بات من الطبيعي أن نلمس ازدراء للنظام الصحي العربي على مواقع التواصل الاجتماعي بتحول كلمة «إنعاش» إلى «إن عاش» كما نلمس انتقادات حادة للنظام الطبي في دول أخرى كثيرة، فرنسا على سبيل المثال فكيف أصبح طب العلاج كابوسا في نظر الناس؟
أكان الأمر متصلا بمعالجة أمراض الجهاز التنفسي، أو هبوطا في الدورة الدموية أو ضعفا في عضلة القلب، أو إصابة بفيروس كورونا المستجد، أو حالات أخرى، لا يمكن بالتأكيد حصر تعريف غرف الإنعاش أو غرف العناية المركزة في قسم المستشفيات الذي بدأ فيه العد التنازلي لحياة المريض، لكن تجاوز هذا التوصيف يستدعي مقابلا اقتصاديا، وليس فقط من ناحية أن هذه الغرف تتكلف كثيرا من أجل تطويرها. صحيح أن هذا التشخيص الذي نقرأه في مقال صادر عن مجلة التلفزيون المصري، تشخيص لا يختلف فيه إثنان وصحيح أيضا، أن المقابل المادي المطلوب للاستفادة من تقنيات العلاج المتطورة في هذه الغرف يفوق إمكانيات الكثيرين، لكن ماذا عن السياسة المتبعة؟ بل هل من سياسية أصلا؟
المسألة تتعدى واقع بلد بعينه: فكون عدد الغرف لا يكفي عدد الحالات التي يستدعي دخولها هذه الأماكن، مشكلة أصبحت عالمية الآن. فهو السبب الأساسي وراء عودة الكثير من البلدان إلى الإغلاق الشامل لمكافحة جائحة كورونا.
المسألة إذن مسألتان: أولاهما كيف يضمن القطاع الطبي عددا كافيا من الغرف والأسرة؟ وثانيهما: كيف يمكن التنسيق على مستوى الكوادر والسلطات لتفادي الاكتظاظ وعجز استقبال المرضى؟
يمثل الشقان وجهين لعملة واحدة بالإمكان تلخيصها في عبارة رئيس الفيدرالية الفرنسية للمستشفيات الخاصة: «علينا إسقاط الحواجز بين القطاع العام والقطاع الخاص في المجال الطبي قبل أن يفوتنا الأوان». من هذا المنطلق، يمكننا أن نتساءل عن وجاهة ما نقرأه في بعض المقالات، عن أن خدمات العناية المركزة والإنعاش، مقابلها المادي عال جدا ولا داعي للاستفهام عن ذلك، فحتى لو تعلق الأمر بالمستشفيات الاستثمارية ، فليس هذا مبررا، بل هنا تكمن العقبة الكأداء.
إن لم يدرأ كابوس قصور سياسة دعم مستشفياتنا وأطبائنا ومرضانا معا، فإن كابوس غرف الإنعاش مرشح للاستمرار طويلا
أجل.. كيف يمكن التسليم بأن يكون طب العلاجات الأولية طبا «ذا سرعتين» وفق العبارة الفرنسية الشهيرة؟
لو رجعنا إلى الجهد الذي قامت به الأطر المصرية من رفع عدد غرف العناية المركزة في المستشفيات العمومية، نظير أجر قد يكون في متناول كثير من الناس وعبارة « قد يكون» هنا تشي في حد ذاتها بأن الخطوة لم تتخط مرحلة أنصاف الحلول، لا يمكن الاقتناع بهذه المبادرة، الشبيهة بما تسعى إلى القيام به دول غربية كفرنسا مثلا – فالمسألة تبقى هي هي، طالما أن القطيعة مستمرة بين المجالين الخاص والعام، طالما نجد اختلافا جوهريا في مستوى التجهيزات وتطور الخدمات، سنجد تبريرات لطريقة عمل البديل الخاص وفلسفته، كتصريحات في مقالات تسلم بأن هذه الأماكن لا يقدر عليها سوى الأثرياء أو الأغنياء، إلى حد تشبيهها بالفنادق الفاخرة كما لو أن حرية أهل المريض المطلقة في زيارته والتمتع بالحديث معه، ميزة محصورة على حفنة من المنعمين! فعجبنا كل العجب من مصادفة أطباء لا يتورعون في التعقيب على هذه الوقائع، بعبارات من قبيل «لا داعى للاستفهام عن ذلك» بدعوى أن ما يقدم للمريض من مستوى رعاية صحية أو اجتماعية أو ترفيهية، عال جدا لا يحتاج لتعليق.
كلا.. يحتاج لتعليق، وكنا نتمنى لو علق كاتب المقال داعيا الى ردم الهوة بين القطاعين العام والخاص في مجال الطب العلاجي العاجل، وإقامة سياسة دعم من الدولة تمكن من إنهاء ظاهرة اكتظاظ غرف الإنعاش والعناية المركزة، وليس ترك المتحدث يسلم من دون رد بوجوب وضع حدود للمدة الزمنية المطلوبة لكل مريض مهما قلت عن المطلوب. كما ينبغي التركيز على مسألة أخرى تطرق إليها المقال، لكن مرة أخرى بلغة التسليم لا المراجعة النقدية، ألا وهي تسعيرة الأدوية. نعلم أن ثمة سياسة تعتمد عليها شركات إنتاج الأدوية والمختبرات، تقوم على تفادي تخزين أدوية أقل استعمالا من أدوية أخرى، رغم طابعها الأساسي في معالجة بعض الأمراض الخطيرة. هنا أيضا يكمن بيت الداء، وعدم اتباع سياسة وقاية تسبق العلاج، بل لعلها تجنبه. فدعم الدولة غير الكافي لتكلفة إنتاج الأدوية، ما ينعكس مباشرة على أسعار البيع، يؤدي أيضا إلى تفشي ظواهر أخرى غير مقبولة مثل تسعيرات أدوية تضاف إلى تسعيرة الإقامة غير المقبولة أصلا.
إن لم يقع درء كابوس قصور سياسة دعم مستشفياتنا وأطبائنا ومرضانا معا، فإن كابوس غرف الإنعاش والعناية المركزة مرشح للاستمرار طويلا.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي