بيروت: عرفها الوسط الثقافي العربي ناشرة وناقدة ومترجمة، حتى جاءت روايتها «يوم الدين» الصادرة عام 2002 في طبعتها البيروتية الأولى، ثم توالت طبعاتها في مصر والجزائر، كذلك ترجمتها إلى الفرنسية والإنكليزية. جاءت الرواية في لغة مغايرة ووجهة نظر مختلفة، لتصبح إحدى علامات السرد العربي الحديث، لما تثيره من أسئلة قلقة، لم يستطع العرب تجاوزها حتى الآن. عن الحالة اللبنانية وأزمة النشر ومأساة القارئ العربي كان هذا الحوار..
■ أنتِ أديبة وناشرة لبنانية، ولبنان والعالم يمران بمرحلة عصيبة، الجائحة وانكسار لبنان كيف تعيشين هذه المرحلة؟
□ العالم ولبنان يعيشان لحظة حدادٍ قرأنا عنها في الكتب، وها نحن نعيشها باللحم الحي. انفجار مرفأ بيروت يوم الرابع من آب/ أغسطس سيظل محفورًا في تاريخ هذا البلد المصلوب على صلبان كثيرة. يولدُ اللبناني في بلدٍ مخلع الأبواب، تحيط به بلادٌ تطمح باخضاعه والعبث بتركيبته الجغرافية والبشرية المعقدة، فتدفعه دومًا صوب البحر والهجرات. بعد حربٍ أهلية وغير أهلية مدمرة، دامت عقدا ونيف توافق راسمو السياسات يومئذٍ على إخراج البلد الصغير من محنته عبر اتفاق وقع في مدينة الطائف السعودية، بيد أن الاتفاق الذي أوقف نار الحرب، لم ينجح في أكثر من ذلك واستمرت الحروب الباردة والساخنة حتى اغتيال رئيس الوزراء اللبناني وخروج القوات السورية من لبنان. منذ ذلك العام ولبنان يئن ويكابر؛ نزل المواطنون إلى الشوارع يوم 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 يطالبون بعقد اجتماعي جديد؛ صدتهم السلطة بشراسة وما تزال رغم التدخل الفرنسي.
لبنان في محنة والعالم في محنة. حين وصل الرئيس الفرنسي لمؤاساة لبنان الجريح حمل معه مساعدات للمدارس الفرنكوفونية، فهو يعرف أن ميزة لبنان مدارسه وجامعاته ودور نشره ومطابعه. ولعل هذه الهبة الفرنسية تشير إلى عمق الأزمة التي يعيشها لبنان. فإذ تختار فرنسا أن تكون إحدى مساهماتها العاجلة تقديم يد العون إلى القطاع التعليمي، فمفاد هذا أنه لا بد من الابتداء من البداية: من المدرسة ومقاعدها. مرعب أن يكتشف بلد احتفل هذا العام بمئوية إنشاء دولته، أنه ما يزال، سياسيا، في حديقة الأطفال!
■ وهل من صناعة نشر إن غاب التلميذ والباحث والقارئ؟
□ مع انهيار نمط العيش اللبناني السابق ومع انضمام البلد المحطم، بعد أن كان بلدًا يدعي الازدهار، إلى نادي البلاد الفقيرة، بل المعدمة المكتفية بالمساعدات والكفاف، صرت أفكر أكثر وأكثر بضرورة توزيع الكتب بالمجان، أو بكتب تمولها الجمعيات والمؤسسات الخيرة. بعد عشر سنوات من العمل المتفاني في مهنة النشر، نصبت دار الجديد في جناحها بمعرض الكتاب اللبناني 1999 ضريحًا للقارئ العربي، كتبنا عليه: «القارئ العربي حتى إثبات العكس». اليوم بعد مرور سنوات على هذا الرأي أرى أنه من المستحيل إقناع العربي، أو الأجنبي بجدوى القراءة كفعل حر، إن لم تراجع العولمة بنهمها للمرابح المادية مناهجها. قبل عامين ترجمت عن الفرنسية مع شريكي لقمان سليم كتاب نوتشيو أوردينه، الأستاذ الإيطالي المعدود من قرناء أومبرتو إيكو «لوجه ما لا يلزم» وفيه يناقش فكرة اللزوم، أو عدمه عبر التاريخ ويخلص إلى القول: «إن العلوم شاهد على لزوم ما لا يلزم، ومن أن لرواد العلوم يدًا لا تتدنى عن يد علماء الإنسانيات، في الحرب على تسلط منطق الربح وتسيده، وفي الدفاع عن حرية البحث العلمي ومجانية المعرفة». صناعة الكتب في العالم العربي خاضعة مهما ناورنا وتحايلنا للسياسات المتبعة في بلادنا، وهي حتى الساعة مؤسسة على الخوف والمنفى.
