهمة. وسيكون بايدن قادرا على تعديل السياسة الخارجية التي بيد الفرع التنفيذي لكي يعيد التوازنات في علاقات أمريكا الدولية. ولن يكون لديه الوقت الكافي لديكتاتوريين “مفضلين” مثل عبد الفتاح السيسي أو محمد بن سلمان ولا حتى إغداق الهدايا على بنيامين نتنياهو وبدون مقابل. والمشكلة في “الرجل- الولد” كما يقول روجر كوهين في “نيويورك تايمز” (6/11/2020) أنه وضع نفسه ضد الشعب. وأكد أن هذا الرجل – الولد خلق كابوسا عندما زعم أنه فاز بالانتخابات قبل الإنتهاء من العد “فقد ماتت الحقيقة وديس على الشرف واستهزئ بالعلم ونشرت الفرقة وشوهت فكرة أمريكا حيث شق ترامب طريقه إلى عقول الأمريكيين عبر سلسلة من المواقف الخادعة والتلاعب بالحقيقة”. وأكد أن كلام ترامب يعكس “جنونا نرجسيا” لا يمكنه احتمال فكرة “طردت” التي طالما رددها في برنامجه الشهير “المتدرب”. وبدا ترامب غير قادر على التفريق بين التصويت بعد انتهاء العملية الانتخابية، وهو أمر غير قانوني واستقبال الأصوات وعدها ضمن جدول زمني. وقال كوهين إن ترامب لديه مشكلة عقلية أخرى وهي عدم قدرته على التفريق بين اللقطة العابرة، كأن يكون متقدما في العد بولاية والنتيجة النهائية التي تظهر خسارته. وحضر ترامب جيدا نفسه للحظة رفض نتائج الانتخابات مسبقا، فهو يردد فكرة التزوير في الأصوات المرسلة بالبريد منذ أشهر، مع أنه استخدم البريد في الماضي للتصويت. وهو يعرف أن الديمقراطيين الحريصين على صحتهم لا يريدون تأجيل أصواتهم ليوم الانتخابات. ولهذا كان حرص بايدن على عد كل صوت، مما قاد معلقين في “فوكس نيوز” لوصف إصرار المرشح الديمقراطي وحزبه على أنها سياسة تدمير شامل. والأمر ليس كذلك، لأن وقف العد كما يطالب ترامب وأنصاره يعني خسارتهم. وكشف عن نجاح استراتيجية بايدن في تقدمه المستمر في معظم الولايات التي كانت ترامب يسبقه بها.
ليلة طويلة جدا
وفي النهاية تبدو أجواء 2020 مثل ليلة طويلة ينتظر العالم أن تنجلي، فيما يحبس القادة أنفاسهم لخروج رئيس عمل جهده على تدمير كل علاقة غير تلك التي تقوم على الولاء المطلق وحول البيت الأبيض إلى مزرعة للعائلة والموالين، كما كشفت عدة كتب عن هذا. ولكنها تظل مختلفة عن أجواء الصدمة في 2016 عندما انتزع النصر المتوقع من هيلاري كلينتون. ويبدو أن “الساحر” استخدم كل حيله، حيث قال الأمريكيون أخيرا “كفى” للرئيس الذي لم يتوقف عن الكذب “22.000 كذبة” حسب “واشنطن بوست”. وقالوا لا للرئيس الذي تحالف مع اليمين المتطرف والنازيين الجدد وقال إنهم أناس طيبون. وفي النهاية هناك أمل بزوال غيمة سوداء طويلة ظللت العالم ومنح فيها ترامب منتهكي حقوق الإنسان وقتلة الصحافيين والأطفال الحصانة. لكل هذا لن يسارع السيسي لكي يكون أول من يهنئ الرئيس الأمريكي الجديد. ولا عزاء للديكتاتوريين. وكما قال كولبيرت كينغ بمقال في صحيفة “واشنطن بوست” (5/11/2020) فقد أحدث ترامب خرابا دائما في الهوية الأمريكية لا يمكن التسامح معه. لقد شجع الأمريكيين على الإساءة إلى بعضهم البعض. لقد أخرج أسوأ ما فينا لإرضاء مصالحه الملتوية. ونتيجة انتخابات 2020 لن تحسم أيا من هذا. ونجد أنفسنا في هذا الوضع اليائس لأن ترامب انطلق، منذ اليوم الأول من رئاسته، بقصد نقل ملكية الحكومة الأمريكية من الشعب إلى نفسه.