2020 عام كورونا والتطبيع والتباعد الاجتماعي

لم يكتب الروائيون بعد عن عام كورونا، مثلما كتبوا عن زمن الكوليرا. ولم يكتب علماء الإجتماع بعد عما تركه عام كورونا من تغيرات على سلوك الأفراد والجماعات. ولم يكتب علماء النفس بعد عن الجروح النفسية التي تعرض لها الأطفال بسبب ابتعادهم عن الدراسة في الفصول المدرسية. ربما كتب بعض الاجتماعيين ملاحظات عن العنف المنزلي، وسجلت الإحصاءات زيادة حادة في وقائع الانفصال الزوجي والطلاق، لكن دراسة الظواهر الاجتماعية المحيطة بفيروس كورونا لم تكتمل بعد في كلياتها وأبعادها الكاملة.
ومع تقدم البشرية بخطوات مؤكدة نحو مواجهة فيروس كورونا باستخدام اللقاحات والأمصال والأدوية، فإن العلماء سيجدون بعد ذلك الوقت الكافي لدراسة الآثار الكاملة للوباء، الذي أصاب حتى الآن ما يقرب من 75 مليون شخص، حسب أقل التقديرات، وأودى بحياة ما يقرب من مليونين، وتفاقم خلال أقل من عام ليرتفع معدل الإصابات اليومية من آلاف قليلة في الربع الأول من عام 2020 إلى أكثر من 700 ألف شخص يوميا في الأسابيع الأخيرة من ديسمبر، بينما ارتفعت الوفيات من بضع عشرات في الربع الأول من العام إلى ما يقرب من 15 ألف شخص يوميا، يدفنون ومعهم الفيروس بدون علاج، أو بعد فشل محاولات العلاج والمقاومة. ومن المفارقات الحزينة أن لقاحات كورونا ستكون في متناول القادرين قبل المحتاجين، وهو ما يمثل وصمة عار في جبين العصر الذي نعيشه.
في الشرق الأوسط سادت حالة من الانقسام الحاد في توزيع الإصابات والوفيات، وارتفع نصيب كل من تركيا وإيران إلى ما يقرب من نصف عدد الإصابات والوفيات في المنطقة ككل، بما فيها دول عربية وغير عربية (تركيا، إيران، إسرائيل). وكان من الملاحظ عموما انخفاض أعداد الوفيات والمصابين في الدول العربية إلى نصف مجموع الإصابات والوفيات في الإقليم ككل. ففي نهاية الأسبوع الثاني من ديسمبر الحالي، يقدر العدد الكلي للمصابين في كل من تركيا وإيران وإسرائيل بحوالي 3.5 مليون شخص مقابل 3.5 مليون تقريبا في كل الدول العربية، التي جاء على رأسها العراق بعدد مصابين كلي يبلغ 600 ألف شخص تقريبا، يليه المغرب والسعودية والأردن والإمارات. وعلى صعيد الوفيات بسبب كورونا نلاحظ انخفاض نسبة الوفيات المعلنة في الدول العربية، مقارنة بالنسب العالمية، فبينما تبلغ نسبة الوفيات للمصابين على المستوى العالمي حوالي 2.3%، فإنها تنخفض في الدول العربية إلى 1.4% فقط. وقد بلغ العدد الكلى المعلن رسميا للوفيات بسبب كورونا في الدول العربية حوالي 45 ألف حالة وفاة، وهو ما يمثل 2.8% فقط من عدد المتوفين بالفيروس على مستوى العالم، رغم أن عدد المصابين بالفيروس عربيا يرتفع لأكثر من 5% من العدد الكلي المعلن للمصابين عالميا. ومع ذلك فإن الثقة في الأرقام المعلنة عربيا محدودة جدا، لأسباب فنية وإحصائية؛ فعلى الصعيد الفني تتحدد الحالات، حسب معايير منظمة الصحة العالمية، على أسس التتبع والمسح، وهو ما لا يجري الالتزام به عربيا، باستثناءات محدودة، لارتفاع تكلفة إجراء المسحات الطبية واحتياجاتها المعملية والكيميائية. ونظرا للشكوك المحيطة بكفاءة أجهزة الإحصاء في الدول العربية بشكل عام، ورداءة مستوى الإحصاءات في القطاع الصحي، فإن المعلومات الرسمية المعلنة بشأن الإصابات والوفيات وغيرها تعاني من انعدام المصداقية. ومن المعروف أن أجهزة اتخاذ القرار في مؤسسات السفر والسياحة والتنقلات، اعتمدت على معايير دقيقة لتحديد حالات الإصابة والوفيات، ومدى انتشار الفيروس، ومدى قدرة كل دولة على التحكم فيه. وبناء على هذه المعايير تم اختيار الدول ذات المصداقية الإحصائية، التي أظهرت مستويات منخفضة للإصابات والوفيات، ضمن دول المسارات «الخضراء» أو «الآمنة» لتسيير رحلات للطيران وفتح الطرق للتنقل بأقل قدر ممكن من الرقابة. وكان من نتيجة تطبيق هذه المعايير خروج دول عربية تعتمد اعتمادا كبيرا على السياحة مثل، مصر وتونس والأردن، من قائمة الدول «الآمنة» أو «المسارات الخضراء» وهو ما ترك أثرا سلبيا ثقيلا في حركة السياحة، رغم الأرقام الوردية الرسمية التي تعلنها أجهزة الإحصاءات المختصة، حيث لا مصداقية لهذه الإحصاءات في العالم.

