الشائعات والتحليلات عن موت الديمقراطية الأمريكية كانت أمراً مبالغاً فيه، ففي مظاهرة مبهرة لمشاركة واسعة أثبت 160 مليون أمريكي بأن ديمقراطيتهم حية وهائجة. كان مدهشاً مشاهدة الجماهير الذين خرجوا ووقفوا في طوابير طويلة أمام صناديق الاقتراع، رغم كورونا والبرد الشديد الذي ساد شمال شرق الولايات المتحدة يوم الانتخابات. وفي الشهرين القريبين سيصار إلى تحدي الديمقراطية الأمريكية بوسائل عديدة، وربما غير مسبوقة أيضاً، ولكن السلطات المنفصلة ومؤسسات الدولة قوية بحيث تضمن تحقق أمر الناخب.
وفقاً لإحصاء الأصوات حتى يوم أمس (يوم الخميس) نجح بايدن في فتح فجوة صغيرة ولكن واضحة عن ترامب في بنسلفانيا وتثبيت انتصاره في هذه الولاية وفي الانتخابات العامة. لترامب حق كامل في أن يطلب إعادة إحصاء الأصوات وفحص سوء النظام، والذي يحصل دوماً عندما يكون تصويتاً للملايين، ولكن تغير نتيجة الانتخابات يبدو احتمالاً طفيفاً في هذه اللحظة.
لمعظم الأمريكيين إحساس ثقة أساسي بالناس الآخرين وبالمؤسسات. ويبدو أن لا سبيل آخر لإدارة دولة من 330 مليون دون ثقة. في هذه اللحظة، يقف معظم أعضاء الحزب الجمهوري في صف واحد خلف ترامب. ولكنه إذا واصل جهوده للتشكيك بشرعية الإجراء الديمقراطي – فإن محبي الحياة بينهم سيبتعدون.
لترامب مسار قانوني آخر وغير مقبول لتشويه نتائج الانتخابات. فعملية تعيين 538 عضواً في المجلس الانتخابي الذين ينتخبون رئيس الولايات المتحدة يتم وفقاً لقوانين الولايات المختلفة ولا ينص عليه الدستور الأمريكي. هناك حكم جمهوري في 8 من أصل 9 ولايات فيها فارق صغير بين المرشحين. إذا نجح ترامب بالتشكيك في ثقة الحكام وممثلي تلك الولايات بنتائج الانتخابات، يمكنهم، ظاهراً، أن يمنعوا تعيين أعضاء المجمع المنتخبين وتعيين بدائل عنهم من طرفهم؛ ليصوتوا بشكل مختلف في 14 كانون الأول، موعد التصويت في المجمع.
في 6 كانون الثاني سينعقد الكونغرس لإقرار تصويت المجمع الانتخابي. وإذا سعى الجمهوريون لشطب الأعضاء الذين عينوا في الولايات التي انتصر فيها بايدن، فقد تكون النتيجة بألا يكون لأي من المرشحين 270، صوت ضروري لتعيين الرئيس. في مثل هذه الحالة، يقول الدستور إن قرار انتخاب الرئيس ينتقل إلى الكونغرس، حيث لكل ولاية صوت واحد فقط. ويحوز الجمهوريون ولايات أكثر مما يحوز الديمقراطيون، ويمكنهم ظاهراً أن ينتخبوا ترامب.
هذا السيناريو الغريب سبق أن حصل مرة واحدة في العام 1800. فأعضاء المجمع الذين يفترض بهم أن ينتخبوا الرئيس ونائب الرئيس تشوشوا في حينه بين المرشح للرئاسة توماس جيفرسون ونائبه ألون بار. والنتيجة كانت أن كليهما حصل على عدد مشابه للأصوات، وانتقل القرار إلى الكونغرس الذي انتخب في النهاية جيفرسون. مشكوك أن يساند الحزب الجمهوري سير ترامب في هذا المسار الخطير الذي سيهز الأساسات الديمقراطية الأمريكية.
***
في هذه الأثناء يخوض ترامب حملة تطهيرات في البنتاغون، ويعين الموالين له في مناصب أساسية. والتقدير هو أنه يعتزم استغلال الأسابيع القادمة كي يعلن عن انسحاب عام من أفغانستان، وهناك من يدعي بأنه أطاح بكل المسؤولين الكبار الذين عارضوا الانسحاب الفوري.
وفي منطقتنا أيضاً لا تزال هناك أمور يمكن لترامب أن يقوم بها في الشهرين المتبقيين له. في الأسبوع القادم سيصل إلى هنا وزير الخارجية مايك بومبيو، وستكون في بؤرة محادثاته إيران التي تجمع كميات متزايدة من اليورانيوم المخصب. ويحتمل أن تكون إسرائيل والولايات المتحدة تبحثان عن سبل للعمل ضد البرنامج النووي الإيراني قبل أن يتسلم بايدن مهام منصبه ويعيد الاتفاق النووي السابق إلى حاله.
من بين أعضاء الحزب الديمقراطي، يبدو بايدن هو الخيار الأكثر وداً الذي يمكن له أن يكون لإسرائيل. فهو عظمة من عظام الإدارة الأمريكية منذ خمسين سنة، ولا يتماثل مع الجناح المتطرف داخل حزبه. ولا يزال ملتزماً بإرث أوباما في الموضوع النووي. في مقال برنامجي كتبه قبل الانتخابات، صرح بأن في نيته استئناف الاتفاق النووي مع إيران، مع تعديلات طفيفة. وقد سبق لوزير الخارجية الإيراني محمد ظريف أن وضح له بأن هذا ليس وارداً وأن إيران لن توافق إلا على العودة إلى الاتفاق السابق حرفيًا.
مثل هذا السيناريو سيرفع الاقتصاد الإيراني المتحطم ليقف على قدميه وسيبث ريح إسناد في التوسع الإيراني في المنطقة. وقد يوقف أيضاً التقدم المتوقع في العلاقات بين إسرائيل ومزيد من الدول العربية. وفي الزمن القصير المتبقي، فإن إسرائيل ملزمة بأن تطور قنوات الاتصال مع بايدن ورجاله.
بينما تكون أمريكا غارقة في جدال على نتائج الانتخابات، قد تستغل لإسرائيل أيام الغبش التي بين الإدارتين لتحقيق إنجازات أخرى ضد الايرانيين في سوريا
طوني بلينكن، المرشح لمنصب مستشار الأمن القومي، والذي على علاقات واسعة مع إسرائيل، عارض في الماضي الصدام العلني بين الرئيس أوباما ورئيس الوزراء نتنياهو. وسوزان رايس، المرشحة لمنصب وزيرة الخارجية، راكمت منذ الآن سمعة كمفاوضة أكثر صلابة من جون كيري، مهندس الاتفاق النووي السابق، وسيعود آرنست مونيتس إلى منصب وزير الطاقة الأمريكي.
وبينما تكون أمريكا غارقة في جدال على نتائج الانتخابات، قد تستغل لإسرائيل أيام الغبش التي بين الإدارتين لتحقيق إنجازات أخرى ضد الايرانيين في سوريا وبشكل عام. فيوم ذكرى تصفية رجل الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا مر بهدوء، صحيح حتى الآن ولكن في غزة أيضاً جهات من الجدير معالجتها قبل دخول الإدارة الجديدة.
ستجتاز أمريكا عدة هزات أخرى إلى أن يتولى الرئيس الجديد منصبه في 20 كانون الثاني. فالمجتمع الأمريكي ممزق ومستقطب أكثر من أي وقت مضى، مصاب بكورونا ويعاني من غير قليل من الأمراض الأخرى، ولكن هناك شيء واحد مفهوم ويبعث على الحسد في هذا المجتمع: ثمة تفاؤل لا صلاح له. فالمجتمع الأمريكي على كل ألوانه يؤمن بقوته بخلق مستقبل أفضل، كما أنه واثق بقوته على إحداث التغيير. ليت شيئاً من هذا التفاؤل يصيبنا بالعدوى نحن أيضاً.
بقلم: ألون بن دافيد
معاريف 13/11/2020