تعتبر مجتمعاتنا الكتاب عنصرا زائدا فوق الحاجة، لا نعيره اهتماما إلا عندما نحتاجه في اجتياز مرحلة، امتحان مثلا، أو البحث عن معلومة عابرة، أو للزّينة، كأن تحتضنه مكتبة في عرض قاعة استقبال يتمظهر به صاحبه أمام نظر الضّيوف الذين لا يرون سوى التّناسق بين اصطفاف الكتب وتجليدها ولون المكتبة، ولهذا لمّا علم أحد زوّاري بثمن مجلّدين، «تحفة الزّائر» لمحمد بن الأمير عبد القادر وأربعة أجزاء لمذكرات أحمد توفيق المدني «حياة كفاح»، تفاجأ، ولابد أنّه قال في نفسه ما هذا التبذير؟
العلاقة مع الكتاب بالضّرورة تاريخية، بمعنى أنّ القارئ يختزن ذاكرة تحتفظ بصور متنامية مرحليا للتّعامل معه، قد يكون مبدأها من الطفولة. لمّا أعيد تأمل بعض الخربشات على صفحات أحد كتبي الأولى التي أحتفظ بها منذ أن كنت جاهلا تهجئة الحرف، «ابن الفقير» لمولود فرعون، رسمتُ عليه وجه رجل، هل كانت حركة ذلك القلم الذي لم أعد أذكر شكله عفوية وهي تدير الخطوط لتنجز ذلك الرّسم؟ بالطبع، وبوعي الطفل يمكن أن يكون كذلك، ولكن أذكر فرحي حينها لأنّني تعلّمت رسم شيء، فمارسته على صفحة كتاب، وربّما كان ذلك فاتحة العلاقة مع القراءة، وربّما كان ذلك أيضا جسرا بين خيالين، خيالُ وجهٍ مرسوم، وخيال رواية لا أعرف كيف أتهجى أحداثها، فتكرّس خيالها مجهولا، لكنّه ربَط وعي الطفل ببياض صفحة كتاب، إذ لو كان ورق الرّسم متوفّرا، لربّما كان الحال غير ما هو عليه من اكتشاف شكل ورائحة الكتاب.
أذكر في الطفولة أربع روايات كان لها الأثر العميق في تشكل وجدان القراءة الأوّل، «روكامبول في السّجن» لم أعد أذكر الكاتب، «دافيد كوبر فيلد» لشارلز ديكنز، «التراب» لأبي العيد دودو، ورواية «ردّ قلبي» ليوسف السّباعي، وهذه كانت خاصّة أبي، أذكر أنّني عثرت في طفولتي منتصف السّبعينيات في أشيائه على مجلة «المصوّر» المصرية وكانت تحتوي على موضوع يتناول حرب 73، واندهشت حينها لأنّ الفاصل بين زمن الرّاهن آنذاك وزمن الحرب كان عامين، وأصابتني حيرة، كيف للحرب أن تندلع على بعد عامين من طفولتي، ربّما كان يتبادر إليّ أنّ الحرب لا تقوم في زمني بل يكفي أن أسمع عنها، وأذكر جيّدا صدمتي تلك، ربّما كانت القراءة في ما بعد تحمل أثار هذه الدّهشة.
العلاقة مع الكتاب ليست اعتباطية عفوية، أي أنّ القارئ ليس شخصا متطفّلا على عالم الكتب، إنّه حالة تكرّس علاقتها، ربّما على غير وعي بما ستؤول إليه، لكن، لابد في رأيي أن تكون هناك علامات تذكّر الشّخص الذي مسك يوما ما كتابا ولم يفلته من يده إلى ساعة وجوده الرّاهنة أن يلمَّ عناصرَ بيئةٍ بَنَتْ في كيانه محبّة الكتاب، شظية مهملة تنغلق على فرح صغير كان يمثل حينها طفولة واعدة بالخيال، كان ذاك فرحي الوحيد الذي جمع بين ساعة، أذكر علامتها jivex، أُهْدِيَتْ لي وأنا في السّنة الثانية إعدادي، فاجتمع فرح امتلاك ساعة مستطيلة لوحتها خضراء، تراقيمها مربّعات صغيرة فضّية، وترقيم السادسة عبارة عن رزنامة، وفرح شراء روايتين، التّراب وروكامبول، ووعيي الآن يسمح لي بالتدخل لقراءة هذه الحالة العفوية في تاريخ علاقتي بالكتاب، أي اجتماع عنصري الزّمن والقراءة، وهما العاملان اللازمان لصناعة الموقف الحضاري.
يمكن أن يكون الزّمن هو القراءة، ويمكن أن لا يكون هو المال، خلاف ما يقول المثل الغربي، فالكتب تُقتنى والقارئ محمّلا منذ البداية بهاجس قراءتها، وفي زمن ما، تراود القارئ فكرة إتمام قراءة الكتاب بسرعة كي يمرّ إلى كتاب آخر، ثم يصيبه تقاعس التّسويف، إلى أن يركن أحيانا الكتاب في رفّ النّسيان، ليعثر عليه بعد زمن بعيد أو قريب من شرائه، يقرأه، وقد يندم لأنّه فوّت كل تلك المتعة على نفسه في اكتشاف عوالمه، إذًا، الزّمن غير مفصول عن الكتاب، وربّما يساهم الكتاب في تنظيم الوقت، وفق اعتبارات بافلوفية واضحة، فقد تشير السّاعة السّادسة مساءً كلّ يوم، مثلا، إلى رقم صفحة في كتاب، ويتحوّل الزّمن من دقّات السّاعة، أو التكتكة إلى رسم الكلمات، وقد تغدو السّاعة في معصم القارئ خريطة من أحرف بدل الأعداد.
تشكل المكتبة واسطة بين القارئ والكتاب، ذلك الشّكل المركون على رفّ مغبرّ، الحامل لأصناف من الكتب التي قد تكون تواريخ نشرها قديمة نوعا ما، القارئ المسكون بالكتاب لا يهمّه ذلك بقدر ما تمثل المكتبة في شكلها رغبة لا تسكن إلا بولوجها، حبّة أسبيرين لتسكين ألم الرّأس، أو حرف من الأبجدية لتوتير الخيال، فالكتاب حينها لا يغدو اسما لكاتب يبحث عنه، أو عنوانا مغريا يُسيل لعاب الحاجة إلى المعرفة، ولكن لحظة لقاء مع الكتاب، حين تمتدّ إليه اليد معتلية الرّأس إلى رفّ عالٍ، تنكمش الأصابع وتتجرّأ السبابة في تمدّد حانٍ لتمسك بأعلى الكتاب في محيط صغير يشبه حرف u، تجذبه مائلا وكأنّه ينكشف شيئا فشيئا إلى أن تمسك به اليد منتقلا نحو مستوى العينين غير بعيد عن نبض الصّدر، وكم تكون الفرحة كبيرة حين العثور على كتاب نادر غير متوفّر، مبحوث عنه، إذ يصبح القارئ مالكا لشيء لا يقدّر بثمن، يحضن كتابا أو كتابين على قدر طاقة الجيب ثم يتّجه صوب المُحاسب ليدفع ثمن صفحات أعادت ترتيب خياله وهو يجوب الرّفوف معلّقا عينيه في عناوين وأسماء، ونفسه تحدّثه باقتناء المزيد، ويده تمتدّ دون إرادته، لكن جيبه يقف له بالمرصاد، حينها يعود أدراجه إلى نفسه ويهرب قبل أن تزيد رغبته في اشتهاء المكتبة كلها حملا معه.
… «وخير جليس في الأنام كتاب»، شطر بيت ربّما نردّده كحكمة كلّما تداول حديث القراءة، وشدّد الكلام على صداقة الكتب، وننسى أو نتناسى نحن المولعون بها أنّنا أحيانا يصيبنا العزوف عنها، ونملّ الكتاب الذي بين أيدينا، فنعيده إلى الرفّ في أحسن الأحوال أو نرمي به في زاوية وننساه، وقد يصيبنا كتاب آخر بالملل، فنملّ القراءة من أصلها، وقد يستمرّ العزوف أيّاما، أو شهورا، وقد هالني مرّة تغيّر ملامح أحد أصدقائي حينما أخبرته أنّني عازف عن القراءة، فرأيت اندهاشا ضاقت فيه عينيه، وانقرصت خطوط وجهه ولم يزد على: لا…
ليس الكتاب حالة عابرة يمكن أن تُكتسب بسهولة، إنّه دربة على تعلم الصّداقة بمضامين أخرى، الصّداقة في المستوى الورقي، حيث بياض الصّفحات يشرّع الخيال على أكوان أخرى لا تنتهي، ونكتشف أنّ بعد كل مغامرة داخل فضاء يسجننا فيه الكتاب لمدّة، هناك مغامرة أخرى تنتظر، وككل الإنتظارات فإنّ انتظار الهجرة في كتاب، أيضا تمثل انزعاجا ما يلبث أن ينجلي بمجرّد اكتشاف جهلنا في ما بدا فيه من فكرة.
أجمل صداقات الكتاب هي تلك التي تُفتح فيها ورش تضميد جراحاته، أي ذلك المزق الذي يصيب غلافه أو صفحاته مع تقادمه، ألذّ اللحظات هي تلك التي أفرش خلالها كتبي ثم آخذ الشّريط اللاصق الشفاف لأغلّف به دفّتي الكتاب فيرتدّ لمّاعا بوجه شفّاف، كما هي الكتب في صداقتها.
أصعب شيء في صداقة الكتاب هو إعارته، الإهداء شيء آخر، تستعذبه الذّات القارئة، أن تعير كتابا معناه أنّك تظلّ في شوق حارق إلى رؤيته من جديد يعود إلى حضنك، وكم هي الكتب التي لم تعد، وتركت في النّفس جراحا لا تندمل، وهناك كتب نسينا أنّها كانت عندنا حتى نعثر عليها بتواقيعنا في مكتبات أخرى أو على أرصفة الشّوارع معروضة للبيع، كما أخبرني مرّة الرّاحل حسين فيلالي، فنكتشف حينها تفاهة إنسانية تستولي على أشياء بسرقة مهذّبة، ثم تتخلى عنها لتتلقّفها الشّوارع، لحظتها تكون كتبا ضالّة.
٭ كاتب جزائري