عام التطبيع بامتياز

بعد أن وقعت إسرائيل أول اتفاقية رسمية لإقامة علاقات مع دولة عربية بمقتضى إتفاقية السلام مع مصر، فإنها انتظرت لما يقرب من 17 عاما لكي توقع الاتفاقية الثانية مع الأردن. وبعد ذلك انتظرت إسرائيل ما يقرب من 25 عاما لكي تفوز مرة واحدة بتوقيع أربع اتفاقيات لإقامة علاقات رسمية مع دول عربية خلال أربعة أشهر فقط، بين سبتمبر وديسمبر 2020 وهو العام الذي يعد عام انتصار دبلوماسية إسرائيل في الشرق الأوسط بالتعاون مع البيت الأبيض والدول الخليجية المعادية لإيران في المنطقة. إن عام 2020 هو بحق «عام التطبيع» ليس فقط بسبب عدد اتفاقات إقامة العلاقات الرسمية، ولكن أيضا لأن الموجة الجديدة من التطبيع تأتي مصحوبة بتنسيق إقليمي وعالمي غير مسبوق، تلعب فيه الولايات المتحدة على المستوى الدولي، والمملكة السعودية على المستوى الإقليمي، إضافة إلى الإمارات أدوارا حاسمة، في تحويل دفة الأحداث ودفعها في اتجاه إقامة تحالف أمني بين عدد من الدول الخليجية وإسرائيل. وقد ارتبط دور السعودية والإمارات بتقديم المال والوعود بالمساعدات الاقتصادية، لدول مثل السودان والبحرين والمغرب، كما ارتبط دور الولايات المتحدة بتقديم مساعدات عسكرية متقدمة للدول الأعضاء في التحالف الإسرائيلي المعادي لإيران، مثل الإمارات والبحرين، كما قدمت السعودية تسهيلات لوجيستية لتوسيع نطاق التعاون المتبادل بين هذه الدول وإسرائيل. وقد أصبحت إسرائيل الآن في وضع دبلوماسي إقليميا أرقى كثيرا مما كان عليه منذ انقلاب كفة العلاقات في المنطقة من «الحرب» إلى «السلام». وفي حقيقة الأمر فإن نفوذ الدبلوماسية الإسرائيلية في المنطقة وفي افريقيا، خصوصا في دول القرن الافريقي الكبير الممتد من مضيق باب المندب إلى حوض شرق المتوسط في ليبيا، يتجاوز كل حدود العلاقات الدبلوماسية الرسمية، بدعم من كل من السعودية (التي لم تعلن بعد إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل) والإمارات التي تساند الدبلوماسية الإسرائيلية على المستوى الإقليمي، وكانت وما تزال تلعب دورا بارزا في تطوير اتفاق العلاقات بين إسرائيل والسودان. وقد لا ينقضي العام بدون أن تخرج للنور اتفاقات جديدة للتطبيع مع إسرائيل بدعم أمريكي – سعودي – إماراتي.

قطاعات شعبية في العالم العربي لا ترفض فكرة «التعايش العربي – الإسرائيلي» لكنها ترفض التعايش بقوة القهر وعلى أسس الهيمنة

