صدىً واسع وضجيجٌ مستنكرٌ عالي الصوت، أعقبا القبض على ثلاثة قياديين في «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية»، هم المدير التنفيذي جاسر عبد الرازق، ومدير العدالة الجنائية كريم عنارة، والمدير الإداري محمد بشير منذ قرابة الأسبوعين.
جاء ذلك عقب زيارةٍ قام بها دبلوماسيون غربيون، من ضمنهم سفراء ألمانيا وبلجيكا وفرنسا وسويسرا وإيطاليا، لمقر المبادرة، نوقشت فيها حقوق الإنسان في مصر في بدايات نوفمبر.
كما هو متوقع لم تلبث قوات الأمن أن تعقبت هؤلاء القياديين الثلاثة، ووصل بها الأمر إلى القبض على أحدهم، في منتجع دهب في سيناء، ألهذه الدرجة بلغ حجم تعديهم هم العتاة في الإجرام: لقد تكلموا ليس هذا فحسب، بل مع سفراء أجانب، حيث لا بد أنهم شنعوا على مصر وأبلغوهم (كجزءٍ من طبيعة نشاط المبادرة المعلن) بأن أوضاع حقوق الإنسان والحريات الشخصية ليست على ما يرام، فكسروا بذاك تصوراً لا بد أنه كان راسخاً قبلذاك لدى هؤلاء السفراء، بأن المصريين يتمتعون بالحريات السياسية والشخصية نفسها للمواطن في دولةٍ اسكندنافية كالسويد مثلاً، لذلك وُجهت لهم تهمتا «نشر أخبار كاذبة» و»الانضمام لجماعة إرهابية».
كأي نظامٍ مستبدٍ أتى بانقلابٍ لا بد له من مؤامرةٍ وحربٍ ما، يبرر بها قمعه ويسوغ بقاءه
الحقيقة لا أدري إن كانت تهمة الانضمام هذه نوعاً من الاستسهال، أم الاستعباط، أم ترسيخاً لنسقين معينين منفصلين يصير بموجبهما المواطن إما «معنا»، أي مع النظام، وإما مع «الجماعة الإرهابية» بغض النظر عن قناعاته وانتماءاته، إذ لزم التنويه بأن الثلاثة أبعد ما يكونون عن الإسلام السياسي والحركي، بل إن واحداً منهم على طرفٍ نقيض، ومن أسرةٍ لها تاريخ عتيد في صفوف اليسار المصري، هو جاسر عبد الرازق نجل الراحل حسين عبد الرازق عضو المكتب السياسي لحزب التجمع، والكاتب في صحيفة «الأهالي»، وبالتالي فقد تحور تعبير «الجماعة الإرهابية» ليصير لا فضفاضاً بحيث يشمل كل المعارضين والمنتقدين، ومن يبدوعلى سحنهم عدم الرضا فحسب، بل مسوغاً أيضاً لإسقاط كل الحقوق المدنية والإنسانية الطبيعية عنه.
المهم، من حسن حظ هؤلاء الثلاثة، انتفضت هيئاتٌ دوليةٌ عديدة وجهاتٌ مسؤولةٌ في دولٍ غربية كمنظمة العفو الدولية والخارجية الفرنسية وعبرت عن القلق والرفض وربما الاستنكار عن ذلك العصف بحقوق الناس، وعلى رأسها حقهم في الحرية، بدون جرائم حقيقية، وما لبث أن انضــــم إليهم مشاهـــــير، لعل أكثر من علق في أذهان الناس منهم كانت النجمة سكارليت جوهانسن، التي نددت بتصرف الحكومة المصرية مطالبةً بالإفراج عن هؤلاء الثلاثة، أي باختصار، صارت فضيحة النظام المصري عالمية و»بجلاجل» من تصرفٍ روتيني وطبيعي يمارسونه مع كل معارضيهم، بل ربما قد يعتبرونه اتسم هذه المرة برفقٍ ولطفٍ نسبيين مقارنة، بما يتعرض له مغمورو الناشطين والإسلاميين مثلاً، من غلظةٍ وقسوةٍ عادةً ما تتخطى حدود التوحش، ونتيجةً للضغط تم الإفراج عن الثلاثة.
على قدر ما سعدت بذلك من أعماق قلبي، وكأنني أنا الذي حُررت، إلا أن سؤالاً مؤرقاً بل معذباً لم يبطئ في الإلحاح عليّ: لقد أُطلق هؤلاء إذ وجدوا تلك الهيئات الدولية ونجمة نجوم هوليوود الفاتنة تزعق في شأنهم، فما بال المغمورين؟ ما بال الآلاف الذين لا نعرف لهم اسماً، ولا يدري بهم إلا ذووهم ودائرةٌ ضيقة من المعارف والأصدقاء وجيران، ربما يختارون نسيانهم وتجاهلهم مشيحي أنظارهم بعيداً، هرباً من مواجهة واقعٍ قاسٍ ونظامٍ باطشٍ لا قبل لهم بمجابهته أو مقاومته؟
في ما مضى، أُفرج عن الشابين محمد سلطان وآية حجازي، كونهما يحملان الجنسية الأمريكية. أدرك تماماً أنهما قاسيا في السجون فترةً معتبرة، وأُغرقا تهماً تودي بهما وراء الشمس (منها تسهيل دعارة الأطفال والاتجار في الأعضاء في حالة آية حجازي على سبيل المثال)، إلا أنهما في نهاية المطاف أوفر حظاً من غيرهما ممن لم يجدوا سفارةً أو وزارة خارجية أو ترامب، الذي استقبل آية حجازي في البيت الأبيض، ليدافعوا عنهم، وكما نعلم جميعاً فهؤلاء يبلغون عشرات الآلاف.
في هذ السياق هناك من رأى في هذا الإفراج المبكر بوادر انفراجةٍ وتغييراً للنهج من الاعتماد المطلق على العنف والقمع وإرهاب الدولة نحو انفتاحٍ نسبيٍ وتحملٍ ما (ولو محدود) لمظاهر المعارضة، أو على الأقل النية بذلك. للأسف، فإنني لا أتفق مع هذا الرأي وأراه في المجمل إفراطاً في التفاؤل، وانسياقاً مع الأماني، هروباً من قسوة الواقع وانغلاقه وقبحه؛ تنبع قناعتي تلك من تحليلٍ لطبيعة النظام والمرحلة التي يمر بها، وتكفي الإجابة على بعض الأسئلة أو طرح بعض النقاط لتوضيح ذلك. أولا لا بد من التأكيد بأن ضغطاً دولياً في الأساس (وربما وحده) حدا بالنظام للإفراج عن الثلاثة، خاصةً أنهم في حقيقة الأمر لا ينتمون لتنظيمٍ أو جهةٍ يشكلان تهديداً حقيقياً لبقاء النظام.
لكن الصورة تتضح أكثر لو سألنا لماذا سجنوا من الأساس؟ سجنوا لأن النظام، إيماناً منه بأن مباركاً سقط بسبب هامش الحرية الذي أتاحه، من ذلك الفتق الذي اتسع، فقد اختار، إذ وثب ليعيد بناء نفسه عبر ثورةٍ مضادة، أن لا يكتفي باحتكار أدوات العنف فحسب، وإنما السردية والحكاية، فانطلق في حملة شراءٍ وسيطرةٍ على كل الإعلام الداخلي، بما يملأ كل الأبصار فيزيغها ويصم كل الآذان، وكأي نظامٍ مستبدٍ أتى بانقلابٍ لا بد له من مؤامرةٍ وحربٍ ما، يبرر بها قمعه ويسوغ بقاءه، ولما كانت إسرائيل لم تعد تصلح لهذا الدور، نظراً للتحالف الاستراتيجي البين، ولا الامبريالية لأن هذا صار كلاماً قديماً، ونحن في شراكة استراتيجية من الناحية الفعلية أيضاً مع الامبريالية منذ قرابة الخمسين عاماً، فإن «الجماعة الإرهابية»، هي الحجة والعدو والهدف الأسهل، خاصةً في السياق المحلي والعالمي، الذي يحصد عبث الأنظمة وتلاعبها مع فصائل الإسلام السياسي، والآن كما كان سابقاً فإن النظام لا ولم يرد صوتاً يعلو فوق صوت معركته المبالغ فيها حد الوهم تلك، وفي مقدمتها بالطبع أصوات المعارضين بغض النظر عن ألوانهم وخلفياتهم.
للأسف العنف ركنٌ مؤسس للتركيبة الحاكمة ويعكس مزاج السيسي الذي يقرن بين العنف وابتذال الحياة والبلادة، ولا أرى ذلك مرشحاً للتغير نحو الانفراج في القريب العاجل، فلا النظام أدرك ثأره، ولا هو حقق نجاحاتٍ اقتصادية، ولا المنطقة استقرت بما يسمح بشعورٍ بالاطمئنان النسبي، ومن ثم يهدأ قليلاً ويتسع صدره فيسمح بمساحاتٍ ولو من قبيل التنفيس. وفي المحصلة يتبين أن الإنسان المصري العادي أو البسيط، المصري فقط، أي الذي لا يحمل جنسية بلدٍ أجنبي قد يحميه، وليست له علاقاتٌ خارجيةٌ قوية تلحقه بتلك القلة الناجية من مزدوجي الجنسية، هو في النهاية ملكيةٌ حصرية للنظام، لا حقوق طبيعة له إلا بالقدر الذي تسمح به السلطات، التي سرعان ما ستبين له إذا أغضبها بالمعارضة فعلاً أو قولاً أو تلميحاً بأن «مصريته» ليست إلا لعنةً وأنه أسير لدى ذلك النظام.
مباركٌ للثلاثة الإفراج، فهو حقٌ أصيل، أما عشرات الآلاف القابعون في السجون وغيرهم ممن يسحقهم الفقر، ويسكتهم الخوف فرُب ثورةٍ تحررهم جميعاً من الأسر والخوف، وفي انتظار ذلك أو فرجٍ من الله، فللأسف لا عزاء للمجهولين.
٭ كاتب مصري