أنا وعريقات و”أوسلو”.. من سلطة “المعالي والسعادة” إلى مفاوضات النهب النهائي الإسرائيلي

حجم الخط
0

كان ذلك في بداية خريف 1997 أو 1998، لكن هذا لا يهم. كنت في طريق عودتي من غزة إلى رام الله. الوقت مساء، لم يكن متأخراً جداً لأن الصحيفة لم تنزل إلى الطباعة بعد: اتصل بي المحرر المسائي وطلب أن أحاول الحصول على شيء ما عن اللقاء الذي جرى في ذلك اليوم بين ممثلي م.ت.ف وممثلي حكومة بنيامين نتنياهو. أتذكر أن ممثل إسرائيل كان داني نفيه. وقد كان سكرتير الحكومة، وبهذه الصفة عين رئيساً لطاقم الإشراف الإسرائيلي على المفاوضات مع الفلسطينيين (كما ذكرتني ويكيبيديا).

توقفت في إحدى محطات الوقود قرب عسقلان، واتصلت بالدكتور صائب عريقات. فهو حسب تقارير الإذاعة شارك في الجلسة واعتاد الرد على المكالمات. وقال “ليس هناك ما أبلغك عنه، إذ لم يحدث هناك أي شيء”، أجاب على سؤالي، وأنا لا أتذكر الصيغة بالضبط. ولكنه قال شيء ما عن الأمور الصغيرة التي تم بحثها في الجلسة. وفجأة، سمعته يتنهد، وبعدها قال: “قولي لي يا عميرة”. تفاجأت من مخاطبتي بصورة مباشرة، وحتى بصورة ودية. لم أكن يوماً، وما زلت حتى الآن، صحافية تعمل صداقات مع الشخصيات الكبيرة في القيادة، حتى لو كانت هذه الشخصيات هي قيادة الشعب الذي نحتله ونقمعه باحترافية ونجاعة (دون صلة بحقيقة أن هذه القيادة -لشديد الأسف- فعلت كل ما في وسعها لتفقد ثقة الجمهور بها. وهناك شيء آخر للتوضيح: دائماً اعتقدت أن تفاخر تلك القيادة بألقاب سابقة لزمنها وليست في محلها مثل “حكومة” و”وزراء” – في حين أن صلاحياتها أصغر من صلاحيات مجلس محلي – هو أمر مضحك. ولا يقل إضحاكاً موافقة أعضائها على الألقاب المضخمة والقديمة مثل “معالي” و”سعادة” و”عطوفة” الوزير أو السفير أو الضابط الكبير).

“قولي يا عميره”، قال عريقات وواصل: “ألا يفكر الإسرائيليون بأحفادهم؟”. لم يكن بحاجة لأن يوضح لي قصده، لكننا سنفسر لمن لا يفهمون. ما سأل عنه عريقات هو كيف يقتنع الإسرائيليون أنه يمكنهم مواصلة الاحتلال والقمع والتصرف بصورة متعالية وبهذه الوقاحة دون أن يكون لذلك أي تداعيات على الأجيال القادمة، ودون أن تحدث أمور فظيعة، والتطبيع الذي يطمحون إليه سيهتز ويتحطم ويتسبب بكثير من الألم حتى لهم أيضاً.

كان سؤاله مليئاً بالقلق والخوف الحقيقي، وقد كشف عن مواقفه أكثر من أي خطاب مهذب أو تصريح مصقول في مقابلة تلفزيونية. وقد أوضح سؤاله هذا إلى أي درجة رأى عريقات وسلم بأن قطعة الأرض هذه، وطنه، هي أيضاً وطن لليهود الإسرائيليين. لهذا، سار مثل الآخرين في مسار اتفاق أوسلو، والمفاوضات التي اعتقد أو أغري على الاعتقاد، مثل كثيرين آخرين في م.ت.ف، بأن ستكون هناك مفاوضات مع إسرائيل من أجل السلام وأنها ستنتهي باتفاق محترم.

يمثل عريقات جيلاً كاملاً من الفلسطينيين من مواليد الضفة الغربية وقطاع غزة، الذين كانوا أطفالاً في العام 1967 واكتشفوا بعد الحرب -خلافاً لما سمعوه في السابق- بأن هناك مجتمعاً إسرائيلياً – يهودياً كاملاً، نشطاً، يعتبر نفسه طبيعياً ويعيش هنا. لقد اكتشفوا أن هذا المجتمع غير مصطنع وليس مجرد “قاعدة عسكرية” وأنه لن يختفي من تلقاء ذاته مثل “ثمرة عفنة تسقط عن الشجرة” – مثل الشعارات التي تمسك بها كثير من الفلسطينيين كمخدر للتعزية في السنوات التي أعقبت كارثتهم، النكبة. هذا الاستيقاظ مؤلم ومرير ويثير الخلاف – والتعرف على الإسرائيليين من جميع الأنواع ووجهات النظر تطور لدى جيل الانتفاضة الأولى إلى أمل بأن يكون بالإمكان التوصل مع إسرائيل ومع الشعب اليهودي في إسرائيل إلى نوع من مسار حياة معقول.

الشرط الفوري لذلك كان أن تتعافى إسرائيل من غريزة السيطرة على أراضي الشعب الفلسطيني، ولكنها لم تتعاف. بالعكس، ففي ظل حكومات العمل والليكود، استغلت إسرائيل سنوات المفاوضات لمواصلة النهب. كل فلسطيني يستيقظ كل صباح على حقيقة أن إسرائيل لم توقع بهم بشعبهم وبعائلاتهم المزيد من الكوارث، بل تنوي مواصلة إلحاق كوارث أخرى بهم، وأنه لم تظهر حتى الآن قيادة فلسطينية يمكنها وقف ذلك.

هل كانت هناك مرحلة تمكنت فيها القيادة الفلسطينية برئاسة “فتح” من اتخاذ موقف آخر والتصرف بصورة أكثر حزماً وحكمة على طاولة المفاوضات من أجل أن تتغير إسرائيل؟ إذا كان الأمر كذلك، كان يمكن لهذا أن يحدث لو أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية كانت قد توقفت عن التعامل مع إسرائيل كدولة فوق القانون الدولي، وكدمية من الخزف يجب تغليفها بالتسامح والتنازل الذي لا نهاية له.

هل كانت هناك احتمالية لحدوث ذلك؟ يبدو أن لا، ويمكن الافتراض بأن القيادة الفلسطينية فهمت ذلك. هل كان يمكنها التنازل من تلقاء ذاتها عن سيطرتها المحدودة على الجيوب التي تركتها لها إسرائيل، وأن تختار طريقة نضال مختلفة كلياً، من شأنها أن تكون مرتبطة بالتنازل عن الملذات المادية والمكانة الدولية التي أعطتها إياها تلك السيطرة، لأقاربها ومقربيها؟ يبدو أن قيادة فلسطينية جديدة يمكنها البحث عن طرق أخرى مختلفة وجديدة للنضال من أجل التحرر. ولكن هذا البحث سيستمر لسنوات طويلة وليس هو موضوع هذا المقال.

بقلمعميرة هاس

 هآرتس 15/11/2020

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية