تكاد لا تسمع في لبنان وعنه إلا التخوف من مصائر الانهيار، مع أن الانهيار جرى ويجري، فقد نزل أكثر من نصف اللبنانيين إلى ما تحت خط الفقر، قد يزيدون عاجلا إلى نسبة الثلثين، مع خطة إلغاء دعم الوقود والأدوية والأغذية، ونفاد الأرصدة المالية الاحتياطية إلا من قليل، وعبثية أي معنى لحديث مضاف عن تهاوي الليرة اللبنانية، فقد جاوزت من زمن حاجز الثمانية آلاف ليرة مقابل الدولار الواحد، كل ذلك والديون تتضخم، وصرخات مقاومة الفساد تذهب مع ريح الخراب، ودقات إشهار الإفلاس العام تصم الآذان.
والدولة في لبنان صارت من ورق وعلى الورق، لم يعد أحد يهتم بما تثيره من ضوضاء، فثمة رئيس جمهورية قابع في قصر «بعبدا»، يكاد لا يفعل شيئا سوى الشكوى، وسوى مواصلة العجز البليد، والتبشير بذهاب لبنان إلى محطة جهنم، وتقطيع الوقت بدعوى انتظار تشكيل حكومة.
جريمة لبنان أنه لبنان، بلد مختلف، وشعب يعيش في قلب عاصفة، اقتلعت بلدانا أكبر مجاورة كالعراق وسوريا
وطلب عون لا يأتي من المبادرة الفرنسية، التي يعيقها بنفسه، ويعقد مهمة تشكيل حكومة اختصاصيين برئاسة سعد الحريري، الذي يستميت في تعويم نفسه، رغم أنه كان استقال قبل أكثر من عام، مبادرا بالاستجابة لغضب اللبنانيين في انتفاضة 17 أكتوبر 2019، التي تتعالى أنفاسها بين الحين والآخر، من دون نجاح يذكر، لا في تصفية الحساب مع امبراطوريات النهب، ولا في زحزحة الطبقة الطائفية عن كراسيها، بينما تبقى حكومة حسان دياب في ضباب المشهد، رغم تقديمها استقالتها رسميا من شهور، واستمرارها في تصريف أعمال غائبة بالجملة، فما من عمل يستجد في لبنان غير زحام الكوارث، من الانهيار الاقتصادي والمالي، إلى توابع انفجار المرفأ، واحتراق وتهديم ثلث العاصمة بيروت، وقسوة جائحة كورونا، التي زلزلت أوضاع اقتصادات أقوى من لبنان بمراحل، فما بالك بالبلد الصغير الجميل، الذي تقوده الأقدار إلى مصير لا يستحقه شعب عظيم، ملأ دنيا العرب طويلا بحيويته وإبداعه، وصموده الباسل المتحدي لنوائب الموت والدمار، فيما تتراخى حبال الصبر انتظارا لإعلان تشكيل حكومة الحريري الجديدة، المكونة كما يقال من 18 وزيرا اختصاصيا، جرى تقديم لائحتها المبدئية إلى الرئيس ميشيل عون قبل أيام، وتركت فيها خمسة مقاعد خالية، ليختار أسماء شاغليها الرئيس، الذي يريد وزارتي الداخلية والطاقة لجماعته في «التيار الوطني الحر»، وهو ما يرفضه الحريري، ويستقوي بضغوط فرنسا، التي نصحت باختيار مستقلين تماما لشغل مناصب وزراء العدل والطاقة والداخلية، على أن يكون التشكيل منتهيا ومصادقا عليه من مجلس النواب، وفي أوان غايته 21 ديسمبر 2020، موعد زيارة الرئيس ماكرون الثالثة لبيروت المنكوبة.
وقد لا يصح أن يسأل أحد عن ذنب لبنان، وبأي جريرة يقتلونه، ويدقون المسامير في جسده الجريح المعلق على الصليب؟ فالجواب أكثر من بديهي، وجريمة لبنان أنه لبنان، بلد مختلف، وشعب يعيش في قلب عاصفة، اقتلعت بلدانا أكبر مجاورة كالعراق وسوريا، وزجت بهما في نفق حروب لا تنتهي، بينما ظل لبنان الأصغر في أمان نسبي، استفاد من عظة حربه الأهلية المتقادمة، التي استمرت على مدى 15 سنة، وقتلت من أهله أكثر من مئة وعشرين ألفا، ثم قام البلد من تحت الردم، وعادت حواسه تتفتح، وإبداع ناسه يتألق، وعطاؤه يتدفق، كجزيرة حرية مضيئة وسط ظلام عربي خانق، وكقلعة مقاومة بلا نظير في نصف القرن العربي الأخير، مشت عكس اتجاه ريح المستسلمين المستذلين، وحررت أرضها المحتلة شبرا فشبر، ومن دون أن تعطي كيان الاحتلال الإسرائيلي صك أمان، ولا اتفاق تطبيع ولا معاهدة استسلام، ثم خاضت حروبا هي الأطول عمرا في تاريخ المنطقة المعاصر.