■ ولكن هل المجانية في توزيع الكتاب هي الحل؟ وكيف سيغطي الناشرون أكلافهم؟
□ القراءة اليوم، في زمن المصادر المفتوحة، متاحة بكرم ومجانية. ملايين الكتب، القديمة والجديدة مطروحة عبر الشبكة وبالمجان. مع نهاية الحروب اللبنانية نشطت جمعية السبيل في لبنان، وأسست مكتبات عامة في أغلب المناطق، كما تحمست بلديات وأغدقت بالتعاون مع جهات مانحة أجنبية على مكتبات عصرية تتيح لمن يرتادها مراجعة الموسوعات واستعمال الإنترنت. التمويل إذن متوفر في مكان ما.
لو عملت هذه المكتبات بجد ولو خُصصت لها ميزانيات مقبولة في كل العالم العربي لعرف الناشر مذ قبل نشر أي كتاب من كتبه أنه سيتمكن من بيع نسخه لهذه المؤسسات. تتطلب هذه المشاريع تعاضد وتفكير مشترك وتخطيط رؤيوي، وهذه المفاعيل غير متوفرة في الوقت الراهن، إذ إن السياسات التعليمية لم تتجاوز بعد التخبط العشوائي أخلاقًا ولغة وتبصرًا. يبقى أن أي كتاب مطلوب لسبب ما يقرصن إلكترونياً لحظة صدوره، ويرسل عبر الحواسيب إلى كل أرجاء المعمورة. مهنة النشر تعيش منذ سنوات لحظات مصيرية. نراها تترنح حتى في البلاد الغنية التي تدعم ثقافاتها وكتبها، فما بالك في بلاد تعتبرُ الجريدة والكتاب ووسائل التفكير أدوات بروباغندا ليس إلا.
صحبتي ومجاورتي اللصيقة لعبد الله العلايلي وخليل رامز سركيس وسعيد عقل وأحمد بيضون ولقمان سليم والنقاش، معهم ومع كتّاب من أزمنة مضت (المتنبي والجاحظ وأبو حيان التوحيدي وابن المقفع وبشارة الخوري وأمين نخلة) ولد عندي أفكارًا حول كيفية تحبيب القارئ بلغته.
■ هل لك أن تتوسعي أكثر في فكرة «الكتاب المجاني»؟
□ لا بأس ولو أن الأمر يقتضيني من الصراحةِ ما قد لا يروقُ الكثيرين. مضى عليّ حينٌ من العمرِ بالمعنيين الشخصي والمهني، آمنتُ فيه إيمان العجائز، بأن القراءةَ «فرضُ عين». بناءً على هذه المقدمة احترتُ ما وسعني أن أحتار كيف أن «أمة إقرأ» لا تقرأ؟ وكيف أن الكتاب لا ينتشرُ بين «أمةِ إقرأ» إلا متى لابستهُ فضيحةٌ ما ـ سواءً أكانت هذه الفضيحة من طبيعةٍ دينيةٍ أو سياسيةٍ أو جنسيةٍ أو غير ذلك.
بناءً على هذه المقدمة أيضًا، آمنتُ ذات حينٍ بأن «إصلاح» مهنة النشر وسوق النشر ممكنٌ مشاركةُ ما وسعه صبري، في ندواتٍ وورش عمل كان تنظيمها على يدِ مؤسساتٍ نشريةٍ غربيةٍ كبرى ومعارضَ دولية. بالطبع لم تكن غاية هؤلاءِ «المحسنين» خاليةً من الغرض، وإنما كان دافعها محاولةُ استدخالِ أمة إقرأ إلى السوق الكوني للكتاب. بناءً على المقدمةِ إياها، كان منا أيضَا في دار الجديد أن ظننا بأن تجويدَ صناعة الكتاب مما قد يقربه إلى القارئ المستهلك، فبذلنا ما وسعنا من جهدٍ في هذا السبيل. يمكنني أن أعدد غير ذلك مما سارت بي إليه تلك المقدمة.
اليوم، يبدو لي، أكثر فأكثر، أن المقدمةَ التي بنيتُ عليها هي ما يحتاجُ إلى مراجعةٍ وإعادة نظر. ولعلي لا أبالغ إن قلتُ بأنني اليوم أقرب إلى التشكيك بتلك المقدمة: كلا، ليست القراءة فرض عينٍ ولا من يحزنون. القراءةُ في المحل الأول متعةٌ لا يستلذها بالضرورةِ كل أحدٍ، من ثم إذا اراد من أحد اليوم أن يروج للقراءة، فعليه أن يبدأ بالترويج لـ «ثقافة المتعة» وبهذا المعنى فإن الكتاب بوصفه منتجًا استهلاكيًا بات آخر همٍ من همومي ومن هموم دار الجديد.
■ خلال فترة العزلة ما هي الكتب التي حلا لك قراءتها أو إعادة قراءتها؟ وهل زادت أو تراجعت مبيعات دار الجديد خلال الأشهر الماضية؟
□ أعرف من ياسين الحاج صالح ومن فرج بيرقدار اللذين أمضيا سنوات طويلة في سجون النظام الأسدي، أنهما أزجيا الكثير من أوقاتهما في القراءة والكتابة. فمن المفارقات السعيدة أن السجون على بشاعتها تضم أحيانًا مكتبات يتعجب المرء مما يجد فيها من كتب. لا مقارنة ممكنة بين حبسي بسبب الوباء، والسجن الذي ذاقه ياسين وفرج. استفدت والحياة سارت ببطء حين أرغمنا على البقاء في بيوتنا متباعدين عن الأهل والأصدقاء، وأعدت قراءة «الطاعون» لألبير كامو و»البؤساء» لفيكتور هوغو. وبنصيحة من صديقة عزيزة اكتشفت الكاتب الليبي هشام مطر وقرأت له كتابين: «العودة» وكتابه الأخير «شهر في سينا». إلى ذلك أصدرت صديقتي يسرى مقدم كتبًا عن الأمومة وعنوانه «صباح الخامس والعشرين من شهر ديسمبر» فقرأته بمتعة وتمعن. أعدت قراءة أشعار جورج شحادة، وراق لي أن تعاد ترجمتها. هذا غيض من فيض، إذ استفدت أيضًا وشاهدت مجموعة لا بأس بها من الأفلام الكلاسيكية. أما عن حركة الكتب التجارية أفيدك بأن موقعي نيل وفرات وأمازون يتحركان ببطء. أقفلت المطارات لفترة طويلة فلم تسافرُ الكتب من بيروت إلى عواصم العالم، أما الكتب الإلكترونية فلم يكتشفها بعد إلا بعض العرب والكتب التي يطلبونها هي كتب أحيطت بدعاية مرموقة، أو بجدل لم ينته ككتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» الصادر عن دارنا، ضمن سلسلة طبق الأصل التي تستعيد طبعات أولى نادرة وتعيد نشرها.
■ روايتك «يوم الدين» تترجم حاليًا إلى الإيطالية، بعد ترجمتها إلى الفرنسية والإنكليزية. كما أن بعض القراء يريدون ترجمتها إلى عربية أبسط. ما رأيك بكل ما قيل ويقال حول روايتك الإشكالية؟
□ بعد مرور سنوات على صدور «يوم الدين» ها هي تترجم إلى الإيطالية. هذا دليل على أن ما كتبت لم يتغضن، وأن لا عمر ولا حدود لا للأدب ولا للترجمة.
«يوم الدين» بعربية لا تشبه لغة بطلها الشيخ المعذب؟ من يتجرأ؟ هل من مترجم ليوم الدين إلى عربية شعبية؟ قد أوافق وقد لا أوافق. الكتاب، ككل كتاب عاصٍ يشب عن طوق صاحبه أو صاحبته. «يوم الدين» الرواية لم تعد ملكي من زمان لقد سبقتني إلى الحرية.
■ «كتاب الهمزة» كتاب يحاول شرح قاعدة متحفية غير متفق عليها في الإملاء العربي. تتلمذك على يد العلامة الشيخ عبد الله العلايلي صاحب «مقدمة لدرس لغة العرب» و»أين الخطأ» ونشرك لكتب خليل رامز سركيس هل أثرا في علاقتك باللغة العربية؟
□ صحبتي ومجاورتي اللصيقة لعبد الله العلايلي وخليل رامز سركيس وسعيد عقل وأحمد بيضون ولقمان سليم والنقاش، معهم ومع كتّاب من أزمنة مضت (المتنبي والجاحظ وأبو حيان التوحيدي وابن المقفع وبشارة الخوري وأمين نخلة) ولد عندي أفكارًا حول كيفية تحبيب القارئ بلغته. كتاب «الهمزة» يحتاج إلى طبعة جديدة يضاف إليها ما توصلت إليه بعد أن ألفت الكتاب، وهو يحاول إخراج اللغة من جهامة من قعد لها في أزمنة غبرت. العربية لغة تحتاج إلى من يحنو عليها ويحبها، ويحافظ على دقائقها ويمتثل لمزاجها. العربية رغم ما ينوحه النائحون لغة حية.
■ من سلاسلكم في دار الجديد تستوقفني «بشهادة الأصل» وهي الكتب المترجمة مع النص الأصلي و»طبق الأصل» وهي طبعات أولى تنشر طبق أصلها. ماذا عن هذين المشروعين؟
□ مشروعان تهتم بهما الجديد منذ تأسيسها، وستستمر في البحث عن ترجمات تستحق أن تنشر بشهادة أصلها وبطبعات أولى تستحق الاهتمام. النشر بمفهومنا مشغل ومحترف ومختبر يتيح للقارئ التفكير، على مهلٍ، بماضيه وحاضره وبعلاقته مع لغات المعمورة. ننتظر قيامة لبنان لإعادة نشر أعمال إسكندر رياشي وهو صحافي لبناني كتب بحرية وطرافة عن أوضاع بلده المعذب.
■ العالم بعد الجائحة لن يشبه العالم قبلها، ولبنان بعد صلبه وموته لن يشبه لبنان القديم. ما رأيك؟
□ بسبب ما اسمي الطاعون الأسود كتب ابن خلدون مقدمته الشهيرة. كما أن بول تسيلان كتب ما كتب من قصائد جارحة بسبب النازية. الفنانون يرون التاريخ يكتبونه ويرسمونه ويفكرون به بحساسياتهم ومواهبهم. لا شك عندي أن هذه اللحظة من تاريخ لبنان والبشرية حبلى بمقاربات ستدهشنا. وبكل الأحوال لم يعول لبنان يومًا على سياسيه بل عوّل على مخترعيه وفنانيه وكتابه، وهم في عرفي قبل أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه قرؤوا وحلموا.
■ نعم، الأحلام هي ملائكة الكتابة. لو قرع أحمد المتنبي بابك (وهو بالمناسبة بطلٌ من أبطال روايتك) ماذا ستقولين له؟
□ سأحتضنه وأذرف دمعة حرى على كتفه، وأقول له كم اشتقتُ لهذا اللقاء، وأذكره ببيته الشهير «يا أمة ضحكت من جهلها» الأمم ثم أقطف له من فلتي زرًا وأقدم له نسخة من «يوم الدين»!