النهار الأزرق

حين ترى الحروف أو الكلمات أو تسمعها أنت، لا تربطها لا بلون ولا برائحة. يبدو هذا بديهيا عند كثيرين، ويبدو موضوعا غير ذي بال ومن غير الشرعي طرحه، لأننا ونحن نتخاطب شفويا نستخدم حاسة السمع، وحين نقرأ نستخدم حاسة البصر؛ وحين نرى الحروف مكتوبة ههنا نراها ملونة بالأسود وهو لون الحبر ولا نرى بعضها بلون وبعضها الآخر بلون آخر، إلا إذا كانت ملونة.
الحس المرافق أو التصاحب الحسي المعروف باسم Synesthesia هو ظاهرة عصبية غير مرَضية، ترتبط فيهما حاستان ارتباطا دائما. مثال ذلك أن يرى من يعيش هذه الحالة العصبية الحرف (ق) أخضر أو يرى الرقم (7) رقما بنفسجيا؛ بل يمكن للمرء أن يربط إدراكيا بين الأشخاص والألوان كأن يرى زيد صديقه بنيا بينما يرى هندا خضراء. هذه رؤية فردية في مستوى التمثلات ولا تخص الجماعات، وهي ليست مسألة مزعجة عند أصحابها لذلك لا تعد ظاهرة مرضية. تقول أيرين شوننبارغر، وهي من صاحبات الحس المرافق: «عالمي ملون. الحروف والأرقام لها بعد آخر مقارنة بالإدراك السمعي الطبيعي: إذ أن لها ألوانا. فالحرف A هو حرف أحمر مشع، بينما للحرف E لون أصفر ليموني، عندما أسمع أو أقرأ جملة، أرى الكلمات الملونة تتحرك أمامي، كما لو كانت على الشاشة. وللعام عندي شكل بيضوي أملس، وتترابط الأيام والأسابيع والأيام بشكل حلزوني معقد؛ ولكل شهر لون، بل أنا أتذكر لون اسم الشخص قبل أن أتذكر اسمه». وتضيف: «لا يمكنني كبح هذه الأحاسيس طواعية، فقد كانت موجودة دائمًا، هي ببساطة ترافق اللغة من خلال إعطاء بُعد إضافي للتجربة اليومية. لقد علمت مؤخرًا، وكلي ذهول، أن الآخرين ليست لديهم التصورات نفسها.. وأنا أجد صعوبة في تخيل عالم بدون ألواني التي لي».
بعض الفنانين يستعملون التصاحب الحسي في أعمالهم اختيارا، وأشهر الأمثلة على ذلك الشاعر الفرنسي رامبو في قصيدته «حركات» حين أسند إلى بعض الحركـــات في الفرنسية ألوانا فحرفA أسود وE أبيض وU أخضر و O أزرق.
بعض الدارسين المعاصرين من أمثال بول هادرمان في مقال له عن «التصاحب الحسي ومفهومه»، يرغب في أن يجعل من هذه الظاهرة شأنا له صلة باللغة فيتساءل: «أليس أي شكل من أشكال اللغة هو نفسه ضرب من التصاحب الحسي؟» فمحاكاتنا لصوت من الأصوات الطبيعية باللغة أو بالإشارة، أو نقلنا لمشهد من المشاهد المرئية باللغة هو ضرب من «إعادة إنتاج» شعورنا بالميدان الحسي، حيث ظهر فيه». يمكن لمتتالية من الأصوات أن تعطينا مرادفا لمشهد مرئي، وعندها نكون إزاء ترجمة تصاحبية حسية. ويرى الباحث أنه من الممكن أن نوسع التصاحب الحسي ليشمل اللغة جميعها، بحكم طابعها الرمزي. فاللغة تسمي الأشياء بأسماء لا تمت لمسمياتها بصلة، فلا شيء في كلمة طائر يحيل على ريشه، أو جناحه أو منقاره.. هذا الطابع الرمزي للغة يمكن أن يكون بشيء من التوسعة ضربا من التصاحب الحسي. غير أن الباحث يقصره على ما يعتبره «تأسيسا لعلاقة تشابه بين تمثيلات تنتمي «بشكل طبيعي» إلى مجالات حسية مختلفة». وأبرز الأمثلة على ذلك هو الكلام المجازي، الذي ننقل من خلاله المعنى من مجال حسي إلى آخر. في هذا السياق تنزلت استعارات الحس التصاحبي synaesthetic metaphor التي عرفها شعراء وكتاب التيار الرمزي.

ربط يوم معين بلون قد يكون نتيجة لإشكال ما في إدراك الشيء في فردانيته، والالتجاء إلى الاتكاء على غيره كي تستوعبه، هو ضرب من إسناد الوعي باليوم مثلا، أو بالحرف أو بالرقم لا إلى ذاته، بل إلى لون يصاحبه يكون له كالسند حتى يذكر.

سوف نهتم في القسم اللاحق من هذا المقال بما سماه S .Johansen في دراسة حول أساليب أدباء المدرسة الرمزية بـ»القيم المجردة للألوان التي تربط بين اسم مجرد و صفة من صفات الألوان» لنرى أن هذا الربط هو شأن في الكلام اليومي. يظهر ذلك حين نقول عن يوم شاق أو غير موفق إنه «نهار أزرق» أو حين تقول العرب «يا نهار أبيض» أو «يا نهار أسود» أو «سنة بيضاء» أو «سنة سوداء». أولا نريد أن نشير ههنا إلى أن هذا التركيب بين اسم اليوم والسنة وصفة لهما مستمدة من معجم الألوان (أغلبها أسود وأبيض) ليس بأي شكل من الأشكال منخرطا في الحس التصاحبي بالمعنى العصبي، الذي ذكرناه لأنه ليس شعورا فرديا لا واعيا بقدر ما هو مواضعة واستعمال جماعي. غير أن ما يجعله ظاهرة حسية تصاحبية هو وجود ضرب من الربط بين التمثيلات، التي تنتمي طبيعيا إلى مجالات حسية مختلفة. فاليوم وبقطع النظر عن ضبطه الموضوعي في توزيع الأسابيع والسنوات، يمكن أن تكون له ثلاثة ألوان: أبيض أسود وأزرق. لكن لا يوجد يوم أحمر ولا سنة حمراء حتى أن كان اليوم دمويا، وكانت السنة حربية أو ثورية، ولا يوجد يوم أصفر أو أخضر أو برتقالي أو أرجواني.
أول شيء ينبغي البحث عنه في إسناد ألوان إلى الأيام هو الشعور المصاحب بذلك الإسناد، ويمكن القول إن الأزرق مسندا إلى اليوم أو الليل، هو شعور موسوم بالسلب؛ وكذلك الأمر بالنسبة إلى إسناد الصفتين إلى العام. ومن الغريب ألا نجد هذا الترابط إلا في اليوم أو السنة، أي في العد الزمني الأقصى أو الأدنى، فقلما يقال أسبوع أزرق أو أسود. ينبغي أن نشير إلى فرق بين ربط المصاب بالربط الحسي ومستعملي هذه الاستعارات في أمرين: الثبات والتحول من ناحية، والتلوين الرمزي والتمثيلي من ناحية أخرى.
المصاب بالتصاحب الحسي ثابت في قرنه بين الأيام وألوانها المختلفة، فيمكن أن يكون الثلاثاء أزرق والأربعاء أبيض والسبت أسود، هذا طيلة الأيام وكلما جاء يوم وأدرك مجيئه وأراد تعيينه اقترن لفظ اليوم عنده بذلك اللون. غير أن حديثنا نحن عن يوم أزرق هو حديث عن اليوم، لا باعتباره وحدة أسبوع، بل باعتباره ظرفا واقعا فيه حدث سيئ. لن نجد ما يقنعنا في ربط الليل أو النهار باللون الأزرق في وسم سلبي، فهذا اللون كان في القديم لونا مبجلا عند الفراعنة، لأنه كان مجلبة للسعادة وللخلود، وكان في القرون الوسطى رمزا للطهر. لكن هذا لا يمنع من أن تكون للمجموعات أحاسيس مختلفة تقترن بالأزرق؛ حين أكون منشرحا وأرى من أحب من يرتدي لباسا أزرق على من أحب، فإني سأخزن فرحي في تجربتي وأخزن معه ذلك اللون؛ وحين أكون مهتزا منكسرا أو مضطهدا ومضطهدي يلبس الأزرق، فإني سأخزن في ذاكرتي كل ذلك، وأجعل اللون دليلا عليه سيصبح كل اليوم أزرق. الربط الحسي هو لدى المجموعة المستعملة له عنصر من خليط مشاعر في ظرف معلوم غطى على بقية العناصر وغلف بها. يمكن أن يتواضع الفرد الذي خزن اللون ويومه مع غيره في دلالته؛ ويمكن أن تتسع دائرة التواضع ليصبح ليوم ما لونا أزرق لكن الناس ستنسى بمرور الوقت حكاية اللون وما خزن لأجله و تنسى خبر اليوم وستبقى تجربة مجردة، تربط بين يوم بائس مهما كان اليوم ولون نُسيت قصة ارتباطه بالبؤس.
تفسير الربط في مستوى فردي بين اليوم واللون، لا يستبعد فيه العلماء أن هناك رابطا ما في النشأة بين اللون واليوم، أو لا يستبعدون أن يكون الطفل وهو يتعلم اللغة قد واجه إشكالا في الانتقال الذي نراه نحن الكبار بسيطا بين التجربة الملموسة والتجربة المجردة . ربط يوم معين بلون قد يكون نتيجة لإشكال ما في إدراك الشيء في فردانيته، والالتجاء إلى الاتكاء على غيره كي تستوعبه، هو ضرب من إسناد الوعي باليوم مثلا، أو بالحرف أو بالرقم لا إلى ذاته، بل إلى لون يصاحبه يكون له كالسند حتى يذكر.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Ahmad/Holland:

