السرد موهبة تتهذب بالمداومة على ممارسته، وتتشذَب عبر الإحاطة التامة بأفانينه، والاستزادة في تعميقه من مختلف فروع المعرفة. ولولا كون السرد موهبة تعززها الممارسة وهي ممارسة مغرية ما كان للشاعر أن يترك القصيدة ويتجه صوب الرواية، بينما يندر أن نجد روائياً ترك السرد وصار شاعرا. ولعل سمة الصلابة في الشعر هي التي تجعله فناً ذكورياً بعكس السرد الذي هو في الأساس فن أنثوي. وهو ما يتأكد اليوم بشكل واضح من خلال هذه الكثرة من هواة كتابة الرواية من النساء، بل إن بدايات الرواية الغربية كانت ريادتها نسوية.
وهذه السمة النسوية هي التي تجعل السرد مرنا وسائلا، بعكس الشعر الذي هو صلب وعتيد، وبما يجعل السرد عبارة عن متوالية معرفية ذات فاعليتين: فاعلية الفطرة وفاعلية العقل، وتظل هذه المتوالية عاملة وهي تنتقل من جيل إلى جيل في شكل خبرات سردية تتراكم في الذاكرة الجمعية جينيالوجيا فتشكل مرجعياتنا.
وإذا كانت الأنثى هي الأصل؛ فإن السرد هو أصل الفنون الأدبية كلها، وطبيعي أن يكون في بواكيره نتاجا من نتاجات العقل الإنساني الفطري الذي ما كان ليميز السحري عن الواقعي، لكنه حين ميّز بينهما غادر فطرته لتتحكم فيه البديهيات التي فيها الأسباب تؤدي إلى نتائجها والعلل إلى معلولاتها؛ بديالكتيكية واقعية لا غبار عليها، وفي ما عدا ذلك يدخل العقل في عرف الغيبيات الميتافيزيقية.
وقد تعددت نظريات السرد الحداثية وما بعد الحداثية؛ بيد أن هناك توجها نظريا أخذ يتجلى عند نقاد المدرسة الأمريكية منذ تسعينيات القرن العشرين ويتمثل في الميل بالنظرية السردية نحو العلمية والمعرفية، بمسميات علم السرد ما بعد الكلاسيكي، وعلم السرد المعرفي، وعلم السرد النسوي التي تبناها منظرو السرد الأمريكيون ومنهم، ديفيد هيرمان أستاذ الأدب الأمريكي، ونظرية السرد محرر كتاب «سلسلة كامبرج للسرد» The Cambridge Companion to Narrative، الذي صدر بطبعته الإنكليزية عام 2007 بأربعة أجزاء، وطبع بعدها عدة طبعات وآخرها عام 2012 وقد كتب هيرمان فصلا في الجزء الرابع بعنوان (المعرفة، العاطفة، الوعي) بينما كتبت مونيكا فلودرنك فصلا بعنوان (الهوية/ الغيرية).
وقد تساءل هيرمان في التقديم عدة أسئلة، منها لماذا السرد وما السرد وما ماهيته ومهامه الرئيسية، وما اتجاهاته الأساسية واستراتيجياته؟ محاولا بذلك رسم خريطة السرد الكلاسيكي وما بعد الكلاسيكي، من الشكلانية الروسية إلى السرد البنيوي الفرنسي، مركزا النظر على المنظرين الأمريكيين مثل، سيمور جاتمان ووالاس مارتن وجيرالد برنس وآخرين، كما أشاد بما قدمته المدرسة الأنكلو أمريكية من مقاربات في تقاليد الوظائف السردية، ما بعد كلاسيكية أكثر من إشادته بالمدارس التي كان لمقارباتها الشكلانية والبنيوية وما بعد البنيوية الأثر المهم في تطوير مقاربات الأمريكيين ما بعد الكلاسيكية، التي فيها تداخل السرد مع حقول معرفية مجاورة أو بعيدة، مما نجد أصوله عند ميخائيل باختين حول انفتاح النص والحوارية، ثم تطور في ما بعد على يدي رولان بارت وجوليا كريستيفيا وتودوروف وجنيت وغيرهم.
