في هذا المقال، سنقف عند أهم المفاهيم المؤسسة للمشروع السيميولوجي التأويلي لدى أمبرتو إيكو. يتعلق الأمر بشعرية العمل المفتوح، والتأويل والتأويل المفرط، والمؤلف التجريبي والقارىء النموذجي، ومفككين بذلك أهم مبادئ النظرية الأدبية التأويلية لهذا الرجل، الذي شغل الدنيا بأفكاره وطروحاته كسيميولوجي منبهر بالتأويلية أشد الانبهار.
شعرية العمل المفتوح
في السياق السيميولوجي للقراءة، تطرق أمبرتو إيكو إلى مسألة الانفتاح ومدى علاقته بالشعرية، بحيث إن أي عمل فني ـ في نظره ـ يفترض شرطا أساسيا، بموجبه يختزل مجموعة من الدلالات في دال واحد، إنه شرط الانفتاح. ومن أجل تحقيق هذه الكثرة والتعدد الدلاليين، كقيمة جمالية، يتوسل الكاتب باللاشكل، وبالفوضى المبدعة، وبالصدفة المدركة، أو كما جاء عند إيزر باللا تحديد (مجموع البياضات والفراغات التي توجه القراءة) وعلينا نحن القراء أن ننجز جدلا ما بين العمل الأدبي وانفتاحه. والمقصود بالعمل في هذا المقام، موضوع يتكون من مجموع العناصر البنيوية التي تمكن من نجاح التأويلات الممكنة والمحتملة، ولبلوغ هذا الأفق التأويلي لابد من بويطيقا خاصة للعمل. لأجل ذلك نجد إيكو يخصص مبحثا بأكمله لبويطيقا العمل المفتوح في كتابه الشهير «العمل المفتوح» L’œuvre ouverte يتناول فيه مفهوم البويطيقا في ارتباطه بعنصر الاستقبال أو التلقي.
لا يعتقد أمبرتو إيكو بالدراسات، التي تتوقف عند حدود الموضوع، أو البنية فقط، ضاربة بذلك، عرض الحائط، طرائق الاستهلاك ـ التلقي، بل على الوعي البويطيقي أن يستحضر القطب الفني (نص المؤلِّف)، والقطب الجمالي (التحقق الذي ينجزه القارئ) معا، بتعبير إيزر (أنظر فولفغانغ إيزر: فعل القراءة، نظرية جمالية التجاوب في الأدب). فالمؤلِّف لا يمكنه البتة أن يتجاهل المتلقي. إنه يدرك تمام الإدراك، أن هذا المتلقي سوف يؤول عمله واعيا بتعدده الدلالي، إذ «لا يوجد معنى حقيقي للنص»، على حد قول بول فاليري، بل إن شيخ الرمزيين مالارمييه يذهب أبعد من ذلك، حينما لوح قائلا «إن تسمية الأشياء، تذهب ثلث أرباع متعة النص».
معنى هذا أن جزءا كبيرا من العملية الإنتاجية الأدبية، ترتكز، في انبنائها، بشكل كبير على الاستعمال الرمزي، كتعبير غير محدد في نظر إيكو، بما هو تعبير مشرع على تفاعلات، وموتيفات دلالية وتأويلات متجددة باستمرار. نلاحظ إذن، كيف إن بويطيقا أي عمل، تقوده حتما إلى انفتاحه، وكلما أفرط في انغلاقه، جعل أفقه أكثر انفتاحا، يقول إيكو، «لا شيء أكثر انفتاحا من النص المغلق، لكن انفتاحه هو عمل حركية خارجية، إنها طريقة استعمال النص». وإذا كان الانفتاح، هو دينامية أي عمل أدبي، فإن هذه الدينامية تشمل القارئ بدوره الذي يدرك جيدا، أن عملية القراءة ستؤول الموضوع مستحضرة تعدده الدلالي. والتأويل عند أمبرتو إيكو، كما يقول سعيد يقطين «هو الترهين الدلالي لكل ما يريد النص قوله كاستراتيجية، من خلال إشراك قارئه النموذج» (سعيد يقطين: جماليات التلقي عند إيكو، مجلة «آفاق المغربية»، عدد خاص بالتلقي، 1987).
والحاصل، إن بويطيقا العمل المفتوح، جعلت المؤول، النواة النشيطة لمجموع العلاقات، التي من خلالها، يحدد تحولات العمل (أي شكله الجيد)، بدون أن يحدد بإلحاح من التنظيم نفسه للعمل. كما أن الانفتاح، لا يعني غياب التواصل واللامتناهي من الإمكانات للشكل، أو الحرية المطلقة في التأويل، فالقارئ ببساطة، له مجموعة من الإمكانات المحددة، والمشروطة بالشكل الذي ينفلت فيه التفاعل التأويلي من رقابة الكاتب، ما يعني أن عملية التأويل بالنسبة لإيكو «تخلق دائما جدلا بين استراتيجية المؤلف وجواب القارئ النموذجي».
التأويل والتأويل المفرط
يرى إيكو أن التأويل المفرط للنص، يمكن إدراكه على عكس ما ذهبت إليه النزعة التفكيكية مع زعيمها جاك دريدا وأتباعه، تلك النزعة ميزت أسلوب النقد الأمريكي، التي ترى بأن تلقي نص ما يقوم «بإنتاج دفْق من القراءات غير القابلة للاختبار» ( (أمبرتو إيكو: « التأويل والتأويل المفرط»). إن إيكو ينأى تماما عن هذه النزعة، وذلك بإصراره على أنه يمكننا «إدراك التأويل المفرط لنص دون ضرورة كوننا قادرين على إثبات أن تأويلا ما هو التأويل الصحيح، أو حتى التعلق بأي اعتقاد بوجوب قراءة واحدة صحيحة».
وحري بنا أن نتذكر، في هذا السياق، أن إيكو ـ في معظم كتبه ـ قام بمراجعة فكرة السيميوزيس Semiosis عند الأمريكي بيرس، التي تعني الصيرورة اللانهائية للمعنى؛ بما يفرض علينا فكرة «التطبيق السيميائي اللانهائي». إن مفهوم السيميوزيس البيرسي، ينبغي له أن لا يجعلنا نعتقد أن التأويل لا يملك نهاية ولا موضوعا، على اعتبار أن النص ليست له نهاية، على الأقل من الوجهة الاحتمالية.
لا نهائية الاحتمالية هذه، هي سر المشروع الهرمسي، حسب إيكو. فكل العلامات السماوية والأرضية تُخفي سرا. وبلوغنا إلى هذا السر، يقودنا حتما نحو سر آخر. وهكذا في حركة لا نهائية. وعلى هذا الأساس فإن أي نص يتوهم معناه النهائي، أو الحقيقي هو جحود وقصور في الوقت نفسه. ولأجل إنقاذ هذا النص من هذا الفتـــق أو العطب، لا بد للقارئ أن يحول هذه المعادلة إلى نقيضها، أي عليه أن يدرك أن المعنى لا نهائي.
«لا بد للقارئ من الظن بأن كل سطر في النص يخفي معنى سريا آخر، كلمات، بدلا من التصريح، تخفي ما لم يقل. ومجد القارئ يكون باكتشاف أنه يمكن للنصوص أن تقول كل شيء، عدا ما يريد مؤلفوها أن تعنيه. وبمجرد أن يدعي اكتشاف المعنى المزعوم، نكون على يقين من أنه ليس المعنى الحقيقي، حيث يكون ذلك الأخير هو الأبعد». ومن ثمة إن القارئ الحقيقي «هو من يدرك أن سر النص هو خلاؤه». (إيكو).
كل مؤلف تجريبي، وهو يؤلف نصه، يضع في ذهنه – في غالب الأحيان ـ هذا السؤال: لمن أكتب؟ كل كاتب، حسب إيكو، يكتب لقارئ احترابيّ/ نموذجي. وعليّ أنا، كمؤلف، أن أكون، أنا كذلك، احترابيا.
المؤلف التجريبي
هو ذاك المؤلف الذي يكتب نصه وهو يعي جيدا أن هذا الأخير سيواجه تأويلات متعددة، وللقارئ واسع النظر، وكامل الحرية في رسم حدود فهمه، أو تأويله أو تأويلاته، بدون أن يعطي أي اعتبار لما يقصده المؤلف التجريبي، أو حتى لحياته الشخصية. ذلك أن الحياة الخاصة «للمؤلفين التجريبيين هي من وجهة معينة غير قابلة لسبر أغوارها بأكثر من نصوصهم» (إيكو/ التأويل والتأويل المفرط).
إن أمبرتو إيكو، بوصفه مؤلفا تجريبيا لروايته الشهيرة «اسم الوردة»، اختار عنوانها ـ كما يقول ـ لكي يترك للقارئ حريته. «الوردة شكل غني بالمعاني إلى درجة أنه الآن لا يحوز أي معنى».
القارئ النموذجي
إن كل مؤلف تجريبي، وهو يؤلف نصه، يضع في ذهنه – في غالب الأحيان ـ هذا السؤال: لمن أكتب؟ كل كاتب، حسب إيكو، يكتب لقارئ احترابيّ/ نموذجي. وعليّ أنا، كمؤلف، أن أكون، أنا كذلك، احترابيا. والاحترابي عندما يكون حيال استراتيجيته الحربية «فإنه غالبا ما ينصرف إلى رسم صورة خصم نموذجي».
(القارئ في الحكاية/ التعاضد التأويلي في النصوص الحكائي).
والفرق بين المؤلف ونابليون كاحترابيين، هما معا، كون هذا الأخير، وهو يضع استراتيجيته الحربية من أجل هزم خصمه الاحترابي، هو كذلك، المسمى لينغتون كان يأمل في الفوز والانتصار. في حين أن المؤلف «يسعى في كتابه إلى أن يجعل الخصم رابحا، لا خاسرا». إن القارئ النموذجي لا يتشكل، بالنسبة لإيكو، إلا من خلال مجموعة من النصوص، أو ما يسميه إيكو نفسه بـ»الموسوعة» التي يستعين بها، هذا القارئ، لفهم وتأويل النص، من رصيد لغوي، وثقافي، واجتماعي… في إطار ما سماه أمبرتو إيكو بالسجل Le repertoire .
ومما لا شك فيه، أن القارئ النموذجي، لا يكون كذلك إلا حينما يصبح مشاركا فعالا في جعل النص ينتقل من وجوده بالقوة إلى وجوده بالفعل. و في المحصلة، لا يسعنا المقام إلا أن نقوم بتجميع أهم الخلاصات البحثية في هذه الدراسة على النحو التالي :
– إن شعرية العمل المفتوح تعبر عن الإمكانات الإيجابية لإنسان مفتوح على أنماط دائمة ومتجددة لحياته ومعرفته.
– إذا كان الانفتاح هو دينامية أي عمل، فإن هذه الدينامية تشمل القارئ المتلقي نفسه، الذي يدرك تمام الإدراك أن عملية القراءة (الميثاق) سوف تؤول الموضوع واعيةً كل الــــوعي بأن العمل متعدد الدلالات.
يقول رشيد بنحدو في هذا الصدد: «حيث تؤكد إيديولوجية العمل المفتوح Emberto Eco على دينامية القارئ في سيرورة تحقق أحد احتمالاته الدلالية المتعددة»( رشيد بنحدو: مجلة «آفاق المغربية» عدد خاص بالتلقي).
إن القارئ يدرك تمام الإدراك أن أي جملة، أو أي شخصية تخفي دلالات متعددة الأشكال، وفي حوزته اكتشافها. وتبعا لحالته الفكرية يختار الوسيلة الأنجع التي من شأنها أن تُلقي به في ارتجاجات المعنى. كما قد يستعمل العمل بمعنى معين، يمكن أن يكون مغايرا أو مخالفا للمعنى المستنبط من القراءات السابقة.
– وكيفما كانت التأويلات، فإنه ينبغي أن تذكّر الواحدة بالأخرى، من أجل أن تنشأ بينهما علاقة حوار وتواصل، لا انقطاعا وتفاصلا، وإذا كانت عملية التأويل، كما سبق وأن أشرنا، تخلق دائما جدلا بين استراتيجية المؤلف وجواب القارئ النموذجي، فإن الشراكة النصية، من ثمة، تتحقق بين استراتيجيتين واعيتين: المؤلف التجريبي والقارئ النموذجي، لا بين فاعلين فرديين.
لقد أصبح القارئ النموذجي، عند إيكو، حتمية ضرورية ككفاية وقدرة على المشاركة في التحيين النصي.
وفي الأخير أقول إن أمبرتو إيكو كسيميولوجي مشاكس في تفكيك العلامات وفهم العالم، قد تمكن فعلا من أن يؤسس لعلاقة متينة (نظرا وتطبيقا) بين انفتاح النص والقارئ، بين لا تحديدية النص وكفاية المتلقي. لذلك فإن شعرية العمل المفتوح، لديه، قد خلقت عند المؤول عقودا لحرية الاعتقاد، كما جعلت منه النواة النشيطة لمجموع العلاقات التي من خلالها يتحول العمل باستمرار.
٭ ناقد مغربي
رائع امبرطو ايكو حقا