شعرية الستينيات: “تتغير الموسيقى… تهتز المدينة”

حجم الخط
0

1

عندما بدأت التجربة الشعرية الجديدة في بداية ستينيات القرن الماضي، تطرح نصوصها ومنظوراتها، التي أخذت تغاير السائد الشعري، وتعبر عن خروجياتها المبكرة على قالب الوزن، بما سماه البعض (قصيدة النثر) آنذاك كانت التجربة تضرب في أرض مجهولة بكر، عذراء التضاريس وغامضة الملامح في الكتابة العربية قاطبة. وقتها استنفرت، لمواجهة تلك التجربة، كل منظومات التقليد، والتقليد الحديث، لكي ينظم إليهم بعد ذلك عدد كبير من رموز التجديد الشعري أيضاً. تلك الرموز التي كانت تحصد معاركها (حيث كانت لم تزل محتدمة) مع التقليد المستقر. فقد كانت حركة شعر التفعيلة (الذي سماه البعض آنذاك بالشعر الحر) في أوج معركتها.
ويبدو أن الواقع الأدبي، في مجال الشعر خاصة، لم يكن يحتمل ثورتين تغيريتين متتاليتين معاً. في الوقت الذي كان المحافظون يترنحون تحت صدمة الثورة الأولى التي قادها السياب ورفاقه، بدا أن كتابة الشعر خارج الوزن ستكون إجهازاً كاملاً على هيكل القصيدة العربية التقليدية، وتدميراً لعناصرها البنيوية الأولى، خاصة أن الاندفاعة التي بدأ بها محمد الماغوط ورفاقه نصوصهم، بعد مقدمة أنسي الحاج الشهيرة في كتابه الأول «لن» إضافة إلى الإسهامات المبكرة الجريئة لأدونيس، وحماسة مجلة «شعر» كل ذلك أشار إلى الذهاب برغبة جارفة في التغيير إلى الحد الأقصى، بحيث بدت أطروحات حركة التفعيلة تشبه المأزق. فهي تجربة لم تتوضح، ولم يستقر لها عنصر التأسيس، بالمعنى التقني للحركة. لذلك فإن المناخ كان مهيأ لأن يجعل القارئ يضطرب أمام هذه الاحتدام، القارئ الذي «لم يفق بعد من صدمة العمود المطوّر، فكيف بهذا الشعر الذي لم يلتزم عموداً على الإطلاق) حسب تعبير الناقد العراقي عبد الواحد لؤلؤة. وعليه فإن الخروجيات الشعرية ستواجه لحظتها رفضاً واسعاً يشارك فيه، بطبيعة الحال، رموز شعر التفعيلة، لتظل التجربة الجديدة (في حركتها الثانية) هدفاً للهجوم المزدوج، القديم والحديث في آن.
النموذج القديم: لأنه يرى الشعر في نظام القصيدة التقليدي وشروط الخليل بن أحمد وزناً وقافية، ولا بأس ببعض الاجتهادات التي قدمها شعر (النهضة) الذي لم يخرج عن ذلك القانون.
النموذج الحديث: لأنه عندما طرح دعوته للتجديد الشعري، أكد على تحرره من القافية والعمود وقيود البحور، بدون أن يتخلى عن الوزن كنظام إيقاعي يحقق الشرط الموسيقي الخارجي لقصيدة القالب، وبذلك يكون قد وصل إلى الشعر (الحر) بما فيه الكفاية. ولكي يثبت تمسكه بهذه الأطروحات «وحسن نيته الأدبية» سيرفض أي (خروج) أكثر من ذلك، وسيعتبره تخريباً للشعر العربي، كنص يأتي من التراث ليغني التجربة الحديثة من جهة، كما أن الخروج من جهة أخرى تخريب لمشروع التحديث الذي تعمل عليه تجربة الشعر (الحر).
ولن تتردد نازك الملائكة في مجابهة الخروج عن الوزن، منسجمة مع تنظيرها المبكر «والمهم» لما سمَّته (الشعر الحر). فما دامت لا ترى (وجهاً يبرر ميل الناشئة إلى أن يكتبوا شعرهم كله بالأوزان الحرة) طيف يمكنها أن تقبل التخلي الكامل عن هذه الأوزان؟ وسرعان ما ينحرف أي حوار أدبي محتمل، لنسمع نازك الملائكة تقول في ما بعد، عن تجارب الشعر خارج الوزن، إنها (تحقير للشعر، وللغة العربية وللجماهير العربية والأمة العربية، وهو من شأنه بلبلة القراء وتشويه الحقيقة، لأنه اعتداء وتحقير للذهن الإنساني الذي يحب بطبعه تصنيف الأشياء وترتيبها).

2

على الرغم من أن حواراً نقدياً شاركت فيها أطراف شعرية من شتى الاتجاهات الفنية، في محاولة كما يبدو، لبلورة بعض المفاهيم الشعرية، إلا أن الأمر لحظتها كان يتجاوز المفاهيم الأدبية، إلى طبيعة المرحلة السياسية وعناصرها الفكرية. ففي غمرة الاندفاعة القومية والحماس الذي انتاب جميع الأطراف، تدخلت المنظورات الأيديولوجية لتمنح الموقف الأدبي (مشروعيته) وهي لم تكن بالضرورة خالية من التعسف. فقد كان المدّ القومي العربي من الاكتساح بحيث تتاح له الفرص كاملة لأن يعتقد (بانحراف) بعض المنظورات الفكرية والسياسية، في مقابل بعض الاجتهادات الأيديولوجية المتواجدة في الساحة العربية آنذاك. ومقابل اتهام (الشعر الحر) من قبل عباس محمود العقاد وصالح جودت وغيرهما كثير، بأنها مؤامرة شيوعية ضد الثقافة العربية، ستكون الكتابة خارج الوزن مؤامرة إمبريالية ضد الأمة العربية، كما تفضلت الشاعرة والناقدة نازك الملائكة وغيرها. ولن يعوز الاتهام الدلائل، التي ستكون أكثر استثارة للشك بالنسبة لمن يرتبط اسمه بحزب مثل (الحزب القومي السوري) وستكون مجلة «شعر» معرضة بالدرجة الأولى للعديد من الشبهات بسبب كون عدد من كتابها ينتمون لذلك الحزب، الذي شكل آنذاك تعدياً سافراً على مسيرة القومية العربية، الشمولية، ومشروعها الأثير للوحدة العربية، وغير ذلك. وبناء عليه أصبح شعراء مجلة «شعر» هدفاً مكشوفاً للاتهامات والمحاربة، تحت شعارات فكرية وسياسية، لم يجد أصحابها مبرراً موضوعياً لمراجعتها طوال الوقت، حتى بعد أن أثبت بعض جماعة «شعر» تخليهم عن ذلك الحزب، وإعلان استقلالهم الفكري (يوسف الخال من 1949 وأدونيس بعده بقليل) ما سيؤكد في ما بعد (وبلا هوادة) أن موقف التشويه والمحاربة ضد تلك التجربة الشعرية، لم يكن متصلاً بوهم المشكل الأيديولوجي دائماً. إنما يتجاوزه إلى الجذر الحقيقي للتجربة الشعرية الجديدة في عمقها البنيوي (اجتماعياً / فكرياً / حضارياً) وعلى ما يمكن أن يمثل تهديداً جذرياً لطريقة التفكير ومسلماتها، في نصه الأول وليس في تحولاته وأصدائه المتوارثة فقط. فمثل هذا التهديد يمسّ مباشرة طبيعة العقل السائد، ليس لأن اجتهادات شعراء التجربة الجديدة الفكرية مكتملة وصائبة، ولا لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها، لكن لأن وضع التراث الشعري، بكل تجلياته الثقافية، تحت سطوة التغيير، يتجاوز مجرد المغايرة في الشكل، فإن تغير الإيقاع الشعري يطال رمزياً تغيراً أكثر عمقاً. مثلما قال «أفلاطون» قديماً (عندما تتغير الموسيقى تهتز أركان المدينة).

لن تتردد نازك الملائكة في مجابهة الخروج عن الوزن، منسجمة مع تنظيرها المبكر «والمهم» لما سمَّته (الشعر الحر). فما دامت لا ترى (وجهاً يبرر ميل الناشئة إلى أن يكتبوا شعرهم كله بالأوزان الحرة) طيف يمكنها أن تقبل التخلي الكامل عن هذه الأوزان؟

3

إن المناخ السياسي المهيمن آنذاك، وجد في تلك الاجتهادات التي صدرت عن شعراء مجلة «شعر» وملابساتهم الحزبية، أخطاء غير قابلة للغفران، بل إنها مبررات ستتيح المجال لمحاولات التصدي لهؤلاء الشعراء، والإجهاز على تجربتهم. وإذا كانت تلك المحاولات لم تحقق أهدافها كاملة، فإنها استطاعت أن تجعل من تجربة الخروج عن الوزن مشروعاً متعثراً آنذاك. وهذا ما يفسر لنا الآن، ما يمكن أن نعتبره حال الكمون الطويلة التي لجأت إلى تلك التجربة. منذ منتصف الستينيات. وربما أتاح هذا الكمون للجيل اللاحق أن يتعرف، بهدوء وتأمل، على هذه التجربة، لتتفجر في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، على أيدي شباب جدي يطلعون بتجاربهم الجريئة في كل أرجاء البلاد العربية، بدون استثناء، ليشكلوا حركة انتقال عميقة شعرياً، ليس فقط في حقل قصيدة التفعيلة ونص الحداثة الأولى، لكن في ذروة المرحلة التي كمنت بالشعر الخارج على الوزن. وقد تجلى (في ذلك الهدوء التأملي الطويل) في عدد رئيسي مؤسس من التجارب الشعرية، لتنعطف هذه الحركة نحو فضاء شعري، استطاع أن يتسلح بكل ما يصدم من أدوات التعبير الأدبي، فناً وأسئلةً، وبما لا يقبل المهادنة، لأنه سيذهب بحرياته إلى أقصاها، مشتملاً على موهبة ومعرفة، تصدران عن معاناة حياتية وفكرية، أرأف منها الموت المحقق، ما سيجعل هؤلاء الفتية الجدد، من القوة والثقة والخبرة والحرية، بحيث تدفع جميع المنظومات المحافظة والتقليدية والتقليدية الجديدة، على صعيد الفن والفكر، تقع في ارتباكات جوهرية، كمن لم يتوقع الكلام في هذا الصمت المهيمن، فيباغت بالعاصفة.
وعندما تعيد تلك المنظومات ترتيب أسلحتها، لن تجد جديداً تقوله، فتعود لتجتر ما قالته سابقاً، عن جماعة مجلة «شعر». أكثر من هذا، أن المنظومات ذاتها سترجع لتكيل الاتهامات القديمة نفسها للشعراء الذين بدأوا مع تجربة التجديد بالذات، بل إن هؤلاء الفتية أعادوا اكتشاف في شعراء تلك التجربة، الآباء المبجلين لمستقبل الكتابة الجديدة. كل ذلك جعل الذخيرة الفاسدة التي يعيد التقليديون والمحافظون استخدامها في معركة هزلية، لم تعد تغري سوى بالرثاء.
قديماً، كمثال، حدث أن الناقد المصري رجاء النقاش نشر في مجلة «المصور» كلاماً استهدف فيه رأس تجربة شباب الشعر المصري آنذاك، فأعاد تنكيله بجثة الحزب السوري القومي، مستحدثاً أشلاء أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال، كما لو أن مصادفة السيرياليين الموضوعية جعلت النقاش ينشر كلامه المستحدث في المكان نفسه الذي سبق لصالح جودت أن نشر فيه هجوماً قديما على أدونيس. وما على أصحاب الذاكرة الرصينة، إلا العودة إلى رد رجاء النقاش على صالح جودت بالذات مدافعاً عن أدونيس بالذات، المنشور في كتاب «أصوات غاضبة» 1970).

4

يبدو أن الذين يجترون الاعتراضات نفسها على تجاوز القانون الوزني للشعر، يفتقدون للحس التاريخي في أبسط صوره، فهم لا يقدرون أن يعتبروا بكل هذه السنوات التي تضاهي الخمسين، وبكل التحولات الفكرية والاجتماعية والشعرية، ومعطيات النص الشعري العربي، والاختراقات النقدية التي تتمثل في مساءلات أكثر من جيلين كاملين لتراثهما الحديث. كل هذه الظواهر لم تمثل لأصحاب الاعتراضات التقليدية أي مدلول تاريخي جدير بالتأمل والرصانة الفكرية، تلك الرصانة التي يبدو أن على الشباب أن ينصحوا بها شيوخهم الآن.
* من جهة أخرى، نعتقد بأن ما يدفع التقليديين للذهاب إلى شعراء مجلة «شعر» مرة تلو الأخرى، هو ذلك الاختلاف الكبير في الملابسات التي ترافق الحركة الشعرية الجديدة، والطبيعة الفكرية والاجتماعية التي تتميز بها تجربة عدد كبير من الشعراء الجدد على امتداد الخريطة العربية، مما لا يترك مجالاً لأي اتهامات وتشويهات فكرية أو سياسية، خاصة بعد الانهيارات الأسطورية التي خلخلت الواقع العربي في الثلاثين سنة الأخيرة على شتى الأصعدة. وليست الهزائم والحروب الهزلية إلا تجلياً مباشراً لتلك الانهيارات. هذا المشهد أعطى للجيل الجديد من الشعراء طبيعة ليس صعباً التكهن بمصداقيتها المأساوية، وعلى الرغم من كافة المآخذ النقدية والأدبية التي يمكن مصادفتها في أي تجربة مماثلة، على أنها مآخذ لا تتجاوز ذلك لتطال المبادئ والانتماءات والأيديولوجيات وما إلى ذلك. مما تعرضت له رموز التجربة السابقة في ستينيات القرن الماضي، شعراء «شعر» خاصة (وهي الملابسات التي سوف نتحفظ على طبيعتها الأخلاقية من الآن وإلى الأبد).
* الشعراء الجدد، في معظمهم يصدرون عن تجارب نضالية تقدمية، واضحة المعالم والرؤية، أو يصدرون عن رفض راديكالي لكل ما من شأنه أن يصادر حريتهم الفكرية والفنية، معتبرين الشعار السياسي ابتذالاً لن يقع الشاعر الجديد في شراكه. وفي هذا الجيل سوف يتبلور امتزاج خبرة المعرفة بتآلف الموهبة في فعل الحرية، حيث يتمرد على كل أشكال المنظــومات على الصعيد الأيديولوجي والموقف من الموروث.
* في مثل هذا المناخ الذاتي لتجربة الشعر الجديد، ستأتي الظروف الموضوعية للواقع العربي لتؤكد المشروعية الأدبية والتاريخية لهذه الحركة. ففي هذا الانهيار الفاجع الذي يتدهور إليه (وفيه) الراهن العربي، تبدو حركة النص الشعري الجديد، بكافة تجلياته الفنية والرؤيوية ظاهرة تنهض بشهوة التعبير العربي من رماد بارد، يكاد أن يصبح هباءً. ولعل كل هذه المتغيرات التاريخية ستعطي الحركة الشعرية العربية طابعاً حضارياً ينبغي أن تكون جديرة بحمل عبئه.
وسوف يستوي أمام هذا الجيل، الموروث القديم والحديث معاً، ليكونا عرضة للمساءلة والشك بلا هوادة.

٭ شاعر بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية