شهد الاقتصاد التونسي منذ الاستقلال إلى غاية الآن تغيرات جذرية خلال الفترات التي مر بها كلما اعتمدت الحكومات المتتالية انتهاج مجموعة من المخططات والاستراتيجيات التنموية طيلة تلك الفترات. فأهم المؤشرات الاقتصادية التي تقارن بين مختلف تلك المراحل تبين مدى نجاعة أو فشل تنفيذ تلك البرامج الإصلاحية والهيكلية لجميع القطاعات الاقتصادية الحيوية. وعلى الرغم من قطع أشواط طويلة على درب الإصلاح والتطوير في شتى المجالات الحيوية للاقتصاد الوطني، إلا أن الأزمات ما زالت متراكمة ومتتالية نتيجة لاتساع ثغرة الهشاشة الهيكلية في صلب المؤسسات الاقتصادية التونسية. ففي البداية تميز الاقتصاد خلال الفترة الممتدة من سنة 1956 إلى غاية سنة 1986 بعدة تقلبات وتغيرات. إذ كان الشغل الشاغل لحكومات تلك الفترة متمثلا في تأميم الشركات والإدارات والتخلص التدريجي من الاستعمار الاقتصادي الفرنسي واسترداد السيادة الوطنية. فانطلقت حملة التأميم وطرد المستعمر وتونسة الاقتصاد بالكامل. كما أن الفترة الممتدة من سنة 1956 إلى غاية سنة 1960 شهدت تأميم جميع القطاعات الاقتصادية وغالبية الأراضي الزراعية. وعلى الرغم من تطبيق العديد من التجارب الاقتصادية خلال تلك الآونة، إلا أنها فشلت كلها فشلا ذريعا وبقيت عمليات الإصلاح مجرد ترقيعات محدودة جدا. بالنتيجة دخل الاقتصاد في أزمة اجتماعية خانقة أواخر سنة 1986 رغم المساعي الترقيعية من أجل الإنقاذ من الهاوية والإفلاس وانتهت تلك المرحلة بإسقاط الحكومة رسميا في أواخر سنة 1987. ولإنقاذ الاقتصاد من تلك الأزمة المتراكمة تكونت سنة 1987 خلية وطنية اقتصادية إصلاحية أسست لحكومة رأسمالية ليبرالية متعاونة مباشرة مع برامج صندوق النقد الدولي. وانتهجت الحكومة مخططات تنموية ليبرالية تعتمد بالأساس على استكمال برنامج تحرير الأسعار والأسواق والانفتاح الاقتصادي على المحيط الإقليمي والدولي. وانطلق البرنامج بتنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عبر تحديد مخطط استراتيجي لبرنامج التأهيل الشامل والإصلاح الهيكلي مقابل الحصول على قروض مالية ضخمة وهبات ومساعدات استثمارية خاصة خلال الفترة الممتدة بين سنة 1987 إلى غاية سنة 1995. فخلال السنوات الأولى من تلك الفترة سجلت تونس ولأول مرة في تاريخها الاقتصادي منذ الاستقلال إلى غاية الآن فائضا في حسابها الجاري بنسبة 2.07 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي. كما بدأ التضخم المالي بالانخفاض التدريجي من 8.22 في المئة سنة 1987 إلى مستوى يتراوح بين 1 و 3 في المئة بين سنة 1995 إلى غاية سنة 2008. فتواصلت بذلك الإصلاحات والتغيرات نحو اقتصاد السوق لتدخل تونس مرحلة جديدة سماتها الانفتاح العالمي رسميا سنة 1995 عبر توقيع جملة من الاتفاقيات الدولية تشمل التبادل التجاري الحر مع دول الاتحاد الأوروبي والتحرر المالي الداخلي والخارجي والاندماج في صلب العولمة الاقتصادية العالمية. إذ حققت تونس آنذاك نجاحات اقتصادية باهرة خاصة خلال الفترة الممتدة من سنة 1995 إلى غاية سنة 2008 والتي عرفت بفترة الازدهار والاستقرار الاقتصادي والأمني والتطوير في البنية التحتية والاندماج في الأسواق العالمية مع تعزيز مكانة الإدارة العصرية في الاقتصاد الوطني والتشجيع على الاستثمار وتحفيز القطاع الخاص.
ملامح التذمر
إلا أنه مع بداية سنة 2008 بدأت تتضح ملامح التذمر والسخط الشعبي من تلك السياسات الاقتصادية الرأسمالية التي انحرفت عن مسارها الإصلاحي وذلك بالمولاة لرجال المال والأعمال بحيث تفاقمت نسبة البطالة لتبلغ 18.33في المئة سنة 2011 بعدما كانت 12.87 في المئة سنة 2005 وزادت نسبة الفساد المالي والمحسوبية في شتى المجالات والقطاعات وانجرفت بالنتيجة الأوضاع نحو العنف والفوضى مما أدت لسقوط النظام من خلال ثورة شعبية ضخمة كانت مع مطلع بداية سنة 2011. كما زاد الجرح تعميقا وزادت تراكمات الاحتقان الاجتماعي لتتضح بذلك بوادر أزمة اقتصادية مجددا نتيجة لتراكم العجز والهشاشة الاقتصادية على مدار السنين الماضية. أما الفترة التي تعرف بما بعد الثورة أو بما يسمى بالربيع العربي وذلك من سنة 2011 إلى غاية سنة 2020 فشهدت بدورها العديد من التقلبات الاقتصادية والأحداث المأسوية. فأبرزها كانت الأحداث الإرهابية والاعتداءات على الأجانب ومقرات التمثيل الدبلوماسي الأجنبي مع تواصل الاحتجاجات والاعتصامات والتمرد الشعبي والتقاعس عن العمل داخل الإدارات الحكومية، ونذكر من بين أهم تلك الأحداث خاصة عمليات الاغتيالات السياسية التي أضرت مباشرة بقطاع السياحة والاستثمارات وتسببت في مرحلة ركود اقتصادي.
تباطؤ الإنتاجية
بالإستناد إلى المؤشرات الاقتصادية للبنك الدولي سجلت الإيرادات من السياحة الدولية أدنى مستوى لها سنة 2016 وتواصل الانخفاض خاصة بين سنة 2019 و 2020 نتيجة لانتشار “فيروس كورونا” والذي أضر مباشرة بشتى القطاعات الاقتصادية الحيوية. أيضا يعاني الاقتصاد الوطني خلال السنوات الأخيرة من نقص وتباطؤ في الإنتاجية العامة وركود حاد وانخفاض مستمر في نسبة النمو الاقتصادي الذي بلغ 1.04 في المئة سنة 2019 بعد ان كانت 3.51 في المئة سنة 2010. كما سجل التضخم المالي نسبة مرتفعة ومهولة 7.3 في المئة سنة 2018 بعد ان كان منخفضا بكثير قبل الثورة وفي حدود نسبة 3.33 في المئة سنة 2010. أما معدل البطالة فبقيت مستقرة في حدود نسبة 15 في المئة طيلة تلك الفترة نظرا لعدم توفر الامكانيات المادية لتحقيق القفزة النوعية نحو تقوية الاقتصاد وجلب المزيد من الاستثمارات الأجنبية بحيث سجل صافي الاستثمار الأجنبي من ميزان المدفوعات بالدولار الأمريكي عجزا متواصلا ورقما سلبيا طيلة فترة ما بعد الثورة، وكذلك خدمة الدين على الدين الخارجي سجلت ارتفاعا ملحوظا مما تسبب في تراكم العجز في الميزانية بحيث بلغ ميزان الحساب الجاري 11.17 في المئة سلبا من الناتج المحلي الاجمالي سنة 2018 وتفاقمت معها المديونية العامة. وانهارت عملة الدينار التونسي مقابل سلة العملات الأجنبية وتدهور التصنيف السيادي للاقتصاد من قبل الوكالات العالمية للتصنيف الائتماني.
إجمالا لم تجد الحكومات المتتالية توازنها السياسي والاقتصادي، ما جعل الأوضاع الاجتماعية على حالها وأحيانا متدهورة في بعض الجهات مع احتقان شعبي مستمر في المدن الداخلية أدى إلى فوضى وتعطيل إنتاج مصادر الطاقة خاصة في منجم فوسفات قفصة وإنتاج الغاز والنفط، وبقيت الأوضاع الاقتصادية تتجه إلى الأسوأ وهي على حافة الهاوية مع أواخر سنة 2020 نظر للأزمة الصحية التي تمر بها البلاد بسبب فيروس كورونا وتضرر القطاع السياحي والصناعي وتباطؤ الإنتاج وخاصة المبادلات التجارية والمعاملات المالية. فالنظرة الاستشرافية لا تبشر بالخير في ظل ما يسجله الاقتصاد الوطني حاليا من أرقام منخفضة، فهي إجمالا تنذر بأزمة ديون سيادية ومالية إذا برزت موجة ثالثة من فيروس كورونا أو التباطؤ في توزيع اللقاح المكتشف. إجمالا الوضع الاقتصادي متجه نحو الأزمة خاصة وأن النمو الاقتصادي في انخفاض ملحوظ ولا يحقق دوره في خلق وظائف جديدة تحسن من الأوضاع الاجتماعية، ما زاد في الطين بلة وتراكم عدم الاستقرار الاجتماعي. وما زال العجز المالي متراكما، ما سيتسبب خلال سنة 2021 في فقدان الثقة الإجمالية وهي تعد السبب الرئيسي لبوادر بروز الأزمات الاجتماعية نتيجة للهشاشة الهيكلية.