    حسب علوم الايزوتيريك الانسان يتأثر ويتفاعل مع الالوان وهناك علاقة بين الرقم واللون والشعاع البشري -الذي يمثل تراتبية الألوان-الأشعة اللونية الكونية والانسانية ,و الأشعة الروحية ,و أنّ علم الارقام يشابه علم الالوان من ناحية أن كل مستوى تذبذب يتجسّد في لون محدّد يتناسب ودرجة التذبذب تلك… لذلك تعتبر الالوان تجسيد ذبذبات الوعي… وبما أن الكيان يحوي الذبذبات، فقد حوى الالوان التي تجسّد تلك الذبذبات. كذلك الامر بالنسبة إلى الأرقام، بالتالي تواجدت الارقام (حركة الذبذبة ضمن معادلة رقمية معينة) في الكيان، وصارت طبقة الوعي تُعرف من خلال الرقم الذي يمثلها… مثلما تُعرف درجة الوعي من خلال اللّون الذي يجسّدها.ومن يقرأ عن الالوان في علوم الايزوتيريك سيعتقد بأن الالوان وجدت فقط لِاجل الانسان .

  2. يقول آصال أبسال:

    يقال إن أول من اكتشف ظاهرة ما يُسمى بـ«الإحساس المُزامن» /أو حرفيا، «وحدة الإحساس» Synesthesia، بدلا من تلك الترجمات المضلِّلة، كمثل المذكورة في المقال، «الحس المرافق» أو «التصاحب الحسي»، إلخ/، هذه الظاهرة التي تتبدَّى كحالة متوارَثة لدى نسبة معينة من البشر، إنما هو الباحث الإنكليزي، فرانسيس غالتون، المتعدد الاهتمامات، من بينها اهتمامه بقضايا «علم النسل» /أو اليوجينيا/، منذ زمن مديد يعود إلى قرن ونيفٍ من الزمان.. فقد لاحظ غالتون، في جملة ما لاحظه، أن الحافز الحسي الذي يُعرض من خلل مشروطية ما Modality يولِّد تلقائيا إحساسا يُحَسُّ من خلل مشروطية أخرى تختلف عنها كليا.. وهذا ينطبق على إدراك الإنسان البصري للألوان بالدرجة الأولى، وليس ثمة إنسٌ يدرك المعاني الكنينةَ في الألوان خاصةً أعمقَ ممَّا يدركها الشاعر اللبيب، كما قال غياث المرزوق في رسالته الشعرية المطولة، «وَمَا قَبْلَ ذَيْنِكَ ٱلْجَحِيمَيْنِ حَوْلٌ»، قبل أكثر من ثلاثين عاما:

    /… هَا أَنْتِ
    عَـامٌ أَبْيَضٌ
    – أَوْ
    /… أَخْضَرٌ
    يَدْنُو لِكَيْ نَدْنُـو
    فَنَكْتُبَهُ قَصِيدَتَنَا
    /… ٱلْبَتُولاْ

    / عن الرسالة الشعرية، «وَمَا قَبْلَ ذَيْنِكَ ٱلْجَحِيمَيْنِ حَوْلٌ: بَيْنُ ٱلْتَّسَاؤُلِ» (1)، غياث المرزوق

    1. يقول آصال أبسال:

      وبالطبع لا ننسى هذا المقطع الذي يخاطب بعضا من الألوان خاصة في قصيدة “بيروت” للراحل محمود درويش:

      البحرُ أبيضُ أو رصاصيّ ٌ
      وفي إبريَلَ أخضرُ،
      أزرقُ
      لكنهُ يحمرّ ُفي كلِّ الشهورِ
      إذا غضبْ
      و البحر ُ مالَ على دمي
      ليكونَ صورةَ
      من أحبّْ

إشترك في قائمتنا البريدية