وصار لبنان الأضعف في ما مضى، هو الأقوى بامتياز، الذي لا يخشى العدو من أحد شرقا وشمالا، قدر ما يخشى المقاومة اللبنانية متعاظمة القوة، التي يعدها العدو أكبر خطر على وجوده الغاصب، ومن دون أن يفلح مرة في ردعها، وهو ما يفسر كل هذا الحقد المتكالب على لبنان، والرغبات الحارقة الثأرية في إطفاء أنواره، وبحلف واسع من المتربصين، يبدأ في واشنطن ولا ينتهي في تل أبيب، ويكاد لا يستثني عاصمة عربية متآمرة، مكتنزة لفوائض الأموال الفلكية، التي تدفع منها مئات مليارات الدولارات لواشنطن، بل ولتل أبيب مباشرة، بعد عقد ما يسمى «اتفاقات إبراهام»، التي تدشن حلفا في المشرق والخليج بقيادة إسرائيلية مباشرة، يضع رأس حربته على عنق لبنان بالذات، وبدعوى مواجهة إيران، التي دعمت المقاومة اللبنانية بالمال والسلاح، بينما تخلى عنها «الإخوة» العرب والخليجيون بالذات، بل حاربوها بحمية تفوق حماس الإسرائيليين والأمريكيين، وكلهم صاروا يحاربون لبنان كله، وليس فقط «حزب الله»، وبهدف تجويع وتحطيم البلد عقابا له على احتضان المقاومة، التي هي من اللبنانيين لا الوافدين، بينما لا تتأثر المقاومة ولا بيئتها الاجتماعية الحاضنة كثيرا، وتواصل عيشها المعتاد في أقسى الظروف، وبمؤسسات «القرض الحسن» لا المصارف اللبنانية الرسمية، التي ذهبت في طريق الهلاك، وكبّلتها سلاسل العقوبات الأمريكية المتوالية، التي ادعت أنها تستهدف المقاومة وأنصارها، ولم تكتف بما تصورته عقابا لحزب الله الموصوف عندها بالإرهاب، بل أكملت دورة حصارها، وتوسعت لتعاقب حركة «المردة» المسيحية بقيادة سليمان فرنجية، بعد عقاب حركة أمل الشيعية الحليفة لحزب الله، وفي صورة معاقبة علي حسن خليل من «أمل»، ويوسف فنيانيوس من حركة «المردة»، وكلها أسماء قد لا تكون بعيدة عن الفساد، تماما كجبران باسيل زعيم التيار العوني، الذي لحقته العقوبات، لكنهم لا يعاقبون أمريكيا لفسادهم المرجح، بل لموقفهم المساند لحزب المقاومة، الذي يحظى بأوسع قاعدة تأييد في صفوف الشيعة، وهم أكبر طوائف لبنان عددا اليوم، ولا يراد من سيل العقوبات الأمريكية، ولا من تخلف «صهاينة» العرب عن نجدة لبنان ماليا، لا يراد سوى دفع كل الطوائف لحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، بينما «حزب الله»، سواء أحببته أم كرهته، وله آثام لا تخفى، من نوع تدخله في اليمن، ومشاركته الدموية في حروب المأساة السورية، لكن وجوده الأقوى في لبنان، يظل الضمانة الكبرى المتوافرة لمنع انزلاق لبنان إلى حرب أهلية جديدة، تخشاها الأطراف المستعدة للتجاوب مع التحريض الأمريكي الإسرائيلي الخليجي التطبيعي، ربما لأنها تعرف مسبقا بنتائج أي شروع في حرب داخلية، قد يحسمها «حزب الله» في ساعات، خصوصا مع الضعف التكويني الخلقي في الدولة اللبنانية، التي تبدو أقرب إلى شركة مساهمة منها إلى معنى الدولة الحارسة.
فمع طبع المحاصصات الطائفية التي ولد بها لبنان، قد تتوافر حريات أكثر، لكن الحريات لا تتحول أبدا إلى ديمقراطية تحكم، ولا إلى فصل سلطات موجودة صوريا، مع تفاقم عجز الصيغة الطائفية، تحت وطأة الكوارث المستجدة، وتفسخ معاني وأثر الرئاسات والحكومات، وتفشي الفساد الحاكم بأمره، وحرب التواطؤ الطائفي ضد الانتفاضة اللبنانية الأحدث، التي طاردت حلما بدا مستحيل التحقق، يبغي قيام لبنان جديد على أساس وطني جامع، لا طائفيا مغلقا عاجزا بالجملة.
والمحصلة مع زحام التوازنات والمخاطر والتآمر، أن يظل لبنان معلقا على صليبه، فلا «الضغوط القصوى» قد تجره إلى حرب هلاك أهلي، ولا البلد قادر على النجاة بنفسه من دون كفيل من خارجه، وما من أفق مفتوح على فرص إنقاذ عاجل، حتى لو تشكلت الحكومة الجديدة، ربما بانتظار تسلم جو بايدن لكرسي البيت الأبيض، وما قد يعقبه من انفراج نسبي في علاقات إيران مع واشنطن، وإن كان الانفراج لا يبدو مؤكدا ولا سريعا، فسوف يحتاج بايدن إلى شهور، يركز فيها على ترميم الوضع الداخلي في أمريكا نفسها، ثم يبدأ الحركة على صعيد العالم وبضمنه المنطقة، فهو يبدي استعدادا مبدئيا للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، ولكن مع شروط أصعب، تتجاوب إلى حد ما مع مطالب إسرائيل وكيانات التطبيع الخليجي، من نوع تجميد برنامج إيران الصاروخي، وتقليص تمدد النفوذ الإيراني، وهي شروط تؤيدها الدول الأوروبية المستبشرة بقدوم بايدن، ولا يحتمل أن تتجاوب معها طهران، وهو ما قد يعني استطرادا، أن عذاب لبنان قد تتوالى فصوله لزمن إضافي، فلبنان هو الترمومتر الحساس لأوضاع المنطقة، وهو الجرم الصغير الذي ينطوى فيه العالم الأكبر، وتتأثر خلجاته تلقائيا بما يجرى من حوله ومن وراء المحيطات.
*كاتب مصري
القاومة الللبنانية انتهت مع اليونيفيل! المقاومة اللبنانية ذهبت إلى سورية لتحرر الأماكن المقدسة مثل مقام السيدة زينب وطرد أهل السنة إلى المنافي والبؤس، لأن تحرير الأرض المحتلة والجولان لم يعد مطلوبا. الشيخ حسن يبحث مع أصدقائه في طهران كيفية تنفيذ سياسة الصبر الاستراتيجي، ونسي أن الصبر أحرق دكان العطار ،ولذلك قصة يعرفها المتخصصون في الأدب الشعبي. آه يا بلد!
شكرًا أخي عبد الحليم قنديل. أعرف أنك تحاول التمسك بموضيعية الطرح ولكن هناك نقاط هناك اجدال كبير حولها. لبنان تحرل إلى دولة فاشلة بسبب المرض ذاته الذي جعل تلعراق وسوريا دول فاشلة. المقاومة والممانعة والبعث والتسلط الدكتاتوري والعائلي والطائفي على الدول تماما في العراق سابقًا وحاليًا وتماما في سوريا سابقًا وحاضرًا. بالطبع تتابع الأمر بعد السيطرة الإيرانية على السياسة والحكومات في العراق وسوريا وبالتالي حزب الله رغم كونه الحلقة الأصغر، نقل هذا المرض إلى لبنان وحوله إلى دولة فاشلة. ومادخول حزب الله لإنقاذ بشار الأسد بأوامر الولي الفقيه إلا الطعنة التي قضت على كل قمار المقاومة الوطنية، تماما كنا قضى السادات على انتصار العبور بكامب ديفد وانتهت نصر الأخت الكبرى للعرب. أما حكاية مقارعة إسرائيل وانساحبها من الجنوب الذي يستثمره حزب الله فقط لقتل السوريين ودعم بشار الأسد فقد كانت إنجازات حماس أكبر من إنجاز حزب الله. فالحصار على حماس أقوى بألف مرة من الحصار على حزب الله وحيث أن حماس لم تستثمره لقتل الأخرين رغم الإنقسام في السلطة الفلسطينية بين حماس في غزة وفتح في الضفة.