ومن الطبيعي أن يظل التداخل مفتوح الآفاق عابرا من المقاربات الكلاسيكية إلى ما بعدها، كالجندر والعلوم المعرفية والاجتماعية واللغوية وليس كما حاول هيرمان في المقدمة توكيده، وهو أنه نتاج النظرية التكاملية وكنوع فرعي من سرديات اللغة الطبيعية والسرد القصصي من قبيل محادثة غير رسمية بين الأقران وسرديات القيل والقال (هو قال/ هي قالت) أو محادثات أفراد العائلة على مائدة الغداء. وليس غريبا أن نجد مواطنته ماري لوري ريان توافقه الرؤية، وهي ترى أن تعريف السرد تطور بعده فتحولت السرديات نحو الإنسانيات متداخلة بالسياسة والدراسات العلمية والقانون والطب، وأخيرا وليس آخرا بالعلوم المعرفية وإمكانيات ما بعد الحداثة في ممكنات المعرفة، أو الحقيقة، ووظائف العقل وقيمة المعتقد والصدق والتجربة والتفسير، والتمثيل والتعليل والاستعمالات الميتاخرافية، وميكانيزما الانفتاح الجينالوجي في الاستعمالات المجازية. وممن تبع هيرمان من النقاد الألمان مونيكا فلودرنك التي عرفت علم السرد أنه (فرع معرفي ثانوي لدراسة الأدب وهو وثيق الصلة خصوصا بالشعرية وبنظرية الأجناس الأدبية وبسيميائية أو سيمولوجيا الأدب) (كتابها: مدخل إلى علم السرد).
وما مهمة النقد النسوي سوى معرفة هذه التناقضات، عبر التنديد بالمركز وتغليب الهامش وما فيه من نساء وخدم وفقراء وطبقة عاملة، واتخاذ مواقف من العرق وتاريخ الاستعمار والجنس والحياة الجنسية.
وعموما لا تخفى الدوافع وراء هذا الميل بالنظرية السردية نحو ما بعد الكلاسيكية، كرد فعل على علم السرد الكلاسيكي، بوصفه نتاجا مستثمرا في الثقافة الذكورية. ويعد علم السرد النسوي واحدا من تنظيرات علم السرد ما بعد الكلاسيكي اجترحه روبين وارهول، أحد أقطاب المدرسة الأمريكية الذي كتب فصلا بعنوان (نهج نسوي في التعامل مع السرد) ضمن كتاب «النظرية وتفسير السرد: النظرية السردية المفاهيم الأساسية والمناقشات النقدية»، وساهم في تأليفه ديفيد هيرمان وجيمس فيلان وبيتر جيه رابينوفيتش وبريان ريتشاردسون وروبين وارهول، والصادر بطبعته الأولى عن جامعة أوهايو الأمريكية عام 2012 وفيه عني وارهول بتطوير نظرية السرد لتندمج مع النظرية النسوية من خلال دراسة تأثير الجنس والعرق والجنسانية، في النصوص السردية وتحليلها ثقافيا كنوع من مواجهة الثقافة الذكورية المهيمنة على ثقافة الغرب ومؤسساته وبتسلسلية هرمية للجنسين.
ورأى وارهول نفسه نصيرا للنسوية ضد النظام البطريريكي، وهو يدعو إلى علم السرد النسوي الذي فيه تتعالى المرأة على تهميشها رافضة التواطؤ بإيجابية مع النظام الأبوي. وما يريده وارهول من علم السرد النسوي هو تطوير علم السرد الكلاسيكي، من كونه ثقافة أكاديمية ذكورية إلى علم السرد ما بعد الكلاسيكي الذي نماذجه أنثوية بالدرجة الأساس. والفكرة الكامنة وراء السرد النسوي هي أن دراسة ما هو مهمش وغير مرئي، ستسفر عن استقراءات وتحليلات وتعميمات، قد تغير السرد وقوانينه السائدة على أساس نسوي، مفاده أن النصوص مرتبطة بالوقائع المادية للتاريخ الذي ينتجها ويتلقاها، ومن ثم يكون ممكنا التوسع في النظرية السردية بشكل يتعارض مع الموقف الشكلي للرواية الكلاسيكية.
وأشاد وارهول بجيرالد برنس الذي ساهم في هذا التوسيع النظري للسرد مهتما بدرجة كبيرة بروايات ذات سمات جنوسية وعرقية، أو ما بعد استعمارية تنفع في استعمال «نظرية السرد النسوية» أو «علم السرد النسوي». ومنها روايات جين أوستن وفرجينيا وولف وجانيت ويترسون، التي وجد فيها وارهول عينة مهمة تصلح للتمثيل على علم السرد النسوي، أكثر من علم السرد الإدراكي، أو المعرفي لهيرمان، وعلم السرد الخطابي لجيمس فيلان، منتقدا جينيت واهتمامه الذكوري برواية «البحث عن الزمن الضائع»، مؤكدا أهمية التعامل مع المؤلف والقارئ في إطار سياقات اجتماعية وتاريخية، تكشف عن حدود كتابية كانت في علم السرد الكلاسيكي تعد خارج الحدود الواقعية العامة، وذات سمات تخريبية. وعن ذلك يقول وارهول: (إن عدم المساواة الاجتماعية ما زال مستنداً إلى اختلافات المنتجة الثقافية.. ورغم ذلك فإن بعض الأعمال مثل كتاب فريدريك لويس عن علم الأعصاب والسرد، تنضم إلى نظرية السرد النسوية من خلال اهتمامها بالعاطفة والتأثير العاطفي للنصوص السردية، بالإضافة إلى تأثير الاستدلال الثقافي في نشاط القراءة.. وما يميز نظرية السرد النسوية في الأساس هو إصرارها على وضع هذه القضايا في الاولوية».
ويفترض وارهول لدراسة روايات جين أوستن مثلا تفكيك المعارضة الثنائية التي يقوم عليها ما سماه (التيار السائد) ويقصد بها نظريات السرد الفرنسية البنيوية، وما بعد البنيوية، ونظرتها إلى الجنس والنشاط الجنسي والطبقة في إطار الثقافة الأيديولوجية المهيمنة، من قبيل تخصيص الحياة العامة والمهن والسلطة بالرجال وحدهم، وإبعاد النساء أو قصر أدوارهن على الأسرة والزواج والرضاع، مؤكدا أن قراءة روايات أوستن هي بمثابة رد فعل على الأيديولوجية الذكورية، وانتقاداتها الموجهة إلى النظرية النسوية. وبتجاوز الممارسة النسوية المعتادة وقوالبها النمطية؛ فإن الانتقال سيكون متاحا خارج الأدوار المتوقعة في بناء الشخصيات وقولبتها بصفات سردية جنسانية متناقضة، من منطلق أن النوع الاجتماعي (الجندر) ليس شكلا أو افتراضا، كما أن النصوص ليست نسخا من الواقع، بل هي تمثيلات على مواقف لا حقائق حول الكيفية التي بها تحدث في العالم المادي. وأننا كلما فهمنا الدور الذي يلعبه السرد في تعزيز المنظور الجنساني، كنا أقدر على أن نغير الطرق القمعية التي تعمل بها القواعد الجنسانية في العالم.
وما مهمة النقد النسوي سوى معرفة هذه التناقضات، عبر التنديد بالمركز وتغليب الهامش وما فيه من نساء وخدم وفقراء وطبقة عاملة، واتخاذ مواقف من العرق وتاريخ الاستعمار والجنس والحياة الجنسية، وبالشكل الذي يجعل النظرية النسوية متعددة التخصصات تجمع النوع الاجتماعي بالسياسة والتاريخ والجغرافيا والفلسفة والعلوم الاجتماعية، فيكون المتحصل علوما جديدة كعلم التاريخ النسوي وعلم الجغرافيا النسوية، وعلم الأثنوغرافيا النسوية.
٭ كاتبة عراقية
السرد صناعة أدبية لا يتقنها تاريخيا إلا النساء.
هذه الملاحظات التي ترصد سمات السرود التي تكتبها المرأة دقيقة… بالرغم من أنّ مصطلح “السرد النسوي” أو “السرد الرجالي أو الذكوري” لا تقبله نظرية الرواية التي لا تميّز في جنس الكاتب بين الرجل والمرأة.. ومع ذلك بوسع الباحث أن يرصد سمات تميّز السرد الذي تكتبه المرأة.. واتساقا مع هذا الوضع تمّ في قرية “توجان” الوادعة (وهي قرية تونسية ذات أصول بربرية) بعث “ملتقى الرواية التي تكتبها المرأة بتوجان” منذ 2017 نستضيف فيه كل سنة مجموعة هائلة من الروائيات والروائيين، ونتولى خلاله تكريم روائيّة بعينها والحديث عنها وعن كتاباتها…ونحتفي بمؤلفاتها اهتماما ونقدا….. ويسعدنا أن تعرف الأخت نادية هناوي ذلك وأن تتفاعل مع الملتقى…