والى جانب الزخم الإقليمي الذي تتميز به موجة التطبيع الاخيرة، فإنها تكتسب أهمية كبيرة من حيث مشاركة القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية الرياضية والاجتماعية في عملية التطبيع على أوسع نطاق ممكن. وقد وصل الأمر إلى ترتيب زيارات متبادلة بين أسر إسرائيلية وأخرى من الإمارات، احتفالا بالزواج الجديد بين البلدين. ومع ذلك فإن موجة التطبيع الجديدة تواجه في الوقت نفسه ثلاث عقبات كبرى على المستويين الإقليمي والشعبي؛ فعلى المستوى الإقليمي، لن يشارك عدد من الدول العربية في تحالف عسكري وأمني مع إسرائيل ضد إيران. ومن هذه الدول مصر وسلطنة عمان وقطر، رغم العلاقات الوثيقة بين هذه الدول وإسرائيل. ويعود ذلك إلى رغبة تلك الأطراف في تشجيع إقامة سلام إقليمي يقوم على أسس حسن الجوار والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. ومن المستبعد مثلا ان تنضم سلطنة عمان إلى حلف إقليمي موجه ضد إحدى دول المنطقة، رغم علاقاتها الوثيقة مع إسرائيل. العقبة الثانية هي أن عددا من الدول العربية ومنها مصر والأردن والعراق، ماتزال تتبنى استراتيجية سياسية تجاه القضية الفلسطينية تقوم على أساس حل الدولتين، ولن تقبل بتسليم كل أوراقها التفاوضية إلى إسرائيل، مقابل لا شيء. ومن المتوقع أن تحاول مصر قيادة مجهود إقليمي جاد من أجل موازنة الضغوط الراهنة التي تتعرض لها القيادة الفلسطينية. ومع ذلك فإن قدرة هذه الدول، ومعها الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا من خارج المنطقة، على ممارسة ضغوط ناجحة سوف يتوقف على موقف القيادة الفلسطينية، التي يجب أن تعيد رؤية الأمور على ضوء التطورات الحالية، والمعطيات الحقيقية على الأرض. الفلسطينيون في حقيقة الأمر أصبحوا في حاجة إلى نظرة جديدة للعالم، تشارك فيها قيادات فلسطينيي الداخل، والسلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة، وحماس في غزة، إضافة إلى مؤسسات العمل الاهلي الفلسطيني، ومن أهمها الصندوق القومي الفلسطيني، لبلورة استراتيجية واضحة طويلة الأمد، تتجاوز كل الشعارات العقيمة التي لا يكف كثيرون عن مجرد ترديدها، رغم افتقادها للصلة السياسية مع الواقع. أما العقبة الثالثة فإنها تتمثل في الوجدان الشعبي العربي الرافض للتطبيع، على أنقاض حقوق الشعب الفلسطيني، وتأسيسا على مبدأ الهيمنة الإسرائيلية. ورغم أن قطاعات شعبية واسعة في العالم العربي لا ترفض فكرة «التعايش العربي – الإسرائيلي» إلا إنها ترفض إقامة التعايش بقوة القهر وعلى أسس الهيمنة.

التباعد الاجتماعي

بعد انحسار وباء كورونا، وبافتراض نجاح استخدام اللقاحات التي تم تطويرها في زمن قياسي في مختبرات دول أهمها الصين وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة، فإن العلاقات بين الناس لن تعود إلى ما كانت عليه عام 2019. لقد بدأ انحسار عصر كان فيه الاختلاط الاجتماعي الحر هو القاعدة، وكانت التجمعات هي الوسيلة الرئيسية للاحتفال. في العام المقبل سنرى هل ستنتصر تقاليد العمل من المنزل على العمل التقليدي من المكتب؟ وهل ستكون الدراسة حصريا في الفصول الدراسية؟ أم أن الدراسة عبر شبكة المعلومات الدولية ستزاحمها؟ وسنرى كذلك هل سيقل الإقبال على الصلوات الجامعة في المساجد والكنائس والمعابد، أم أنها ستعود إلى ما كانت عليه. ولا شك أن حاجة الأطفال على وجه التحديد إلى اللعب والتسلية والتجمع داخل أطر اجتماعية منظمة، سيدفع علماء التربية والاجتماع إلى ابتكار الأنساق الكفيلة بتحقيق ذلك، وتلبية احتياجات الأطفال بدون الإضرار بالكبار. التباعد الاجتماعي أدى عمليا خلال أشهر قليلة إلى نشوء أشكال وأنساق جديدة من الاستمتاع بالعمل وأوقات الفراغ، مغايرة للأشكال والأنساق السابقة التي نشأت واستقرت خلال أجيال، وكانت جزءا لا يتجزأ من السلوك المعتاد غير القابل لإعادة النظر من جانب الأفراد والجماعات. وربما نجد أنفسنا ونحن في نهاية عام كورونا، وبينما الوباء ينحسر، أن كثيرا من عاداتنا وتقاليدنا القديمة تنحسر معه أيضا. إن عام 2020 هو عام التباعد الاجتماعي، الذي قد يستمر، أو قد يدفع إلى تغييرات كبيرة مبتكرة في أنماط العمل وأوقات الفراغ. ومايزال أمامنا الكثير من الوقت لكي نتعلم من هذا العام الذي هو على وشك أن يغادرنا، لكن ذكرياته ستبقى معنا لأجيال وأجيال، فنحن لم نتعلم منه ما يكفي بعد.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية